لم يهنأوا بطعام ومنام.. مظاهر العزاء لآل البيت في العصر الأموي

 

و كما كانت الآفاق العربية يومها تردد صدى هذه الفاجعة المؤلمة وقسوة ما اقترفه الأمويون بآل الرسول في كربلاء كانت العائلة النبوية تجدد ذكراها صباحاً و مساء في حزن عميق و شجن عظيم، وتبكي عليه رجالاً و نساءً، و كلما رأوا الماء تذكروا عطش قتلاهم، فلم يهنأوا بطعام و لا بمنام.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وكان وجوه المسلمين والموالين لآل البيت يفدون على بيوت آل النبي (صلى الله عليه و آله) بالمدينة معزين ومواسين وكان الواحد منهم يعبّر عن مشاعره وأحزانه بأبلغ ما أُوتي من روعة القول وقوة البيان وحسن المواساة لهذه المصيبة، حتى تركوا ثروة أدبية رائعة في أدب التسلية والمؤاساة.

وبقيت بيوت آل البيت مجللة بالحزن والسواد ولا توقد فيها النيران، حتى نهضت في العراق ثلة من فتيانه الأشاوس ومن زعماء العرب الأقحاح أمثال المختار الثقفي وإبراهيم بن مالك الأشتر النخعي وسليمان الخزاعي والمسيّب الفزاري وغيرهم حيث أخذوا ثأر الحسين وقتلوا جميع قتلة الحسين أمثال ابن زياد وابن سعد وسنان وشمر وحرمله وغيرهم، فخفّت من ذلك لوعة الأشجان في بني هاشم، وهدأ منهم نشيج الزفرات ونزيف العبرات، فصارت المآتم منهم وفيهم تقام في السنة مرة بعدما كانت مستمرة.

ففي ذلك العهد ـ عهد السلف الصالح ـ يحدثنا التاريخ الإسلامي عن أعلام أهل البيت النبوي، أنهم كانوا يستشعرون الحزن كلما هلّ هلال محرم، و تفد عليهم وفود من شعراء العرب، لتجديد ذكرى الحسين (عليه السلام) لدى أبنائه الأماجد.

وقد ألقوا روائع في فن الرثاء والتسلية والتذكير بأُسلوب ساحر أخاذ، فظل شعرهم خالداً رغم كرّ العصور.

فقد كان الشاعر العربي «الكُميت بن زيد الأسدي» من شعراء العصر الأموي و المتوفى سنة 126 للهجرة قد جعل معظم قصائده في مدح بني هاشم وذكر مصائب آل الرسول (عليهم السلام)، حتى سميت قصائده «بالهاشميات» و كان ينشد معظمها في مجالس الإمام الصادق و أبيه الباقر محمّد و جدّه علي بن الحسين (عليهم السلام).

ومن تلك القصائد التي ألقاها بين يدي الإمام علي بن الحسين السجّاد (عليه السلام) قصيدته المشهورة التي مطلعها:

من لقلب متيم مستهام *** غير ما صبوة ولا أحلام

وقتيل الطف غودر عنه *** بين غوغاء أمة وطغام

قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه *** حاكماً لا كسائر الحكام

قتل الأدعياء إذ قتلوه *** أكرم الشاربين صوب الغمام

ولهت نفسي الطروب إليهم ***ولهاً حال دون طعم الطعام.

فلما بلغ آخرها حتى قال السجاد (عليه السلام) له «ثوابك نعجز عنه، ولكن الله لا يعجز عن مكافأتك» فقال الكميت: سيدي إن أردت أن تحسن إليّ فادفع لي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرّك بها، فنزع الإمام ثيابه ودفعها إليه ودعا له.

ومن تلك القصائد قصيدته التي ألقاها في مجلس الإمام الصادق ( عليه السلام ) و التي مطلعها:

طربت و ما شوقاً الى البيض أطرب *** و لا لعباً منّي و ذو الشيب يلعب

ولكن الى أهل الفضائل والنهى *** و خير بني حواء والخير يطلب

الى أن يقول :

ومن أكبر الأحداث كانت مصيبة *** علينا قتيل الأدعياء الملحّب

قتيل بجنب الطف من آل هاشم *** فيالك لحماً ليس عنه مذبّب

ومنعفر الخدين من آل هاشم ***ألا حبذا ذاك الجبين المترّب

و قد نال هذا الشاعر الجوائز الكثيرة من أئمة آل البيت (عليهم السلام) حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) أكرمه مرّة على قصيدة ألف دينار وكسوة فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، و لو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، و لكني أحببتكم للآخرة، أمّا الكسوة فأقبلها لبركتها و أمّا المال فلا أقبله.

ومثله الشاعر السيد إسماعيل الحميري أحد الشعراء المشهورين في العصر الأموي فقد جعل معظم قصائده في آل البيت و في هذا المصاب، وقد دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) مرّة يستأذنه أن ينشد له من شعره فأذن الإمام فأنشد:

أُمرر على جدث الحسين *** وقل لأعظمه الزكية

يا أعظماً ما زلت من *** وطفاء، ساكبة روية

وإذا مررت بقبره *** فأطل به وقف المطية

وابكِ المطهر للمطهر *** والمطهرة النقية

كبكاء معولة أتت *** يوماً لواحدها المنية

فما بلغ هذا الحد حتى أخذت الدموع من الإمام تنحدر على خديه وارتفع الصراخ من داره، فأمره الإمام بالإمساك فأمسك، ثم أوصله بهدية ثمينة.

و هكذا كان الشعراء يقصدون مجالس آل البيت النبوي وسائر مجالس الهاشميين في هذا الموسم لإلقاء خيرة ما نظموه حول هذا الموضوع على سبيل العزاء، من مديح و ثناء، وينالون عليه خير العطاء.