حجر الأساس في السعادة!

ولكي نثبت نظرة الاسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الانسان - ماديها ومعنويها - فيما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط التالية:

الإيمان والأخلاق

 إن الايمان بالله، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام، والمواظبة على التحلي بالفضائل الانسانية تشكل حجر الأساس في بناء سعادة البشر، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الاسلام في هذا المجال. وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث. يقسم الله تعالى في سورة العصر. بأن جميع الناس من أي عنصر كانوا، وفي أي زمان عاشوا مبتلون بالخسران والبؤس، إلا الذين أحرزوا بعض الصفات، أولها الإيمان بالله: والعصر، إن الانسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا.... (1) وفي سورة الشمس يقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والذي بناها، والأرض والذي بسطها، والنفس الانسانية والله الذي وازن بين عناصرها. وألهمها الخير والشر...

«... قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها (2).

قسماً بكل هذه الآيات الآلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمن طهر نفسه من الآثام ونزه روحه عن الجرائم. وإن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمن تلوث بالآثام والجرائم.

يقول الامام علي (ع): عنوان صحيفة المؤمن، حسن خلقه (3).

إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار والحيوانات، والنطفة والجنين... إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود، كلها تهدف إلى أن يوجه الانسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه بالله العظيم. وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا أو التي تذكر الصفات الرذيلة وتفصل القول في ذمها، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، ولذلك فان

الرسول الأعظم (ص) يبين الواجب الذي بعث من أجله فيقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (4).

إن كل مسلم يعلم جيداً اهتمام الاسلام البالغ بالروح والكمال والأخلاق، لكن من الواضح لكل مسلم أيضاً أن الروح والكمال والأخلاق ليست هي الكل في الكل بالنسبة إلى سعادة الانسان في الاسلام، أن الاسلام لا يحصر اتباعه في حلقة من المعنويات فقط، بل انه حين يدعوهم إلى تكميل الجانب الروحي يعني تمام العناية بالجانب المادي فيهم ولذائذهم الطبيعية ولأجل أن نتبين موقف الاسلام الصريح في هذا الموضوع علينا أن نتحدث عن رأي القرآن والحديث في المبدأ الاقتصادي ومبدأ اللذة - وهما المبدءان المتداولان في العالم المتمدن اليوم -.

لا شك في أن النشاط الاقتصادي واستغلال الجهود البشرية للانتفاع من الذخائر الطبيعية، لهو من أقوم الارشادات الدينية. وقد وردت بهذا الصدد نصوص كثيرة. ان النبي (ص) والأئمة (ع) يقدرون النشاط الاقتصادي كثيراً، وهو يبلغ درجة قد يبدو الحث عليه فيها غريباً.

ولأجل معرفة قيمة الاقتصاد في الاسلام نورد هنا بعض النصوص:

الجهد البشري

1 - قال رسول الله (ص): طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة (5).

فالسعي وراء المال الحلال لضمان المعيشة واستمرار الحياة واجب على كل فرد من المسلمين.

2 - وقال أيضاً: من أكل كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء، ويأخذ ثواب الأنبياء.(6) .

وفي هذا الحديث يقارن بين من يكد ليحصل على قوت يومه، والنبي الذي يكد لإحياء الناس.

3 - وفي الحديث: الكاد على عياله، كالمجاهد في سبيل الله. (7)

فهذا يجاهد لدفع الضرر المادي عن المسلمين، وذاك يكافح لدفع الضرر المعنوي، ودفع الضررين كليهما مطلوب.

4 - وسئل الرسول الأعظم (ص): أي كسب الرجل أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده (8).

5 - كما ورد في الأسلوب الذي كان يعيشه الامام أمير المؤمنين (ع):  كان لما يفرغ من الجهاد يتفرغ لتعليم الناس والقضاء بينهم، فإذا فرغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكر الله تعالى... .(9).

6 - عن عبد الله بن عباس: كان رسول الله (ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، قال: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني. (10) .

استغلال القوى الطبيعية

وبعد أن أوردنا بعض الأحاديث حول الحث على الجهد البشري والانتفاع منه في شتى المجالات، لنسرد بعض النصوص الواردة بشأن استغلال القوى الطبيعية والاستفادة منها:

1 - في الحديث: إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها (11). فمن خلال هذا الحديث ندرك مدى اهتمام الإسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز الأرض والاستفادة من خيراتها وعدم التماهل بشأنها، حتى أنه ليحث الانسان على أن يبادر إلى غرس الفسيلة (أو أي جهد إنتاجي آخر) وإن علم بأن القيامة ستقوم بعد لحظات.

2 - قال الامام علي (ع): نعم المال النخل، من باعها فلم يخلف مكانها فإن ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة اشتدت به الريح في يوم عاصف. ولا يخفى أن ذكر النخل ليس محصوراً فيه، وإنما عبر به الامام لأن النخيل أكثر انتشاراً من غيرها من الأشجار في الجزيرة العربية، فتراه ينهى عن بيع النخل من دون أن يكون قد زرع نخلاً في مكان آخر يستفيد منها في المستقبل.

3 - وفي حديث عن النبي (ص ): ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة..

4 - يقول الامام أمير المؤمنين (ع ): من وجد ماءاً وتراباً ثم افتقر، أبعده الله (12).

فهنا نجده (ع) يندد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة وهي الماء والتربة.

وتتوفر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً، فإنه يستحق غضب الله ولعنته. وهكذا نجد الاسلام يهتم بأمر العمل والانتاج وتشغيل دولب الاقتصاد الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس الأوقات. فنجد الامام الصادق عليه السلام يقول لهشام: يا هشام إن رأيت الصفين قد التقيا، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم (13). وبالرغم من هذا الحث الشديد وهذا الاهتمام البالغ بشأن الاقتصاد والتأكيد على العمل لتقويمه وتقويته في الاسلام، فإنه لا يعتبر الكل في الكل بالنسبة إلى تحقيق السعادة الانسانية، ولا يعطى أكثر مما يستحقه.

إن النشاط الاقتصادي وتشغيل القوى والجهود البشرية لاستغلال الذخائر الطبيعية ليس إلا فرعاً من فروع شجرة السعادة في الاسلام... نعم لابد لنا أن نعترف بأنه فرع مهم وحيوي في تلك الشجرة.

إلا أن الذين يعتبرون الاقتصاد هو الأساس في السعادة، فإن اعتبارهم هذا يكشف عن عدم معرفتهم بحقيقة الانسان. ولذلك فهم ينزلونه – بنظرتهم هذه – عن مقامه الرفيع إلى مستوى آلة صماء أو حيوان فاقد الشعور.

يتبع...

( 1) سورة العصر، الآية 2

( 2) سورة الشمس، الآية: 9 .

( 3) سفينة البحار ص 410 مادة (خلق) .

 (4) المصدر نفسه .

(5) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 23 / 6 .

(6) المصدر السابق .

(7) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2 / 424 .

(8) المصدر السابق ج 2 / 417 .

(9) المصدر السابق ج 2 / 417.والحائط: البستان

(10) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 23 / 6 .

( 11) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2 / 501

( 12) بحار الأنوار للمجلسي ج 23 / 19 .

( 13) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ج 12 / 14 .