«حمية» لمعالجة الانحراف؟!

للأطباء منهجان في معالجة المرض: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي.

فيقولون للمريض في المنهج الإيجابي: احتقن بهذه الإبرة. استعمل هذا الكبسول، اشرب من هذا الشراب ملعقة واحدة كل ثلاث ساعات.

أما في الجانب السلبي فيقولون للمريض: لا تأكل العنب، لا تشرب الخل. لا تستعمل الأكلات الدسمة، وهكذا.

والمنهج الديني يشابه المنهج الطبي تماما، فيقول للمسلم من جهة: أقم الصلاة، أد الزكاة، ليكن كسبك حلالا، تزوج... إلخ ويقول له من جهة أخرى: لا تكذب، لا تفحش، لا تغتب... فالجانب الايجابي في الدين يسمى بالواجبات، بينما يطلق اسم المحرمات على الجانب السلبي.

وإذا ألقينا نظرة فاحصة على المنهج الطبي، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى، وترك القيام ببعض الأمور (الحمية) مهما إلى درجة أن المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الايجابية لا تنفعه أصلا.

إن أحسن عملية جراحية يقوم بها طبيب حاذق يمكن أن تصطدم بمشكلات جمة - وقد تكون فاقدة للأثر - إذا تهاون المريض في العمل بتوصيات الطبيب، فقام ببعض الحركات الزائدة أو لم يتحفظ على الجرح من التلوث بالميكروبات مثلا.

وحتى في الأمراض التي تنشأ من انحراف المزاج، نجد أن عدم اعتناء المريض بما يجب أن يجتنب عنه، يذهب بأثر معالجات طبيب حاذق وأما في بعض الأحيان، حيث لا يتمكن المريض من الوصول إلى الطبيب فإنه إذا احتمى ولم يحمل مزاجه فوق طاقته، نجد المناعة الذاتية قادرة على أن تنجي المريض من الانحراف وأن ترجعه إلى وضعه الاعتيادي.

وهناك حالات ينحصر العلاج فيها بالحمية فقط. يقول الإمام موسى بن جعفر (ع): «الحمية رأس الدواء».

 نستنتج مما تقدم: أن السلامة منوطة بالمواظبة على توصيات الطبيب - الايجابية منها والسلبية - ولكن النظرة الثاقبة ترينا أن أثر الجانب السلبي في العلاج أقوى من أثر الجانب الايجابي.

وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الاسلامية نسجها في تحقيق السعادة المعنوية. فالإنسان السعيد هو الذي يطبق التعاليم الايجابية والسلبية... يأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات، ومع ذلك فان كفة الابتعاد عن الذنوب (الجانب السلبي) ترجح في ميزان السعادة البشرية على كفة الاتيان بالواجبات (الجانب الايجابي).

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام، تعرف (التقوى) أعظم رصيد للسعادة، وترى أن الغاية العظمى من القرآن وتعاليمه هي تربية الناس على التقوى، فالتقوى بمعنى اجتناب المعاصي والابتعاد عنها، و (المتقي) هو المجتنب عن المعاصي.

فليس صيام رمضان، مثلا، - وهو من أهم الفرائض الاسلامية - إلا مظهرا من مظاهر الاجتناب عن المفطرات بنية التقرب إلى الله تعالى، ولقد أوجب الله الصيام على الأمم السالفة، وعلى الأمة الاسلامية كي يتمرن الناس في هذا الشهر على الحصول على ملكة التقوى. «... كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون».

 وبهذا الصدد نورد بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام:

عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «فيما ناجى الله عز وجل به موسى، ما تقرب إلي المتقربون بمثل الورع عن محارمي...».

فلا يوجد عامل يقرب المتطهرين إلى الله مثل الاجتناب عن المعاصي.

وعن علي (ع): «اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات».

وعن الإمام علي بن الحسين (ع): «من اجتنب ما حرم الله عليه، فهو من أعبد الناس».

عن النبي صلى الله عليه وآله: «لرد المؤمن حراما يعدل عند الله سبعين حجة مبرورة».

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «غض الطرف عن محارم الله أفضل عبادة».

ولقد سبق أن نقلنا جواب النبي (ص) على سؤال علي (ع) حين سأله عن أفضل الأعمال في شهر رمضان فقال: الورع عن محارم الله».

ـــــــــــــــــــــــ

  • مقتطف من كتاب الطفل بين الوراثة والتربية (ج1) «الشيخ محمد تقي فلسفي»