الحسين (ع).. لا جان بول سارتر!!

تشكل الارادة عنصرا أساسيا في النظرة الإسلامية للإنسان.. الارادة الحرة النابعة من العقل والوجدان اللذين انعم الله بهما على الانسان، فكانا الآلة الفعالة في تمييزه بين الخير والشر، الاسلام يؤمّن للانسان الحرية الكاملة من خلال الارادة الحرة التي لا يعيقها عائق من رغبة أو مطمع أو هوى، الارادة الحرة التي تجعل الانسان سيدا حقيقيا لقراراته وخياراته. بوسع الانسان مع (سارتر) وكل الفلسفات التي تجعل للحرية مفهوما مساوقا للإباحة, أن يفعل كل ما يرغب به, ليكتشف بعد حين أن رغبته تلك باتت مانعا حقيقيا لامتلاكه الارادة الحرة, فبوسعه أن يعاقر الخمرة التي يرغب في تناولها كحرية شخصية, ليكتشف أن الرغبة في تناول الخمرة قد استحكمت ولا إرادة له في تركها حتى وإن تسببت بالأضرار الصحية والاجتماعية له, وبوسع المرأة في الغرب أن تعاشر من تشاء من الرجال كحرية شخصية ولكنها لن تكون ذات ارادة حرة في اختيار الرجل الذي يتجاوز في علاقته بالمرأة حدود الاشباع الجنسي مادامت حرية المعاشرة هي الاساس المعتمد في العلاقة بين المرأة والرجل .

إن الحرية المقننة التي يتيحها الاسلام تنبع من عقل الانسان ووجدانه وهما العنصران اللذان يشكلان الجانب المتسامي منه, فلا يقيدها بعد ذلك خوف او هوى او رغبة, حرية تنبع من ارادة حرة مطلقة, وهذا ما جسّده علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي صنعه الاسلام فكان مثاله الأسمى, حين يعبر عن حرية مطلقة في عبادة الله سبحانه في قوله ( الهي ما عبدتك اذ عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك, ولكني رايتك أهلا للعبادة فعبدتك).

وحيث كانت ثورة الامام الحسين (عليه السلام) هي الثورة التي فعّلت كل مضامين الاسلام ليبقى شعلة وهاجة تضمن للإنسانية نظامها الأصلح, فقد أكدت هذه الثورة على عنصر الحرية في الانسان, لهذا نجد الإمام الحسين (عليه السلام) حين اعلن رفضه الاسطوري لبيعة يزيد, أعلن عن ذلك لأنه في عقله ووجدانه المقدسين قرر الرفض لهذه البيعة فنتجت الشجاعة التاريخية والتحدي الصارخ الذي كان منه يوم عاشوراء عن إرادته المطلقة التي لم تعلق بها عوالق الخوف او الرغبة او المطامع, فقال (عليه السلام): ( والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقرّ لكم اقرار العبيد), وعلى اساس الحرية كان تعامله مع الاخرين في الثورة, حيث نراه يخاطب من كان معه بعد خروجه من مكة من كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبح ان شاء لله تعالى ويخاطبهم عند وصول خبر استشهاد مسلم بن عقيل (عليه السلام) اما بعد, فانه قد اتاني خبر فظيع, قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر, وقد خذلنا شيعتنا, فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج ليس عليه ذمام فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي من اصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انظموا اليه, وأذن (عليه السلام) لأصحابه ليلة العاشر بتركه والانصراف عنه, وخاطب جيش ابن سعد يوم العاشر قائلا إن لم يكن لكم دين فكونوا احرارا في دنياكم , كل ذلك لتكون نصرتهم له عن ارادة حرة تليق بالانسان الحر الذي ينطلق من تكوينه المتسامي.

إننا نجد سلوك الحسين (عليه السلام) في الثورة سلوكا يضيّع عليه كل فرصة للنصر العسكري, فحين قطع عليه الحر الرياحي الطريق وهو ظامئ, كان بوسع الحسين (عليه السلام) ان يتركه وجنوده يعانون الظمأ, فلا يقوون على اخذهم الى كربلاء, ولو فعل الحسين (عليه السلام) ذلك لما كان اكثر من رجل عادي يبحث عن فرصة للنجاة, ولكنه (عليه السلام) سقاه ورجاله وخيله ومكنّهم من اخذه الى المكان الذي سيقتلونه فيه, لأنه بنفسه الانسانية العملاقة لا يمكن ان يرى من يطلب الماء ويمنعه عنه, ولكي يعطي الحر بعد ذلك فرصة الوقوف في ذلك المحك البشري الخالد, بين الخير والشر أو الحق والباطل, وتحت عامل المطامع والخوف, ليقرر ما يختار بإرادة حرة, لقد وقف الحر يوم العاشر يتأمل جانب الحسين (عليه السلام) باسمى دلائل الخير والإنسانية, فماذا بعد أن لم يمنع (عليه السلام) الماء عمَّن قاده الى حتفه, وينظر الى جيش عمر بن سعد الذي يمنع الماء عن الاطفال والنساء, فاختار جانب الحق, لهذا قال له الحسين (عليه السلام) حين مال الى جانبه ( انت حر كما سمتك امك حر).

إن انصار الحسين عليه لم يعينوه في وقوفهم معه في العاشر من محرم, بل هو الذي اعانهم في التمكن من الوصول الى المرتقى العالي من القدرة على اتخاذ القرار بحرية لا تؤثر بها رغبة او خوف.

لقد ثار الحسين (عليه السلام) واستشهد لا من أجل تغيير نظام حكم أو دفاع عن بلد أو دفع جيش غازِ, بل ليؤكد هذه الحقيقة الخالدة, إن الانسان كائن متسام وهبه الله العقل والضمير والوجدان, فعليه أن يكون سيد قراراته واختياراته, فلا تقيده رغبة او خوف او مطمع. استشهد لكي تبقى الاجيال البشرية على مدى التاريخ تتأمل قصة الطف فلا تجد غير رجل فوّت على نفسه كل فرصة للنجاة كي يخلّد مبدأ الانسان المتسامي بإرادته الحرة.