كربلاء وصراع المفاهيم

 تعد المفاهيم بصورة عامة البناء التحتاني لكل فكر وثقافة إنسانية، ولها الدور المحوري والمؤثر في نظرة الإنسان وكذلك المجتمع لحسن الأفعال وقبحها، خصوصاً في الخطاب السياسي، حيث تكتسي المفاهيم أهمية خاصة لا بالنسبة لمنتجيها فحسب بل حتى لمستهلكيها، حيث تتحول بسبب كثرة استعمالها الى شعارات تبرر ممارسات السلطة وتشرعنها، وتغطي على حقيقتها لتكريس الوهم والتضليل وسوء الفهم الذي يقود الى سوء العمل بالضرورة.

وهذا عين ما قامت به السلطة الأموية، خاصة في بداياتها، ومن بين أهم تلك المفاهيم التي قامت السلطة الأموية بتزييفها كانت المفاهيم الثلاثة طاعة الإمام ولزوم الجماعة وحرمة نقض البيعة، من أكثر الاصطلاحات السياسية التي كان يستخدمها الحكام تداولاً. وربما يمكننا ان نقول: إنها كانت أساس الحكم، وكانت تكفل دوامه. وهذه الاصطلاحات الثلاثة مبادئ صحيحة كانت في عداد المفاهيم الدينية والسياسية، كما ان العقل يحكم بضرورة رعايتها من أجل المحافظة على المجتمع واستمراره، ومعنى طاعة الإمام اتباع النظام الحاكم، لكن ما يجب ان نسأله: الى أي مدى يجب اتباع الحاكم وإطاعته؟ فهل يجب إطاعة الحاكم حتى لو كان جائراً؟ هنا تظهر يد السلطة المتلاعبة والمزيفة لهذه المفاهيم، فالإسلام لا يمكن ان يرتضي ذلك، بأي وجه من الوجوه، وكيف يرضى تقوية سلطان الظالم، وهو من حرم الظلم والتسبيب له!

نعم الإسلام أوجب طاعة إمام الحق الذي يهدي الى الله تعالى، فبحسب منطق القرآن الأئمة على طائفتين، أئمة هدى، كما في قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء: 73، وأئمة ضلال، كما في قوله عز من قائل: (وجعلناهم أئمة يدعون الى النار) القصص: 41. وقد حذر النبي الأكرم أشد التحذير من اتباع أئمة الضلال، كما روى الفريقان، فمما روى أحمد بن حنبل في مسنده قول النبي صلى الله عليه واله: واني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين[1]. وفي مسند احمد أيضا، عن ابي ذر، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه واله، فقال: لغير الدجال أخوفني على امتي، قالها ثلاثاً، قال: قلت يارسول الله، ماهذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال أئمة مضلون[2]. وهكذا روايات كثيرة صحيحة أعرضنا عنها خوف التطويل. وقد روى اصحابنا من ضمن علامات هؤلاء سفكهم لدماء اهل البيت عليهم السلام، كما في رواية الطوسي عن عبد الله بن يحيى الحضرمي، قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه واله وهو نائم ورأسه في حجري فتذاكرنا الدجال، فاستيقظ النبي محمراً وجهه، فقال: غير الدجال أخوف عليكم من الدجال: الأئمة المضلون، وسفك دماء عترتي من بعدي، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم[3].

ومعنى حفظ الجماعة هو ترك الشغب والتمرد، ومجانبة الأعمال التي تقضي على الوحدة، وتمهد لتضعضع الأمة الإسلامية. والسؤال المهم هو: هل يجب السكوت أمام السلطان المستبد والحاكم الفاسق في أي ظرف كان؟ وهل يمكن إدانة كل صوت معارض باعتباره مخلاً بالجماعة ومسبباً التفرقة؟

 ومعنى حرمة نقض البيعة هو رعاية العهد، وهو امر أثنى عليه الإسلام، وذم نقض العهد والبيعة كثيراً، وحجم دوره الإيجابي في القضايا السياسية بين واضح. لكن أيجب ان تطرح هذه القضية بشكل حرمة نقض العهد أمام حاكم مثل يزيد إذا لم تبايع او نقضت البيعة وتبددت الجماعة، ام يجب استثناء هذه الحالات أساساً؟ وكما تقدم فإن ملوك بني أمية، ثم بني العباس كانوا يكرهون الناس على قبول حكومتهم من خلال استغلال هذه المفاهيم في شكل محرف لم يكن له أي قيد او شرط.

فحين أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، جاء للمدينة ليكره المعارضين على بيعته، وكانت عائشة في عدادهم، إذ كان معاوية قد قتل اخاها محمد بن ابي بكر.. ولما دار الحديث حول البيعة، قال معاوية لعائشة: ... لكني أخذت البيعة لابني يزيد وقد بايعه كافة المسلمين، افترين أنقض بيعة قد ثبتت وتأكدت، وان يخلع الناس عهودهم؟ فقالت عائشة: اني لا أرى ذلك، ولكن عليك بالرفق والتاني[4].

ويرينا هذا النموذج كيف رضيت عائشة بحكم يزيد في ظل ذلك المفهوم!

ولننظر الآن نموذجاً آخر من هذا الموضوع: كان شمر يصلي معنا ثم يقول: اللهم إنك تعلم إني شريف، فاغفرلي! قلت: كيف يغفر الله لك وقد اعنت على قتل ابن رسول الله صلة الله عليه واله؟! قال: ويحك! فكيف نصنع، إن هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفنهاهم كنّا شراً من هذه الحمر السقاة. قلت: إن هذا لعذر قبيح، فإنما الطاعة في المعروف[5].

وقال ابن زياد لمسلم بن عقيل بعد القبض عليه: ياشاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين[6]، فأجابه مسلم بكل شجاعة: كذبت يابن زياد! والله ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمة، بل تغلب على وصي النبي صلى الله عليه واله بالحيلة، واخذ منه الخلافة بالغصب!

وقال مبعوثو عمر بن سعيد بن العاص حاكم مكة للإمام الحسين عليه السلام عند خروجه منها: ألا تتقي الله تخرج عن الجماعة وتفرق بين هذه الأمة؟[7]  وكان عمر بن الحجاج ، أحد قادة ابن زياد، يقول متفاخراً: هذه فرسان مذحج.. لم تخلع طاعة، ولم تفارق جماعة[8]. وكان ينصح عسكر ابن زياد ايضاً قائلاً لهم: إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام[9].

وكان رجال من أمثال عبد الله بن عمر الذي كان يعد من فقهاء اهل السنة ومحدثيهم، يظنون ان الناس إذا رضوا ببيعة يزيد، فأنهم سيرضون ايضاً، فقال عبد الله هذا لمعاوية: فإذا اجتمع الناس على ابنك لم أُخالف![10]

وهو الذي قال للإمام عليه السلام لا تشق عصا المسلمين[11].

وكتبت عمرة بننت عبد الرحمان بن عوف الى الإمام عليه السلام تعظم عليه ما يريد ان يصنع، وتدعوه الى الطاعة ولزوم الجماعة[12].

وهذا فيما يخص المفاهيم السابقة، كما كانت عقيدة الجبر من الانحرافات الدينية في الأمة الإسلامية، فاستغلت هذه العقيدة المنحرفة قبل واقعة كربلاء ايضاً، وكان معاوية مبتدعها في صدر الإسلام، وهو الذي عمل على بثها حسب ما قاله أبو هلال العسكري المعتزلي[13]. وللقاضي عبد الجبار المعتزلي تعبيرات رائعة في تأييد دعوى العسكري على لسان معاوية في اشارته الى أنه هو مؤسس الجبرية[14].

وكان معاوية يقول في بيعة يزيد: إن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم[15].

وقال عبيد الله بن زياد ايضاً للإمام السجاد عليه السلام: أولم يقتل الله علياً؟ فقال عليه السلام: كان لي أخ يقال له علي، أكبر مني، قتله الناس[16].وعندما انكر على عمر بن سعد قتله الإمام الحسين عليه السلام طمعاً في حكومة الري، قال: كانت أموراً قضيت من السماء[17]. وكان كعب الأحبار يتكهن في حياته بان الخلافة لا تصل الى بني هاشم! بيد ان العباسيين ثم العلويين في طبرستان قد حكموا وكلاهما من بني هاشم. ونقل هذا الأمر أيا عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: فإذا رأيت الهاشمي قد ملك الزمان، فقد هلك الزمان![18]

ونتيجة هذه الانجراف مع قراءة بني أمية لهذه المفاهيم وتسخيرها لخدمة سلطانهم، نجد أن كثيراً من اتباعهم لم ينظروا الى حركة الإمام الحسين عليه السلام كحركة ضد الفساد، بل نظروا اليها كتمرد غير قانوني[19].

الهوامش:

[1] مسند احمد: ج4، ص123. وصحيح مسلم: 4/2215

[2] مسند احمد: ج5، ص145.

[3] امالي الطوسي: ج2، ص126، الاحتجاج: ج1، ص265.

[4] الفتوح: ج4، ص237. والإمامة والسياسة: ج1، ص183.

[5] لسان الميزان: ج3، ص151.

[6] الفتوح: ج5، ص98.

[7] تاريخ الطبري: ج4، ص289.

[8] تاريخ الطبري، ج4، ص275.

[9] نفس المصدر: ج4، ص331.

[10] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام: 167.

[11] الكامل في التاريخ: ج4، ص17.

[12] ترجمة الإمام الحسين: ص58.

[13] الأوائل، للعسكري: ج2، 125.

[14] فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 143.

[15] الإمامة والسياسة: 183.

[16] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام: 79.

[17]الطبقات الكبرى: ج5، ص184.

[18] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ابن عساكر: 193.

[19] تاريخ اسلام، جامعة كمبرج: ج1، ص181.