من الشعور بـ ’التهميش’ ظهرت فكرة المهدي.. مناقشة منطقية صرفة!

المهدوية نتجت عن الشعور بالتهميش.. مناقشة منطقية صرفة!

تبدو بعض الأفكار مغرية، ويظهر منها الاتساق للقارئ حتى أنّها ولفرط ما يتراءى منها ذلك يحسبها المتلقي أنّها جاءت بالحق الصراح، وتضمنت أقوى الحجج، وأجلى البراهين.. لكن الاتساق والترابط في أوقات كثيرة يبدو أقل اقناعاً من الحبكة التي يستخدمها الأدباء في إبداع القصص والروايات الأدبيّة، ومن ذلك ما تقوله إحدى الاطروحات: إنّ المهدي فكرة نتجت عن التهميش السياسي الذي لاقاه الشيعة عبر العصور، والمهدوية أطروحة تولدت عن الخوف الناجم عن معارضة السلطة على طول الخط..!

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وبصرف النظر عن اخفاق هذه الأطروحة في تفسير اعتقاد المذاهب الإسلاميّة وغير الإسلاميّة بمضمون عقيدة المخلّص وأصل المهدويّة، وهي مذاهب سلطة تقابل مذهب المعارضة كما تقرّ الأطروحة، وبعيداً أيضاً عن عجزها عن استيعاب وجود هذه العقيدة في حقب بعيدة، ونصوص قديمة، إلى آخر ما يمكن يكشف عن ضعف مادة هذا الطرح، لكن خيار مناقشة المادة ليس مطروحاً الآن، وإنّما المناقشة هنا لهيكلها وهيئتها، ومنطقها الذي تسير عليه.

لنجري على هذا النسق ونجاريه، ونأخذ بمضمون هذا الطرح ونعممه، ونُعمل هيكل هذه الأطروحة وهيئتها ونستبدل مادتها بأخرى، ونجريه على أوضح القضايا ونرى. والمادة  المقترحة هنا الدين، والإيمان برب العالمين!! على أنّ تطبيق هذا المنطق ليس اقتراحاً من كاتب هذه السطور، ولا هي من وحي مخيلته، إنّما هي نظريات موجودة ومنذ عصر اليونانيين إلى يومنا هذا.

فأنظر كم تبدو متناسقة رواية السفسطائيين اليونانيين في نشأة وجود الله؟! قال هؤلاء: إنّ الإنسان أول نشأته كان يعيش بغير رادع عن قانون ولا واع من خلق، وكان لا يخضع إلا إلى القوة الباطنة.. ثم وضعت القوانين فاختفت المظاهر العلنية من هذه الفوضى البدائية، لكن الجرائم السرية ما برحت سائدة منتشرة، فهنالك فكر بعض العباقرة في اقناع الجماهير بأن في السماء قوة أزلية أبدية ترى كل شيء وتسمع كل شيء... (بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان-دراز، ص81).

لكن هنا سؤال واحد بسيط، - وكثيراً ما يكفي سؤال واحد لينهار النسق كله- والسؤال هو: التفسيرات آنفاً تبرز ما أوحى للناس أن تعتقد بالخالق أو بالمهدي مثلاً، وليكن جاء اعتقاد الناس نتيجة حلم، أو إيحاء نفسي أو اجتماعي، فكل ذلك هو حديث عن الوجود الذاتي للأشياء، فماذا عن الوجود الموضوعي الحقيقي لها وراء اعتقاد الناس؟!

لنبدأ بتبسيط الفكرة في المثال التالي؛ يحكى أنّ نيلز بور(ت1962م) عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل عن نظريّته في التركيب الذرّي، قد بدأ مشواره العلمي بالبحث عن الذرّة وبنائها، وبقي يبحث دون جدوى إلى أنّ جاء اليوم الذي شاهد في المنام أنّ الألكترونات تدور حول نواة الذرّة، بالضبط كما تدور الكواكب حول الشمس، وبناءً على هذا الحلم راح بور يتحقق ويبحث ويفتش عمّا يؤيّد أو يفند ذلك، حتى أنتهى في نهاية الأمر صحّة النظريّة، وهكذا كان الأساس لواحدة من أكبر الاكتشافات التي ربما كانت قد فشلت وأحبطت بحجّة أنّها جاءت هو مجرّد حلم !

في المنطق يعبّر عن الخطأ الذي وقعت فيه الأطروحات آنفاً بالمغالطة المنشئيّة، وخلاصة القول فيها أنّها تخطئ الفكرة نفسها ليس على أساس أدلتها، وإنّما عبر دارسة منشأ اعتقاد الناس بها، فهي هنا تخلط بين أمرين مختلفين تماماً، بين الفكرة وأدلتها في نفسها، وبين اعتقاد الناس بيها، كما الخلط بين الدين والتديّن، وهكذا فيما نحن فيه، فالرغم من أنّ اعتقاد الشيعة بالمهدوية مبنيٌ على حقّانيّة هذه العقيدة في نفسها، وصوابيتها؛ بيد أنّ الأطروحة آنفاً لم تفرّق بين السبب الذي يجعل الناس تعتقد في شيءٍ ما ، وبين السبب الذي يجعل هذا الشيء حقًّا أو صوابًا .. ومن يقبل الشيءَ أو يرفضه بحسب أصل هذا الشيء ومصدره فقد «خرج عن الموضوع» وتنكَّب الصلة، ووقع في خطأ منطقي عتيد يطلق عليه «المغالطة المنشئية»..

إنّ الاقتصار على تقييم الأفكار وفقًا للظروف الاجتماعية التي اكتنفتها والدوافع السيكولوجية التي أوقدتها، والاكتفاء بتحليل هذه الدوافع كبدليل عن تناول الحجج ذاتها — يُعَد سقوطًا مزريًا في المغالطة المنشئية!.. ومهما تكن أوضاع الخصم، فلن تعدم أن تقيِّض له دوافع سيكولوجية تُوظّف لتقويض فكرته" (انظر-المغالطات المنطقية لعادل مصطفى، ص41).