بعيداً عن التوظيف ’السياسي أو الدعائي’.. هل العزاء الحسيني فعلٌ أم نشاط؟!

العزاء الحسيني فعلٌ أم نشاط؟!

في عالم الدراما يُميّز بين الفعل والنشاط، فمثلاً: وأنت في المطار تنتظر طائرتك أو في عيادة الطبيب ترقب دورك.. تُخرج كتابك المفضّل وتقرأ فيه، فهل أنت تنتظر أم تقرأ؟!.. الانتظار هنا فعلٌ، فيما القراءة نشاط نافع مقترن بذلك الفعل ومصاحبٌ له. فهل العزاء والبكاء على سيد الشهداء كفعل أم كنشاط؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

واهمٌ من يظنّ أنني أتساءل على غرار ما تطرحه الحركات الإسلاميّة، والأحزاب الدينية التي عادة ما تسعى إلى التوظيف السياسي للعزاء والبكاء، وتسعى أيضاً إلى تحويلها إلى ما يشبه الممارسة الدعائيّة والنشاطات الانتخابيّة، على نحو تغدو فيه القضيّة والهويّة خادمةً لا مخدومة، وتصبح شعائر العزاء والبكاء محض وسيلة لتحقيق غايات سياسية، فمثل هؤلاء نعرف موقفهم، ونحفظ مصطلحاتهم، إنّهم ضد النزعة "الطقوسية و الخرافيّة و الغيَبوية والخياليّة والشعائرية.." وكل ما ينتهي بالياء والتاء باستثناء "نزعتهم السلطويّة" وما يتصل بها!

وعلى الدرجة نفسها من الوهم من يخال أنّ المقال يميل إلى فصل العزاء عن غاياته، ويقطعه عن أهدافه ويتجه نحو افراغه عن المحتوى، و يجرّده من القصديّة، لينتج عنه أنّه عادة لا عبادة، وتقليد اجتماعي، وشأن ثقافيّ.. أبداً، ليس هذا منشوداً، كما أنّ الرأي الأول غير مقصود، وإنّما الشأن كلّ الشأن هو تحكيم الدين، وتغليب الشرع، وذلك يعني أنّ فرضيّات الاجابة ثلاثة، والناس على طرفين، ووسط، فالطرفان: تفريطي وإفراطي، وقد أشير إليهما آنفاً، والوسط هو موقف الشرع.

إنّ البكاء وإقامة العزاء عموماً على سيد الشهداء-فيما يعتقد الشيعة قولاً واحداً- "فعلٌ" عبادي، و"نشاط" شرعي أيضاً فيما لو تحقّق فيه قصد القربة، فهو كسائر العبادات الأخرى: الصلاة والصيام والحج والزكاة.. وله ما لها، وفيه ما فيها.. ومثلما أنّ العبادات في الشرع مطلوبة لنفسها ولغيرها، وهي فعلٌ ونشاط، وطريق وموضوع، ووسيلة وغاية، بحسب اختلاف زاوية النظر، ودرجة الفاعل/العابد، كذاك الأمر في إقامة العزاء وشؤونه الأخرى.

 فالعزاء عبادة في ذاته، ومراسم إحياء عاشوراء "فعلٌ" مطلوب في نفسه.. لكن السؤال: لو نظر إليه باعتباره "نشاطاً" نوعيّا، وممارسة جماعيّة.. فلأيّ فعلٍ هذا النشاط يُطلب، وأي ثمر منه يرقب؟. له جملة آثار وثمار، ومقاصد وأهداف، وفوائد وغايات، وهي وافرة ومتنوعة، نقتصد على ثلاثة جوانب وأبعاد: الشرعي و الأخلاقي، والعقائدي.

 فالمقصد الشرعي يتمثّل في أنّه مصداق للتأسي، وأمثولة للاقتداء، وامتثال  للأمر الشرعي، وتحقيق لمطلوب ديني، وأداءٌ لأمرٍ ندبي، وتطبيق لحكم استحبابي، وهذا واضح.

 كما أنّ البعد الأخلاقي في اعادة استذكار أحداث الفاجعة هو ترسيخ أعمق القيم الأخلاقيّة، والدعوة إلى إحيائها وتأكيدها وإشاعتها؛ ذلك أنّ حدث الطف ليس من قبيل حكايات ألف ليلة وليلة.. وإنّما هو استعارة كاملة لمنظومة قيم- كان البشر وما يزال وسيبقى أحوج ما يكون لها- قوامها: الإيثار مقابل المنفعة، والثبات على المبدأ، مقابل التلوّن المصلحي، ورفض الظلم، مقابل الخنوع، والتعاطف مع المظلوم ونصرته.. وهكذا

وفي الجانب الديني والاعتقادي، أضف إلى أنّ الشعائر الحسينية تعبير صادق لمودة أهل البيت، وأداءٌ لحق ولايتهم علينا.. فهي أيضاً في التحليل الأخير لا تخلو من تقديم خدمة لمشروع اجتماعي/سياسي عالمي عظيم مرتقب، إنّه المشروع المهدوي العظيم، الذي يستحق أن تخاض له اللجج، وتسفك دونه المهج:" وبذل فيك مهجته ليستنقذ عبادك من الجهالة..".. والخدمة المنظورة التي يقدّمها إحياء عاشوراء في سياق المشروع المهدوي العظيم؛ هي ترويض النفوس، وتطهير القلوب، وخلق الاستعدادات، وتهيئة القابليات في البشر، لقبول الحق فيما لو ظهر.

ويمكنني القول: إنّ هذا البعد هو من أهم الأبعاد المغفول عنها، فقضية البشر أمام دعوات الأنبياء والأوصياء على طول التأريخ؛ ليست في غموض الحقّ، وخفاء طريق الهداية.. إنّما قضيّة الناس العصيّة، ومشكلتهم المستعصيّة هي الإرادة والعزيمة، وحاشا لله تبارك وتعالى أن يبخل على أوليائه بكل ما يوضح حقانية طريقهم، ويبرهن على صدق دعوتهم، لكن الشأن كل الشأن هو في الجحود والمكابرة، وتغليب المنفعة على المبدأ مما يحتاج فيه إلى ترويض النفوس على قبول الحق بعد انكشافه وجلائه، وكانت هذه المشكلة واضحاً جدّاً فيمن واجه الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، وإنْ من حسنة تُكتب للملعون عمر بن سعد فهي صراحته في هذا السياق، وإقراره بالإثم (أم أصبح مأثوماً بقتل حسين) الكاشف عن إدراكه التام، وعلمه الكامل بحقانية الإمام، لكنّ إرادته حالت دون متابعة علمه.

والخلاصة: العزاء، والبكاء وسائر مراسم إحياء عاشوراء الثابتة هي وسيلة وهدف.. نشاط وفعل.. تماماً كما الصلاة، فمثلما هي خير موضوع وقربان كل تقي.. هي أيضاً تطلب وتؤدّى، وتمتثل وتؤتى؛ لتنهى عن الفحشاء والمنكر!