كأحد أساليب التربية: هل يشجّعنا الإسلام على ضرب أبنائنا؟

قال تعالى: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:

1-     حقيقة التربية

2-     ركائز التربية

3-     اسلوب الضرب والعنف في مجال التربية

المحور الأول: حقيقة التربية

التربية هي: خلق الظروف والعوامل التي تسهم في ابراز قدرات الطفل وتنمية قابلياته وملكاته.

هناك فرق بين التربية والصناعة، فالصنع هو تركيبٌ واحداثٌ من مواد معينة كصناعة السيارة وغير ذلك.. واما التربية ليست كذلك، بل هي إحياء؛ بمعنى تفجير طاقة الحياة في الإنسان.

كثيرون من يتصور أن تربية الطفل بالعصا أو بالقول له: تأدب أو افعل كذا او لا تفعل كذا فقط، والحال أن التربية هي إبراز طاقات الطفل وتنمية قدراته ومواهبه وملكاته.

وبما أن التربية هي تفجير الطاقات فلابد أن تكون مساوقة مع التعليم فلا علم بدون تربية، ولا تربية بدون تعليم، فالتعليم والتربية توأمان متمازجان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ورد عن الامام علي عليه السلام: "العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع"، فالعلم المسموع أن تسمع أو تقرأ المعلومات وتحفظها، والعلم المطبوع ما رسخ في النفس وظهر أثره في الأَعمال، فلا ينفع المسموع ما لم يتطبع عليه العالم به ويظهر في أفعاله.

إذن العلم بدون تربية أي بدون استثماره واظهاره على أرض الواقع والتطبيق لا يجدي نفعا، بل لابد من التطبّع عليه وتنمية القابليات والقدرات على الانتاج والعطاء في ظل العلم.

كما أن التربية بلا علم لا تجدي نفعا ولا تنتج، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ثروة العاقل في علمه وعمله"، ولذا قلنا: العلم والتربية توأمان.

يقول بيكن: العلماء ثلاثة - عموم الاختصاصات: "عالم كالنملة وعالم كدودة القز وعالم كالنحلة". بمعنى أن هناك عالما عبارة عن مخزن للمعلومات فهو كالنملة التي تختزن الغذاء بلا عطاء، وهناك عالم ينطوي على نفسه ولا يستفيد من خبرات وتجارب الآخرين ولا يواكب الثقافة والحضارة فهو كدودة القز التي تلف نفسها من لعابها ولا تستفيد مما حولها، وهناك عالم يطور نفسه ويواكب العصر ويستفيد من خبرات الآخرين.. ثم يعطي وينتج لفائدة غيره، وهو كالنحلة التي تستفيد من رحيق الأزهار وتصنع عسلا ثم تنتج وتُعطي.

وخلاصة حديثنا في هذا المحور بأن التربية هي عبارة عن إحياء الانسان وابراز طاقاته وتنمية قابلياته، وليست مجرد تعليم بعض الآداب.

المحور الثاني: ركائز التربية

نتعرض في هذا المحور لثلاث ركائز في مجال التربية:

الركيزة الأولى: تنمية الأبعاد في التربية

إن للإنسان أربعة أبعاد: عقلي وخلقي وجمالي وعبادي، هذه الأبعاد الأربعة هي قوام شخصية الانسان والتربية أن ننمي هذه الأبعاد ونبرزها.

 البعد العقلي:

من حيث أن العقل به تميز الانسان عن سائر العجماوات وبه تحدد درجات التفاضل بين الناس فينبغي على الأبوين تنمية البعد العقلي لدى الأبناء بتمارين عقلية تُكسبه مهارات عقلية وذكاءً متميزا، كي لا يصدقوا كل ما يسمعوا أو يقرؤوا، بل يُعملوا العقل كي يفهموا الأمور على حقيقتها.

فإن تربية البعد العقلي جزء أصيل في تربية الأبناء، لأن ثمرة النضج العقلي استقامة الفكر والسلوك، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):  (ثمرة العقل الاستقامة)، وبالعقل والعطاء يتفاضل بنو البشر، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):  (للإنسان فضيلتان عقل ومنطق فبالعقل يستفيد وبالمنطق يفيد)

وعَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) (يَا هِشَامُ إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ والْفَهْمِ فِي كِتَابِه فَقَالَ: (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ الله وأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ). 

البعد الخُلُقي:

خُلق الانسان وهو يميل بفطرته الى العدل والصدق وأداء الأمانة... والذي يتوجب على الأبوين تربية الأبناء على هذه القيم من خلال أفعالهم قبل أقوالهم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (العالم من شهدت بصحة أقواله أفعاله)، فالأبناء حين يرون أباءهم صادقين معهم ومع غيرهم تترسخ فيهم صفة الصدق؛ وكذا في صفة العدل وأداء الأمانة وغيرها من الصفات الحميدة.

البعد الجمالي:

كل انسان يميل الى الجمال ويحبه، وابراز صفة الجمال لدى الأبناء من الواجبات التربوية على الأبوين، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنَّ اللَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ..)، فلو وجدنا لدى الأبناء مهارات جمالية ينبغي ابرازها وتنميتها، مثلا: لو وجدنا الطفل له صوت عذب ينبغي تحفيزه وحثه على تجويد القرآن الكريم أو انشاد القصائد الحسينية وغير ذلك من الأمور التي حبب اليها الشارع المقدس، وحين ابراز هذه المواهب يخدم من خلالها مبادئه وقيمه.

البعد العبادي:

فُطر الانسان على حبه وميوله لعبادة الله سبحانه، ولكن بما أنه عرضة لآفات الدنيا ومغرياتها فلابد من حماية هذه الفطرة منذ الطفولة وتنميتها.

ورد عن أمير المؤمنين في وصيته لولده الامام الحسن (عليهما السلام) أنه قال: (وإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ، مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه، فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ). 

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا..)، فالعبادة استقرار للنفس وهدوء واسترخاء وسكينة لقلب الانسان، قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). 

يقول وليام جيمس في كتابه الدين والروح: (هناك بعد أصيل في شخصية الانسان ألا وهو البعد الروحي).

فعلى الأبوين تنمية البعد الروحي وتحفيزه لدى الأبناء، ولكن ينبغي الالتفات الى عدم ارهاقهم بالعبادة؛ فقد تنعكس النتيجة سلبا، فالأمر باليسير عليهم أنفع من الكثير الذي قد ينفرهم منها، فالعبرة أن يتشرب طعم العبادة.

ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (اجهدتُ في العبادة - وأنا شاب - فقال لي أبي: يا بني! دون ما أراك تصنع، فإن الله (عز وجل) إذا أحب عبداً رضي منه باليسير). 

الركيزة الثانية: الاعتياد

هنالك أفعال يعتاد الانسان عليها ويسعى جاهدا كيلا يتخلف عن فعلها، وهذا الاعتياد في نظر التربية الغربية يتعارض مع الحرية، فقد جعلوا الحرية جوهر التربية، فهم يسعون الى اغراس روح الاستقلال في الأبناء منذ الطفولة وتحريرهم من كل عادة أو شيء يقيد حريتهم، بل حتى سلطة الأبوين يعتبرونها سلبا للحرية في النظام الغربي، فالمنظور الغربي يرى أن كل شيء يقيد حرية الطفل هو طمس لشخصيته الاستقلالية، لذلك قالوا: بأن العادات - جميعها سواء كانت حسنة أم سيئة - تخنق الحرية والاستقلالية لدى الأطفال وليس من الصحيح تعليمهم أي عادة مهما كانت - حتى لو كان فعلها عند العقلاء حسناً - فهي تخنق الحرية لدى الطفل.

يقول كانت: (اذا زادت العادات قلّت الارادة وضعُف الاستقلال) ويقول راسل: (الارادة أن تتحرر من العادات، هي الفن والمهارة في التخلص من العادات).

وأما العادات في منظور التربية الاسلامية تختلف عن ذلك، إذ قالوا بأن العادة على نوعين: تارة تكون العادة فعلية وأخرى انفعالية، والمذموم في التربية الاسلامية هي العادة الانفعالية وليست العادة الفعلية، واليك بيان ذلك:

العادة الفعلية

وهي العادة التي تستند الى فكر وعقل وارادة، فالإنسان هو الذي يصنع هذه العادة وهي ممدوحة، ومثال ذلك: المحافظة على النظام هي عادة حسنة ولا عاقل يقول بخطأ الاعتياد على النظام، بل لا تقوم الحضارة ولا تنتج إلا باعتياد وتعليم الشعب على النظام كالمحافظة على السلم الأهلي والمحافظة على نظام الطرقات والمحافظة على سلامة البيئة... فالحضارة لا يمكن أن تقوم وتنتج بدون هذه العادات وبالتالي لا يمكن لأحد أن يقول هذه عادات مذمومة، بل هي عادات ممدوحة وجيدة لأنها عادات فعلية استندت الى العقل والفكر والارادة ولم تستند الى محض العاطفة.

العادة الانفعالية

وهي العادة التي لا تستند الى العقل والارادة، بل تستند الى العاطفة المحضة والانسياب والاسترسال، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فهؤلاء حين تحاورهم وتبين لهم أن الحقيقة بخلاف ما هم عليه قالوا: هذه عاداتنا وتقاليدنا ونأبى تغييرها، فهذه العادات انفعالية تقليدية تعصبية لا تستند الى عقل واعٍ وهي مذمومة في المنظور الاسلامي.

فتبين لنا أن المنظور الاسلامي يذم تعليم الأولاد العادات الانفعالية وليس الفعلية، خلافا للمنظور الغربي الذي يذم تعليم مطلق العادات حسنة كانت أم سيئة.

الركيزة الثالثة: قوة الارادة والاحساس بالمسؤولية

من الأخطاء التربوية الفادحة أن يعلم الأبوان أولادهما على الاتكالية ونفض اليد عن المسؤولية وتوفير كلما يطلبون، بل لابد من تعليمهم قوة الارادة والاحساس بالمسؤولية من خلال الاعتماد على أنفسهم بالقيام ببعض الأعمال التي تخصهم على الأقل كتنظيم السرير وترتيب الثياب وفي بعض الأحيان تحضير الطعام.

وبخلاف ذلك سنصنع من الطفل شخصية اتكالية حبيسة الدلال والترف لا استقلالية لها ولا نتاج ولا عطاء. 

المحور الثالث: اسلوب الضرب والعنف في مجال التربية

 إن اسلوب تربية الأبناء بالضرب والعنف على أن يخافوا منا يُعد من الأساليب التي تنعكس على الطفل سلبا وتغير مسار مستقبله.

يقول الشيخ محمد تقي فلسفي في كتابه (الطفل بين الوراثة والتربية): (هناك فرق بين الخوف من الذنب وبين الخوف من الأب)، فالخوف من الذنب يبعث على التغيير وصيانة النفس واصلاح الشخصية، ويجعل الأولاد صريحين شفافين، قال تعالى: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). 

وأما الخوف من الأب فهو يصنع من الطفل شخصية انطوائية، بل يبعثه على الاستتار بالخطأ، يستتر من الأب ويتحيل ويلف ويدور حتى يتجنب أن يخطأ أمام أبيه فيُصبح شخصية ازدواجية غير صريحة.

هل يتفق مسارا التربية الاسلامية والتربية الحديثة بأسلوب العنف مع الاطفال؟

هناك بعض الدراسات الحديثة اهتمت بموضوع تربية الاطفال خصوصا اسلوب العنف معهم وسلبياته، وهنالك دراسات معاكسة كـ (ديلي تلغراف البريطانية) نقلت دراسات بأن الضرب غير المبرح الى سن السادسة يعين الطفل على الانتظام وتحمل المسؤولية، ولكن الجمعية العامة لحقوق الطفل رفضت هذه الدراسات وأكدت أن اسلوب الضرب في أي مرحلة من سن الطفل هو اسلوب معوق وليس منتج، وهنا نستعرض بعض الدراسات التي أكدت على سلبية العنف في تربية الأولاد، ومن تلك الدراسات:

1- مركز حماية الطفل من الاساءة (دار الأمان) تأسس في عمان عام 2000 وهو الأول من نوعه في الوطن العربي، أصدر عدة دراسات عن خطر التعامل مع الطفل بأسلوب الضرب والعنف.

2- منظمة الصحة العالمية عام 2009 تؤكد في تقرير للتنمية البشرية العربية أن العنف البدني وإن قل في الوطن العربي ولكن هناك أشكالا أخرى من العنف تمارس على الأطفال كالتهديد والحرمان... ووفقا للدراسات: 73 بالمئة يتعرضون الى الضرب في المدارس أو الأسر و40 بالمئة يتعرضون للضرب الشديد.

3- كلية التربية الأساسية في دولة الكويت هناك دراسة بعنوان (تأديب الطفل بالضرب) للدكتور محمد ملك والدكتورة لطيفة حسن الكندري في سلبيات الضرب ومن أهم السلبيات انهيار الاحساس بالكرامة فالطفل لا يشعر بكرامته مع الضرب، وعدم المبالات للضرب فقد يتعوده ويتحول الى شخصية معاندة، بل قد يتحول الى شخصية عدوانية على الآخرين بل ويعكس هذا الاسلوب على أبنائه أيضا في المستقبل، فالطفل الذي تعلم ان التربية هي العصا سيطبق ذلك في أسرته.

لذا تقول الدكتورة مريم النعيمي: (إن الضرب عادة وغالبا وسيلة تنفيس لا وسيلة تقويم).

مسار التربية في النصوص الشرعية

توجد في بعض الروايات تصريحات بضرب الأولاد إن لم يصلّوا أو لم يتوضؤوا.. إلا أن هذه الروايات مخدوشة سندا بين الضعيف والمجهول في بعض رواتها، ومقابل هذه الروايات المخدوشة توجد روايات تصرح بعدم الضرب، يقول أحد أصحاب الامام الكاظم (عليه السلام) شكوت إلى أبي الحسن موسى ابناً لي فقال: (لا تضربه واهجره ولا تطل)، أي اذا اردت تأديب ابنك فلا تضربه بل اهجره ولا تطل الاعراض والهجر كيلا يحرم من حنانك وعطفك.

وهنا من الضروري أن نستعرض كلام الفقهاء الذين فهموا تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) فهما دقيقا، ومن جملة الفقهاء السيد الخوئي في باب الأولاد \ منهاج الصالحين ج2، والسيد السيستاني في فقه المغتربين، قالوا: لا يجوز لأي أحد أن يضرب الولد غير الأب، بل حتى الأم لا يجوز لها ضرب ولدها وإن كانت الضربة خفيفة، فالولاية فقط للأب دون غيره.

نعم لقد جوز الشرع للأب أن يضرب ولده ولكن فيما لو توقف التأديب على الضرب، وهذا الجواز منوط بشروط وهي:

1- أن لا يضربه أكثر من ثلاث ضربات.

2- أن لا يضربه لحد الاحمرار، فإذا احمر شيء من بدنه كان على الأب الدية.

3- أن لا يكون الضرب بدافع الغضب والانتقام.

4- أن يكون الضرب بدافع التأديب.

5- أن يكون جسم الطفل سليما.

وذكر الفقهاء أن يكون الضرب في محل لا يشكل على الطفل خطرا.

فتبين مما سبق أننا حتى وإن قلنا أن ضرب الأولاد جائز فالجواز للأب فقط وليس لغيره الحق البتة، والجواز للأب ليس مطلقا بل بالشروط التي مر ذكرها، إذن الأب الذي يضرب أولاده ولم يلتزم بما مر ذكره من الشروط لا شك أنه سيُعاقب على فعله هذا وتعديه على ما ليس له.

ومن كل ما مر يتبين لنا أن الضرب المبرح المخالف للشروط المارة جريمة في الشرع والقانون وبعيد عن المنهج الاسلامي القويم.

*تقرير: السيد هيثم الحيدري، مراجعة وتدقيق: الشيخ قيصر الربيعي