ثمة اختلاف كبير بين التعالي على الإدراك والتناقض المنطقي، فالقضية المنطقية تستمد حتميتها بشكل ذاتي وليس بعامل خارجي، مما يجعلها متعالية على الزمان والمكان، فقضية الجزء أصغر من الكل، هي قضية حتمية سواء على الارض أو في المريخ أو في البرزخ أو يوم القيامة.
فيما تستمد قضايا الغيب المتعالية عن الادراك تعاليها من كون الانسان ـ في هذا النوع من القضايا ـ فاقد للمعلومات الاولية المسوغة للإدراك. لكون الإدراك هو عملية انتقال من معلوم الى مجهول، فمثلا لو أراد جاهل بمفهوم الحليب إدراك هذا المفهوم، سيقال له سائل ابيض، حينها سيتم إدراكه عن طريق ربط مفهومي السائل والابيض المعلومين لديه ليصل من خلال ذلك الى العلم بمفهوم الحليب، ولما كانت قضايا الغيب المفصولة عن الوعي الانساني لاتسعف الإنسان فيها أية معلومة مسبقة، كانت قضاياه متعالية. أو كما بينّا في الشكل المرفق في مقال تعريف مقترح للدين، كيف أن الانسان محصور في دائرته المادية الواقعة ضمن مجال أوسع تقع فيه مفردات الغيب.
وعلى هذا فإن تعالي القضية الغيبية على الإدراك شيء والتناقض المنطقي شيء آخر، أو أن تعالي قضايا الغيب عن الادراك لايعني جواز التناقض المنطقي عليها.
مثال:
مفهوم الصراط الذي يعبر عليه الناس في الحساب يوم القيامة:
إن كل مايتعلق بهذا المفهوم هو أنه من عالم محجوب عن الانسان ولو قيّض له الاطلاع على ذلك العالم سيصبح هذا المفهوم واضحا وجليا ولن يرفضه العقل، تماما كالإنسان الذي عاش قبل الف عام حين يُحدّث عن جهاز كالتلفاز. وهذا يختلف تماما عما في الوثنية من تناقض منطقي بيّن حين يصنع الانسان الصنم بيديه ثم يؤمن بقدرته على تدبير شؤونه والتحكم بمقادير الكون.
إن هذا الفارق ـ بين التعالي على الادراك والتناقض المنطقي ـ ينطوي على أمرين في غاية الاهمية بالنسبة للوجود الديني، وهما:
الاول: الخلط بين التعالي والتناقض، هو مادفع الاتجاه المضاد للدين الى وصف قضايا الغيب بالخرافة والاسطورة، والحال أن الخرافة توجِد الاشياء بشكل خيالي مقطوع الصلة عن الاسباب والمسوغات، فالمارد الذي يخرج من الفانوس لايمكن أن يكون واقعا وذلك لانعدام الاسباب التي لابد من توفرها كيما يوجد الشيء واقعيا. وهذا يختلف بشدة عما هي عليه قضايا الغيب كما بيّنت للتو.
أضف الى ذلك، فإن مفهوم واجب الوجود الذي يعد الشكل المنطقي لفكرة الله الخالق يحتم مطلقية الله، وهذه المطلقية تسوغ ـ منطقيا ـ فكرة الإيجاد بلا مسبب، حيث أن هذه الاسباب ـ سيما الفيزياوية ـ هي من إيجاد الله، فالله قد جعل نمطا من مخلوقاته متوقفا على الاسباب. يقول الامام علي ع في دعاء الصباح ( من غير أن تمارس فيما ابتدأت به لغوبا ولاعلاجا)، وبشكل أوضح فإن واجب الوجود الذي هو العلة التي تنتهي اليها سلسلة العلل، هو من أوجد هذه السلسلة وبالتالي فهو قادر على نفيها ليكون هو العلة المباشرة.
بمعنى، أن المفاهيم الغيبية الصادرة من واجب الوجود، تستمد منطقيتها من منطقية الواجب المطلق، على عكس الخرافة التي لاتستند إلا على خيال الموجِد.
الثاني: الجهات الطغيانية المستغلة للدين قد عكفت، طوال قرون، على تكريس الخلط بين الأمرين وتركيزه في ذهن اتباعه، منشأةً بذلك قاعدة دوغمائية صلبة تضمن الطاعة العمياء من الناس باسم الدين، ليسهل حينها تمرير كل ماتريده من أوامر ونواهٍ تصب في مصلحتها.
وتعود بنا هذه النقطة مرة أخرى الى ضرورة التفريق بين الدين المنحرف والدين الحق الصادر من واجب الوجود الذي بذل قرآنه الكريم جهدا جبارا في الحث على استخدام العقل والتعقل في قبول المعتقدات ورفضها، حتى لقد كانت القضية الأم في صراع الدعوة الاسلامية بقيادة النبي الاكرم صلى الله عليه واله مع الخط الجاهلي، هي الرفض المطلق للمبدأ الذي يعتمده الجاهليون وهو ( هذا ماوجدنا عليه آباءنا ) وإحلال العقل والتعقل محله.