على الدنيا بعدك العفا: قتلوا علي الأكبر.. قطّعوه بالسيوف!

ينقل الخطباء أنَّه عندما سقط عليٌّ الاكبر جاء اليه الامام الحسين (ع) وقال: على الدنيا بعدك العفا ياولدي. ماصحَّة هذه العبارة؟ وما المراد منها لو ثبت صدورها عنه؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

نعم ذكر أكثرُ المؤرِّخين من الفريقين ممَّن أرَّخ لمقتل الحسين (ع) أنَّ تلك هي الكلمات التي أبَّنَ بها الإمامُ الحسين (ع) ولدَه حين وقفَ على مصرعِه فرآه مضرَّجاً بدمِه.

فمن ذلك ما ورد في زيارة الناحية الخاصَّة بالشهداء المرويَّة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قال: "وأومِ وأشِرْ إلى عليِّ بن الحسين (ع) وقل: السلامُ عليك يا أولَ قتيلٍ من نسل خيرِ سليل، من سُلالة إبراهيم الخليل، صلَّى الله عليك وعلى أبيك، إذ قال فيك: قتل اللهُ قوماً قتلوك، يا بُني ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا"(1).

ومنه: ما أورده الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد قال: "فبصُرَ به مُرَّة بن مُنقذ العبدي فقال: علَيَّ آثام العرب إنْ مرَّ بي يفعل مثل ذلك إنْ لم أثكله أباه، فمرَّ يشتدُّ على الناس كما مرَّ في الأول، فاعترضَه مرَّةُ بن مُنقذ فطعنه فصُرع، واحتواه القوم فقطَّعوه بأسيافهم، فجاء الحسينُ (ع) حتى وقف عليه فقال: "قتل اللهُ قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حُرمة الرسول!" وانهملتْ عيناه بالدموع ثم قال: "على الدنيا بعدك العفاء"(2).

ومنه: ما أورده القاضي النعمان في كتابه شرح الأخبار قال: "فلم يزل كذلك يحملُ فيهم، ويقتلُ منهم حتى أصاب حلقَه سهمٌ رُمي به. ويُقال: بل حمل عليه مُرَّةُ بن منقذ بن النعمان بن عبد القيس، فطعَنه، فأنفذه. فأخذه الحسين (ع) فضمَّه إليه، فجعل يقول له: يا أبَه هذا رسول الله (ص) يقول لي: عجِّلِ القدوم علينا ولم يزلْ كذلك على صدرِه حتى مات. فلمَّا نظر إليه عليه السلام ميتاً قال: ولدي على الدنيا بعدك العفا"(3).

ومنه: ما أورده الطبرسيُّ في كتابه إعلام الورى قال: "فبصُرَ به مرَّةُ بن مُنقِذ العبدي لعنه الله، فطعَنه فصرعه، واحتواه القومُ فقطَّعوه بأسيافهم، فجاء الحسين (ع) حتى وقف عليه فقال: "قتل اللهُ قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمة الرسول (ص) وانهمَلتْ عيناه بالدموع، ثم قال: على الدنيا بعدك العفاء"(4).

ومنه: ما أورده ابنُ شهراشوب في المناقب: "فطعنَه مُرَّةُ بن مُنقذ العبدي على ظهره غدراً فضربوه بالسيف، فقال الحسين: على الدنيا بعدك العفا، وضمَّه إلى صدرِه وأتى به إلى باب الفسطاط"(5)

ومنه: ما أورده ابنُ طاووس في كتابه اللهوف قال: "وقاتل أعظم القتال فرماه مُنقِذ بن مُرَّة العبدي (لع) بسهمٍ فصرعه فنادى يا أبتاه عليك منِّى السلام هذا جدِّي يُقرئُك السلام ويقولُ لك: عجِّلِ القدوم علينا ثم شهَق شهقةً فمات، فجاء الحسينُ (ع) حتى وقفَ عليه ووضع خدَّه على خدِّه وقال: قتل اللهُ قوماً قتلوك ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا"(6).

ومنه: ما أورده ابن نما الحلِّي في كتابه مثير الأحزان قال: "فرماهُ مُنقذ بن مرَّة العبدي فصرعه واحتواه القوم فقطَّعوه فوقف (ع) وقال: قتلَ اللهُ قوماً قتلوك، فما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول واستهلَّت عيناهُ بالدموع ثم قال: على الدنيا بعدك العفاء"(7).

هذا بعض ماورد في مصادر الشيعة، وأمَّا ماورد في مصادر العامَّة:

فمنه: ما أورده ابنُ سعد في الطبقات في ترجمة الإمام الحسين (ع) قال: "وأقبل عليه رجلٌ من عبد القيس يُقال له: مُرَّة بن منقذ بن النعمان فطعنَه، فحُمل فوضع قريباً من أبيه، فقال له: قتلوك يا بُني على الدنيا بعدك العفاء، وضمَّه أبوه إليه حتى مات، فجعل الحسينُ يقول: اللهمَّ دعونا لينصُرونا فخذلونا وقتلونا، اللهمَّ فاحبسْ عنهم قطرَ السماء وامنعهم بركاتِ الأرض، فإنْ متَّعتهم إلى حين ففرّقهم شِيَعاً واجعلْهم طرائقَ قِددا، ولا تُرضي الولاة عنهم أبدا "(8).

ومنه: ما أورده ابن الجوزي في المنتظم قال: "فطعنَه مرَّةُ بن مُنقذ فصرعه، واحتوشوه فقطَّعوه بالسيوف، فقال الحسينُ: قتل اللهُ قوماً قتلوك يا بُني، على الدنيا بعدك العفاء"

وأورد هذه الفقرة مثل الخوارزمي في مقتل الحسين، والطبري في تاريخه، وابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق إلا أنَّه قال: الدبار بدل العفا، وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين وغيرهم (9).

وأمَّا ماهو المراد من قوله (ع): "على الدنيا بعدك العفا" فهو التعبير عن أنَّ عليَّاً الأكبر(ع) كان أعزَّ على نفسِه من نفسِه وأنَّ رؤيتَه لمصرعِه وأشلائه وهي موزَّعة ودمِه الزاكي مسفوحاً أشقُّ على قلبِه من كلِّ ما كان قد انتابَه من عظائم المِحن، بل صار القتلُ الذي ينتظرُه أيسرَ شيءٍ على قلبِه بعد رحيلِ الأكبر، وهذا هو معنى "على الدنيا بعدك العفا" فكلُّ خطيرٍ بعد رحيلِه حقير، وكلُّ عسيرٍ بعد رحيلِه يسير، فجراحاتُ الأكبر والدماءُ النازفةُ منها، ووقْعُ أنَّاته على قلبِ الحسين قد سكَّن كلَّ ألمٍ كان قد اِنتاب قلبَ الحسين وكلَّ ألمٍ سينتابُه، ذلك لأنَّ الجرح يُسكنُه الذي هو آلمُ.

وأمَّا الغايةُ من هذا الذي أفاده في تأبين ولدِه الأكبر فلعلَّه أرادَ منه الإيحاء بأنَّ هذا الذي يحظى من قلبِه بهذا المستوى من التعلُّق والحبِّ قد سخى به في سبيل إعلاء دين الله جل وعلا، فكلُّ نفيسٍ يرخُص في هذا الطريق، فلم يكن رحيلُ الأكبر شهيداً وقعَ قسراً ودون إختيارٍ من الحسين (ع) فقد كان يملِكُ أنْ يصرفَ عنه هذا المصير الدامي لكنَّه لم يفعلْ بل عمِد إلى أنْ يكون هو السابق غيرَه إلى هذا الطريق.

الهوامش:

1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 45 ص 65.

2- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج 2 ص 106.

3- شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج 3 ص 153.

4- إعلام الورى بأعلام الهدى -الشيخ الطبرسي- ج 1 ص 464.

5- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج 3 ص 257.

6- اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص 67.

7- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص 51.

8- ترجمة الإمام الحسين (ع) -من طبقات ابن سعد- ص 73.

9- تاريخ الطبري -الطبري- ج 4 ص 340, الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج 4 ص 75, تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج 69 ص 169, الخوارزمي ج2 ص27. المنتظم في تاريخ الأمم والملوك - ابن الجوزي- ج5/ 340