هل «اعتزال الناس» نافع لـ «سلامة الدين»؟!

ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: سلامة الدين في اعتزال الناس.. من هي الفئة المقصودة من "الناس"؟ وفي حال كانت تشمل شريحة واسعة.. ألا تؤثر هذه "العزلة" على الفرد نفسه والمجتمع أيضا؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

بنفس المقدار الذي اهتم فيه الإسلام بصلاح المجتمع اهتم أيضاً بصلاح الفرد، حيث شجع الإسلام على التفاعل الإيجابي بين الفرد المؤمن وبين المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.

ولذا أمر المؤمنين بالتعاون والتكافل وإصلاح ذات بينهم وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، كما أمر بأداء بعض الأحكام الشرعية بصورة جماعية مثل الحج وصلاة الجمعة والأعياد، فالمجتمع في نظر الإسلام هو الإطار الذي تتكامل فيه طاقات الأمة وتتفاعل في ما بينها في حركة مستمرة نحو الأهداف والغايات السامية، فالمجتمعات إما أن تكون كالماء الجاري الذي يكون سبباً في طاهرة النجاسات التي تلاقيه، وإما أن تكون كالماء الراكد والآسن الذي ينجس كل شيء طاهر إذا وقع فيه، فالمجتمع الصالح هو الذي يوفر للفرد البيئة المناسبة لتكامله الروحي والمادي، بعكس المجتمع الفاسد الذي يعمل على تدمير الطاقات الإيجابية للفرد، وهذه الحقيقة واضحة بالوجدان وملاحظة بتجاربنا العملية، فكل ما كان المجتمع صالحاً كلما دفع أفراده للصلاح، وكلما كان المجتمع فاسداً كلما دفع أفراده للفساد.

ومن هنا ليس هناك تعارض إذا شجع الإسلام على العزلة تارة وعلى التفاعل الاجتماعي تارة أخرى؛ وذلك لأنه يراعي في الأساس جانب الصلاح والفساد المترتب على كلا الحالتين، فإن كان حضور الفرد في المجتمع فيه صلاحه وصلاح المجتمع شجع على ذلك وإلا فضل له العزلة، قال تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)، وقال تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا)، فقد بينت هذه الآيات بعض الحالات التي يجب فيها على المؤمن اعتزال المجتمع، وحتى لا يكون المؤمن محصور بين خيارين وهما الذوبان في المجتمع أو الانعزال التام، عمل الإسلام على إيجاد موازنة بين الأمرين، فمن ناحية حرم الرهبانية فقال لا رهبانية في الإسلام، أو رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، ومن ناحية أخرى أجاز له اعتزال المجتمع والابتعاد عنه في بعض الحالات، وإذا رجعنا للروايات في هذا الشأن يمكننا فهم الإطار العام الذي تكون فيه العزلة مفيدة، ففي بعض الأحيان يكون الامر بالعزلة هو الطريق لتحصين دين الفرد من الضياع، وفي بعض الأحيان تكون هناك فوائد ومكاسب لا يمكن للفرد تحقيقها إلا بالعزلة.

فمن القسم الأول والذي فيه يحافظ الإنسان على دينه من الضياع بالاعتزال، قول الأمام علي (عليه السلام): (في اعتزال أبناء الدنيا جماع الصلاح). وعنه أيضاً (عليه السلام): (من اعتزل سلم ورعه)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل، فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب، ولا تكذب، ولا تحسد، ولا ترائي، ولا تتصنع، ولا تداهن) ومن ذلك قول الأمام علي (عليه السلام): (سلامة الدين في اعتزال الناس) وهو مورد سؤال السائل.

أما روايات القسم الثاني التي تعدد فوائد العزلة، فبعضها يشير إلى ما تحققه العزلة للإنسان من تفرغ للعبادة، وصفاء لمناجاة الله تعالى، وهدوء للتفكر في خلق الله وعظمته، من ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (العزلة عبادة). وقول الأمام علي (عليه السلام): (الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس)، وعنه (عليه السلام): (الانفراد راحة المتعبدين)، وعنه (عليه السلام): (من انفرد عن الناس أنس بالله سبحانه)، وعنه (عليه السلام): (في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح)

وأشارت روايات أخرى على دور العزلة في تقوية العقل، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن حكم: (الصبر على الوحدة علامة على قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزه من غير عشيرة)، وفي الرواية كان لقمان (عليه السلام) يطيل الجلوس وحده، وكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان! إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة.

ويمكن مراجعة هذه الروايات في ميزان الحكمة ج3 ص 1964.