مرض العصر.. كيف أتخلّص من القلق؟

من الأمراض الاجتماعية الشائعة التي تزداد انتشارا مع تقدم الزمان وتطور التكنولوجيا هو القلق والاضطراب أو ضيق الصدر وضعف الأعصاب كما يعبر عنه العرف.

هذا ونحن نعيش في عصر تتنامى فيه وسائل اليسر والراحة، وتتحول البيوت المتواضعة إلى بيوت فارهة والدواب إلى سيارات فاخرة ويقضي معظم الناس صيفيات رائعة ولا بأس بذلك فقد بينت الروايات: أن من سعادة المرء توسيع بيته. وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِناً فِي سَرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ اَلدُّنْيَا)[١].

والاضطراب والقلق؛ يتجلى تارة في المنام وتارة في اليقظة. ففي المنام: لا يمكن للمرء أن ينام بصورة مريحة، فتأتيه الكوابيس والرؤيا المزعجة أو لا يشبع من النوم لكثرة القلق والاضطراب. وأما في اليقظة فحدث ولا حرج؛ ضيق في المزاج وتكدر لكل صغيرة وكبيرة، وارتفاع في الضغط والسكر وما شابه ذلك.

قلق النبي (صلى الله عليه وآله)

وقد يكون للقلق مبررات منطقية كالقلق الرسالي. فالنبي (ص) كان يعيش حالات من الضيق والقلق وقد عاتبه القرآن مرات عديدة عتابا لطيفا منها قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[٢]، وقوله سبحانه: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[٣] أو قوله عز وجل: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)[٤]، ولكن قلق النبي (ص) كان من باب الرأفة والشفقة فقد قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[٥].

القلق الفكري

قد يعيش الإنسان القلق فكري والعقائدي أحيانا وهو قلق يعتري الإنسان في مجال الفكر وبإمكانه أن يراجع العلماء أو يطالع الكتب ليتخلص من هذا القلق والوسواس. ولذلك ورد في النصوص الشريفة: (جَالِسِ اَلْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ)[٦]؛ كناية عن القرب منهم. وينبغي أن يحرص المؤمن على تعلم المسائل العقائدية التي لا تقليد فيها وإنما عليه البحث والاجتهاد والفهم وإنما التقليد يكون في فروع الدين من الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الفروع. ثم إذا راجع العلماء والكتب واستعرض الأدلة والبراهين الواضحة ولم يزل عنه القلق فليعلم أنه يعيش الوسواس الفكري وهو مرض ينبغي علاجه.

الخواطر السلبية

من مناشئ القلق الخواطر والأفكار التي تشوش ذهن الإنسان. فترى المرء جالسا في حديقته مسترخيا وأمامه بعض أدوات التسلية وإذا بالخواطر السيئة تهجم عليه؛ من حدث وقع في الماضي بينه وبين أحد إخوته المؤمنين أو بينه وبين زوجته، أو تفكير في أمر مستقبلي؛ كالتفكير في مصدر الرزق وفي إقامته أو سفره أو حياته أو مرضه أو موته أو ما شابه ذلك.

وعادة ما ينغص على الإنسان عيشه يأتيه من داخله لا من الخارج. ولذلك فإن للمؤمن جهاز مراقبة شديدة ولا يرى لنفسه حقا في التفاعل مع كل فكرة سلبية مشوشة. فقد تكون قضية وهمية لا واقع لها أو أنها قد أعطيت أكبر من حجمها أو أنها قضية قد انتهت من خلاف مع أحدهم أو سوء تفاهم بينه وبين أخ له؛ فينبغي أن يلقي هذه الملفات في أعماق البحار لا أن يبقي عشرات الملفات في ذهنه مفتحة. وقد تعاتب أحدهم لتذكره أحداثا قديمة؛ فيقول لك:

جراحات السنان لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

وهو يسعى لتبرير موقفه ببيت من الشعر، والحال أن المؤمن المتأسي بربه يكون سريع الرضا، ويلتزم بما جاء في كتاب ربه من قوله: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[٧]. وتشتد هجوم الخواطر السيئة عند النوم وعند الصلاة. وهما وقتان يحتاج فيهما الإنسان إلى راحة وهدوء بال. وقد يتوجه الرجل إلى المسجد لركعتين يقيمها في هدوء بال واطمئنان، وبمجرد أن يقول: الله أكبر، يحاط بأمواج الهواجس والخيالات. وقد بينت رواية نبوية هذه الحالة، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (أَنَّ اَلْعَبْدَ إِذَا اِشْتَغَلَ بِالصَّلاَةِ جَاءَهُ اَلشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا حَتَّى يُضِلَّ اَلرَّجُلَ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى)[٨]. فينبغي صرف هذه الأفكار والخواطر قبل التفاعل معها فيصبح من الصعب عندها التخلص منها.

سوء التصرف مع الآخرين

ومن مناشئ القلق؛ سوء التصرف مع الآخرين. فالذي لا يعرف كيف يتعامل مع زوجته عليه أن يتحمل تبعات ذلك. وهناك الكثير من المشاكل تنشأ بين الزوجين لجهلهما بأساليب التعامل الناجعة. ولا الرجل يتحمل المرأة ولا المرأة مستعدة لتحمل الرجل والغض عن أخطائه. فبمجرد ارتكاب خطأ صغير من أحد الطرفين؛ يتعكر صفو الحياة الزوجية بينهما وتعلو أصواتهما بالصياح والصراخ؛ والحال أن بإمكانهما التعالي عن هذه السفاسف من الأمور. هل المرء مكلف بأن يتفاعل مع كل صغيرة وكبيرة تحدث في منزله من مأكل وملبس وخروج من المنزل وما شابه ذلك من صغار الأمور؟ لقد ورد عن الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَعَالِيَ اَلْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)[٩].

وهكذا هو المؤمن يدفع بالتي هي أحسن ويغضي عن السيئات؛ فقد روي عن الإمام زين العابدين أنه قال: (إِصْلاَحُ شَأْنِ اَلْمَعَاشِ مِلْءَ مِكْيَالٍ ثُلُثَاهُ فِطْنَةٌ وَثُلُثُهُ تَغَافُلٌ)[١٠]. والتغافل أن تجعل نفسك كأن لم تر ولم تسمع. وقد أكد أهل البيت (ع) على حسن التعامل حتى مع الأعداء، فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إِذَا لَقِيتُمْ إِخْوَانَكُمْ فَتَصَافَحُوا وَأَظْهِرُوا لَهُمُ اَلْبَشَاشَةَ وَاَلْبِشْرَ…صَافِحْ عَدُوَّكَ وإِنْ كَرِهَ فَإِنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ)[١١]. فلماذا يشغل الإنسان ذهنه وفكره بعدو يمكنه تجنب عداوته بهذه المصافحة؟

من القواعد التي إذا راعاها المؤمن في تعامله مع الآخرين ضمن لنفسه سلامة الفكر والخاطر؛ الحمل على الأحسن. إن الإسلام جاء بضوابط تضبط العلاقات الاجتماعية. فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ)[١٢]. وقد ذكر بعض الفقهاء: أنك لو شممت رائحة الخمر من فم أخيك المؤمن فقل: لعله شرب دواء تشبه رائحته رائحة الخمر – فبعض الأدوية فيها نسبة من الكحول – أو تمضمض في الخمر لعلة ما ومجه. أو تسلم على أحد فيجيبك ببرود وتباطئ ولعله لا يجيب إطلاقا. فقل: لعله مشغول شارد الذهن قد وقع في أزمة ذهلته، وفي كثير الأحيان عندما نعاتب أحد هؤلاء، يقسم بالأيمان المغلظة أنه ما سمع السلام. فلا داعي إذن لسوء الظن وكما يقول سبحانه: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[١٣]، وقد قال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[١٤].

وفي كثير من الأحيان يعيش البعض من المؤمنين أزمات داخلية كثيرة ولذلك قد يتكلم معك أحدهم بنبرة حادة؛ فتظن أنه يحتقرك أو متحامل عليك، ولو فتشت قلبه لرأيت المصائب فأعذرته.

الإحسان إلى المسيء

ومن القواعد المهمة لإصلاح العلاقات الاجتماعية؛ الإحسان إلى المسيء. وقد ذكرنا أن من مناشئ القلب؛ اضطراب العلاقات الاجتماعية. يقول سبحانه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)[١٥]. وهذه من صفات المؤمن التي ذكرتها الروايات الكثيرة: أن المؤمن يحسن إلى من أساء إليه ويصل من قطعه ويعطي من حرمه. خصوصا إذا كان المسيء من الموالين المحبين لأهل البيت (ع) ولكنه قد بدرت من بادرة؛ فيسارع المؤمن إلى العفو والتجاوز.

موقف أهل البيت (ع) تجاه المسيئين

لقد كان الإمام السجاد (ع) وهو في الشام ومع ما تعرض له من محن ومصائب يعامل الشيخ الشامي تلك المعاملة الجميلة التي تنتهي بتقشع سحب الجهل والظلام عنه ويرجع إلى الاعتقاد بهم (ع). ومن الروايات المهمة في الصفح عن المسيء ما روي في كتب الأحاديث عن معاملة الإمام الباقر (ع) لنصراني فقد روي أنه: (قَالَ لَهُ نَصْرَانِيٌّ أَنْتَ بَقَرٌ قَالَ لاَ أَنَا بَاقِرٌ قَالَ أَنْتَ اِبْنُ اَلطَّبَّاخَةِ قَالَ ذَاكَ حِرْفَتُهَا قَالَ أَنْتَ اِبْنُ اَلسَّوْدَاءِ اَلزِّنْجِيَّةِ اَلْبَذِيَّةِ قَالَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ غَفَرَ اَللَّهُ لَهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ غَفَرَ اَللَّهُ لَكَ قَالَ فَأَسْلَمَ اَلنَّصْرَانِيُّ)[١٦]. وهذا ونحن لا نتحمل كلمة من الزوجة أو الزوجة لا تتحمل كلمة من زوجها؛ فأين هؤلاء من هذا..! إن الإمام (ع) يتعامل بمنتهى اللطف مع رجل ناصبي قليل الأدب ولكننا نتعامل مع من يعترف بإمامة الباقر (ع) ويبكي على مصائب أهل البيت (ع) ومع من يحضر الجمع والجماعة ومع من تجمعني معه مشتركات كثيرة بمنتهى القسوة لهفوة أو زلل أو خطأ بسيط يصدر منه.

إن الله سبحانه قد يؤجل عقوبة الكثير من المعاصي كالزنا والخمر ليوم القيامة ولكن هناك من المعاصي ما يعجل عقابها ولا يؤخر. فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (يَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اِشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لاَ يَجِدُ نَاصِراً غَيْرِي)[١٧]. ولذلك لا ينظر المؤمن إلى أفعاله الحسنة من قبيل الصلاة والإنفاق وصلة الأرحام والحج وما شابه ذلك من الأمور التي سيثيبه الله عز وجل عليها يوم القيامة وإنما ينظر إلى ما يوجب له الغضب الإلهي. من الروايات التي تهز الإنسان من أعماق وجوده ما روي أنه: (دَخَلَ سُفْيَانُ اَلثَّوْرِيُّ عَلَى اَلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَرَآهُ مُتَغَيِّرَ اَللَّوْنِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كُنْتُ نَهَيْتُ أَنْ يَصْعَدُوا فَوْقَ اَلْبَيْتِ فَدَخَلْتُ فَإِذَا جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيَّ مِمَّنْ تُرَبِّي بَعْضَ وُلْدِي قَدْ صَعِدَتْ فِي سُلَّمٍ وَاَلصَّبِيُّ مَعَهَا فَلَمَّا بَصُرَتْ بِي اِرْتَعَدَتْ وَتَحَيَّرَتْ وَسَقَطَ اَلصَّبِيُّ إِلَى اَلْأَرْضِ فَمَاتَ فَمَا تَغَيَّرَ لَوْنِي لِمَوْتِ اَلصَّبِيِّ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ لَوْنِي لِمَا أَدْخَلْتُ عَلَيْهَا مِنَ اَلرُّعْبِ وَقَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اَللَّهِ وَلاَ بَأْسَ عَلَيْكِ مَرَّتَيْنِ)[١٨].

ويقول المثل العربي: يداك أوكتا وفوك نفخ. فالقربة لا تمتلئ بالهواء إذا لم تقم بسد جميع الثقوب فيها ولو نفخت فيها صباحا ومساء. والحسنات لا تجتمع في وعاء مثقوب، وقد قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[١٩].

ولقد روي عن إسحاق بن عمار أنه قال: ( دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فَنَظَرَ إِلَيَّ بِوَجْهٍ قَاطِبٍ فَقُلْتُ مَا اَلَّذِي غَيَّرَكَ لِي قَالَ اَلَّذِي غَيَّرَكَ لِإِخْوَانِكَ بَلَغَنِي يَا إِسْحَاقُ، أَنَّكَ أَقْعَدْتَ بِبَابِكَ بَوَّاباً يَرُدُّ عَنْكَ فُقَرَاءَ اَلشِّيعَةِ، فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي خِفْتُ اَلشُّهْرَةَ قَالَ أَ فَلاَ خِفْتَ اَلْبَلِيَّةَ أَ وَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَيْنِ إِذَا اِلْتَقَيَا فَتَصَافَحَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اَلرَّحْمَةَ عَلَيْهِمَا فَكَانَتْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لِأَشَدِّهِمَا حُبّاً لِصَاحِبِهِ فَإِذَا تَوَاقَفَا غَمَرَتْهُمَا اَلرَّحْمَةُ وَإِذَا قَعَدَا يَتَحَادَثَانِ قَالَتِ اَلْحَفَظَةُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ اِعْتَزِلُوا بِنَا لَعَلَّ لَهُمَا سِرّاً وَقَدْ سَتَرَ الله عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ أَ لَيْسَ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، فَقَالَ يَا إِسْحَاقُ، إِنْ كَانَتِ اَلْحَفَظَةُ لاَ تَسْمَعُ فَإِنَّ عَالِمَ اَلسِّرِّ يَسْمَعُ وَيَرَى)[٢٠]. لقد كان الرجل يخاف أن يعرف بالتشيع فكان لأجل ذلك يمنع الشيعة من الدخول عليه ولكن الإمام (ع) بين له: أن صده المؤمنين أكبر خطرا مما خافه على نفسه.

ولا ينبغي أن يطلب المؤمنون منك التدخل للإصلاح بينهما؛ بل عليك المبادرة للإصلاح؛ إن رأيت مشكلة مالية أو غير مالية أو شحناء وقع بين المؤمنين. وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إِصْلاَحُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ، أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ اَلصَّلاَةِ وَاَلصَّوْمِ)[٢١]؛ ولعل المراد بـ (عامة الصلاة والصوم) المستحب منها. لأن الإسلام لا يرضى أن يكون بين المؤمنين حالة من حالات التوتر الذي يخلق أجواء الفتنة والغيبة وما شابه ذلك من المعاصي.

وعن أبي حنيفة سائق الحاج أنه قال: (مَرَّ بِنَا اَلْمُفَضَّلُ وَأَنَا وَخَتَنِي نَتَشَاجَرُ فِي مِيرَاثٍ فَوَقَفَ عَلَيْنَا سَاعَةً ثُمَّ قَالَ لَنَا تَعَالَوْا إِلَى اَلْمَنْزِلِ فَأَتَيْنَاهُ فَأَصْلَحَ بَيْنَنَا بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْنَا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى إِذَا اِسْتَوْثَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ صَاحِبِهِ قَالَ أَمَا إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَالِي وَلَكِنْ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَمَرَنِي إِذَا تَنَازَعَ رَجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَيْءٍ أَنْ أُصْلِحَ بَيْنَهُمَا وَأَفْتَدِيَهُمَا مِنْ مَالِهِ فَهَذَا مِنْ مَالِ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ)[٢٢]. وقد أخبرهما المفضل بعد أن أصلح بينهما وهدأت فورتهما: أن الإمام (ع) كأنه قد أرصد مبلغا من المال لحل هذه النزاعات بين المؤمنين لما لها من عواقب سيئة.

الهروب من الواقع بالمتع المزيفة

وقد يحاول البعض من خلال بعض المتع المحللة أو المحرمة أن يهرب من واقعه. فيجلس لساعات طويلة أمام شاشة التلفاز أو يمشي في الطرق من دون هدف أو يجلس مع البطالين وغير ذلك من الأمور التي يهرب بها من واقعه؛ فإذا ما انتهت هذه المتع وانقضت تلك الساعات رجع إلى المنزل وحاله كما تركه. وقد ذكر القرآن الكريم الطريقة الحصرية للحصول على الإطمئنان وآيات القرآن كقوانين الطبيعية التي لا تقبل الخطأ وهي ثابتة مثلها، فكما أن اجتماع الأكسيجن مع الهيدروجن ينتج الماء فكذلك آيات القرآن تخبر عن الواقع. قال سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[٢٣]. ويقول أهل اللغة: أن (ألا) للتنبيه؛ أي انتبه إلى مطلب مهم، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر كقوله تعالى: (إياك نعبد) ولو قال سبحانه: تطمئن القلوب بذكر الله، لكان يمكن القول: أن بعض القلوب تطئمن بذكر الله وبعضها بالنساء واللهو وسائر الملذات. قد يأنس الجسم ببعض الملذات نظرا لرفع حاجة الجسم كتفريغ الشهوة إلا أن راحة الجسم أمر واطمئنان القلب أمر آخر.

الإطمئنان الحقيقي

إن الصلاة ركعتان في جوف الليل أو في بيت من بيوت الله عز وجل تمنح الإنسان سعادة لا يمكنه الحصول عليها في غير هذه الصلاة. فإذا انتابت الإنسان حالة من حالات القلق؛ فلا بد أن يبحث عن الأسباب الداخلية أولا ثم الأسباب الخارجية ويحاول القضاء عليها جميعا. ثم بعد ذلك يلتزم ببعض الأذكار منها الحوقلة؛ فقد ورد أنها من المسكنات. وبالطبع الذكر مع التوجه هو ما يؤثر لا الذكر والمرء لاه.

إن أئمتنا (ع) كانوا يبادرون إلى الصلاة خصوصا في وقت الزوال الذي تفتح فيه أبواب السماء، عند الوقوع في الأزمات لا كما نفعل نحن من المبادرة والتوجه إلى زيد وعمر من الناس. وقد قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[٢٤]. إن النبي (ص) يذهب إلى الغار وخلفه الطغاة المتجبرون من قريش يطلبونه وإذا سألت عقلاء العالم عما ينبغي للنبي (ص) فعله لقالوا: ليس أمامه إلا التسليم أو الصعود في السماء..! ولكن الله عز وجل كان له رأي آخر؛ حيث أدخله في غار وجعل العنكبوت ينسج على باب الغار وعشعش الحمامة كذلك في مدخله فتظن قريش أن الغار مهجور فترجع عنه. وهكذا نجي موسى (ع) بعد أن ألقي في النيل ونجي إبراهيم (ع) من النار وما شابه ذلك من آلاف القصص التي تدل على أن الأمور بيده وهو مسبب أسبابها.

الهوامش:

[١] الأمالي (للصدوق)  ج١ ص٣٨٥.

[٢] سورة الكهف: ٦.

[٣] سورة طه: ١-٢.

[٤] سورة فاطر: ٨.

[٥] سورة التوبة: ١٢٨.

[٦] قصص الأنبياء (للجزایري)  ج١ ص٣٢٥.

[٧] سورة فصلت: ٣٤.

[٨] بحار الأنوار  ج٨١ ص٢٥٩.

[٩] وسائل الشیعة  ج١٧ ص٧٣.

[١٠] کفایة الأثر  ج١ ص٢٣٩.

[١١] الخصال  ج٢ ص٦١٠.

[١٢] الکافي  ج٢ ص٣٦٢.

[١٣] سورة يونس: ٣٦.

[١٤] سورة الإسراء: ٣٦.

[١٥] سورة المؤمنون: ٩٦.

[١٦] بحار الأنوار  ج٤٦ ص٢٨٩.

[١٧] وسائل الشیعة  ج١٦ ص٥٠.

[١٨] بحار الأنوار  ج٤٧ ص٢٤.

[١٩] سورة الكهف: ١٠٣-١٠٤.

[٢٠] الكافي  ج٢ ص١٨١.

[٢١] الأمالي (للطوسي)  ج١ ص٥٢٢.

[٢٢] بحار الأنوار  ج٧٣ ص٤٥.

[٢٣] سورة الرعد: ٢٨.

[٢٤] سورة الطلاق: ٢-٣.