يوم ثارَ يزيدٌ.. على الحسين!!

هل ثارَ الحسينُ عليه السلام على يزيد بن معاوية؟!

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وأراد التَوَثُّبَ عليه ونَزعَ الحكم منه؟! وكان مؤسِّساً لخارطة طريق الحركات المسلّحة؟!

أم ثارَ يزيدٌ على الإمام الحسين عليه السلام؟! فَسَلَبَهُ حقّاً أعطاه الله إياه؟!

سؤالٌ في مُنتهى الغرابة! مَنشؤوه الاختلاف في فَهمِ مصطلح (الثَّورة).

فهذا اللَّفظُ في كتب اللغة يعني: (الهَيَجَان والغَضَب والوَثبَة والإنبِعاث) (العين ج‌8 ص234، والصحاح ج‌2 ص606).

والذي يُلفِتُ نظر الباحث أنَّ المعصومين عليهم السلام قد نسبوا الثورة لا إلى الإمام الحسين عليه السلام، بل إلى أعدائه الذين (ثاروا عليه)!

فعن الإمام الصادق عليه السلام في زيارة سيِّد الشهداء: اللهمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا قَبْرُ ابْنِ حَبِيبِك‏.. بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيك‏.. حَتَّى ثَارَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِكَ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيَا، وَبَاعَ الآخِرَةَ بِالثَّمَنِ الأَوْكَسِ الأَدْنَى (كامل الزيارات ص229).

بهذا المعنى، يكون أعداءُ الحسين عليه السلام هم أهلُ الثّورة، فهم من تَوثَّبَ عليه وسَلَبَهُ حقاً أعطاه الله له، وهم من هاجوا وغضبوا فانبعثوا لسلب الخلافة عن أهلها.

(يزيدُ) بهذا المعنى هو (إمامُ الثائرين في أيام الحسين) عليه السلام.. هُمُ الثائرون بالباطل والشرور على أهل الحق، المنكرون لنبوّة سيد الأنبياء محمد (ص)، ولوحي السماء على جدّ الحسين عليه السلام.

وأتباعُ يزيد وجُندُه هم الثُوَّارُ الذين استعملهم يزيد، وهم مصاديقُ مَن قال عنهم الصادق عليه السلام: لَوْ لَا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ، وَيَجْبِي لَهُمُ الفَيْ‏ءَ، وَيُقَاتِلُ عَنْهُمْ، وَيَشْهَدُ جَمَاعَتَهُمْ، لَمَا سَلَبُونَا حَقَّنَا (الكافي ج5 ص106).

ما تمَكَّنَ بنو أميّة وتسلَّطوا على آل محمدٍ عليهم السلام إلا بمعونة الأوباش، الهَمَجِ الرُّعاع، فلو أنّ الأمة أطاعت أمرَ السماء في آل الرَّسول لعَجِزَ هؤلاء الأرجاس عن سلب الحق من أهله.

 كيف صار الحُسينُ ثائراً إذاً؟!

 إذاً كيفَ يُسمى الإمام الحسينُ اليوم ثائراً عند كثيرٍ من شيعته ومُحبّيه؟!

إنَّ مصطلح (الثورة) قَد لَبِسَ لبوساً حادثاً، فصارَ يعني التغيير الجذري في أوضاع البلد، سواءٌ كان بالسِّلاح فيُعَبَّر عنه بالثورة المسلحة، أو دون السلاح فيعبَّر عنه بالثورة البيضاء أو السلميّة التي لا يُسفَكُ فيها الدم، وهو يشمل ما يُقصدُ به إطاحة نظام الحكم تارةً أو تعديله أخرى، فضلاً عن استعماله في مجالاتٍ أخرى كالثورة الزراعية أو الصناعية أو المعلوماتية وغيرها.

ومِنَ النّاس اليوم من يرى أن الإمام الحسين عليه السلام ثائرٌ بالمعنى المعاصر، بمعنى أنّه كان يريد إجراء تغييرات أساسية في أوضاع البلاد بعدما سُلِبَ حقَّه، سواءٌ كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية.

وأنّ ما فَعَلَهُ عليه السلام هو نوعٌ من أنواعِ الثّورة المسلَّحة، فكان الإمام عليه السلام ثائراً بل رمزاً للثوّار.

 وقَد يُضمُّ للدلالة على ذلك ما ورد في زيارته عليه السلام: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ الله وَابْنَ ثَارِهِ.. أَشْهَدُ أَنَّكَ ثَائِرُ الله وَابْنُ ثَائِرِهِ (الكافي ج‏4 ص576)، وما روي عنه عليه السلام أنَّهُ قال: إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ.

 هل ثار الحسين فعلاً؟!

يُلاحظ على هذا الكلام أمورٌ:

أوّلاً: أنَّ ما فعله الإمام عليه السلام لا يمكن أن يكون من باب (الهَيَجَان والغَضَب والوَثبَة والإنبِعاث)، فهو الإمام المطمئنُّ الذي ظَلَّ وجهه الشريف نَيِّراً حتى آخر لحظاتٍ من حياته المباركة.

 

وهذا قاتله شمرُ اللّعين يقول: فَوَ الله مَا رَأَيْتُ قَطُّ قَتِيلًا مُضَمَّخاً بِدَمِهِ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَنْوَرَ وَجْهاً، وَلَقَدْ شَغَلَنِي نُورُ وَجْهِهِ وَجَمَالُ هَيْئَتِهِ عَنِ الفِكْرَةِ فِي قَتْلِه (اللهوف ص128).

ثانياً: أنَّ معنى (ثار الله) و(ثائر الله) هو أنّه تعالى مَن يطلب بثأره أي بدمه، أو يأمر بالطلب بدمه، والشاهدُ على ذلك في كتب اللغة واضحٌ (كما في مجمع البحرين ج‏3 ص235).

وفي الروايات الشريفة صريحٌ كما في قولهم عليهم السلام: وَأَنَّكَ ثَارُ الله فِي أَرْضِهِ حَتَّى يَسْتَثِيرَ لَكَ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِه‏ (كامل الزيارات ص196).

وفي قولهم عليهم السلام: وَأَنَّكَ ثَارُ الله فِي الأَرْضِ وَالدَّمُ الَّذِي لَا يُدْرِكُ ثَارَهُ [تِرَتَهُ‏] أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الله وَحْدَه‏ (كامل الزيارات ص216).

حتىّ أنَّ ما ورد عن أنّ الأمّة التي قتلت الحسين عليه السلام لا توفَّق لفطرٍ ولا أضحى: حَتَّى يَثُورَ ثَائِرُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) (الفقيه ج‏2 ص175).

قد فُسِّرَ فيها الثائر بالآخذ بالثأر، أي قاتلُ قاتليه، ففي الحديث: والقائم منّا إذا قام طلب بثأر الحسين‏ (تفسير العياشي ج2 ص290).

ثالثاً: أنّ ما فعله الإمام وإن كان فيه طلب الإصلاح، كما في الكلمة الشهيرة عنه عليه السلام: وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً، وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صلى الله عليه وآله، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ (تسلية المجالس ج2 ص 160، وبحار الأنوار ج‏44 ص330).

إلا أنّ طَلَبَ الإصلاح لا يعني بالضرورة العمل المسلَّح، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر له مراتب متدرِّجة آخرها القوّة في مواردها.

وإذا تحقَّقَ الغَرَضُ من المرتبة الأدنى لا تصل النوبة للأعلى، وقد تحقَّقَ ما أراده الحسين عليه السلام بإنكاره على يزيد وامتناعه عن بيعته، ولو أدى ذلك إلى قتله عليه السلام، دون أن يسعى هو لحمل السلاح وقتال يزيد.

لماذا قاتل الحسين عليه السلام إذاً؟

هل أرادَ الإمامُ تغيير نظامَ الحكم بقوّة السلاح؟!

وهَل لنا أن نتأسّى به عليه السلام فنثور على الأنظمة الفاسدة كيفما اتّفق، لنعمل على إسقاطها بقوّة السلاح، وإن أدّى ذلك إلى سفك الدماء وهتك الأعراض؟

لَعلَّ مِثلَ هذه الكلمات صارت مسموعةً في أيامنا المعاصرة، بل صار بعضُ الناس يؤمنُ أنّ الحسين عليه السلام رَمزُ العمل المسلّح بين الأئمة المعصومين، وأنموذجٌ يُقتدى به للعمل على إسقاط الأنظمة الظالمة في زمن الغيبة.

لكنّ عمومَ الشيعة أدركوا منذ اليوم الأوّل خطأ هذا التفسير لما جرى في كربلاء، فبين أيديهم الكثير من الشواهد التي تمنعُ من قبول هذه الأفكار، ويتَّضحُ الأمرُ جلياً بالتأمُّل فيما يأتي من شواهد تؤكد أنّ الإمام عليه السلام ما خَرَجَ للقتال وتغيير الحكم، ومنها:

1. أنه بَذَلّ مهجته لاستنقاذ العباد من الضلالة وإرشادهم إلى باب الهدى والرّشاد، كما ورد في زيارته الشريفة (كتاب المزار ص108).

وليسَ هُناك من تلازُمٍ بين استنقاذ العباد وبين القتال لأجل تغيير نظام الحُكم، بل هما أمران متباينان، ويحصل غَرَضُ الإمام عليه السلام برفع الجهل والضلال والشك، وبالهداية إلى طريق الحقّ، ولو كلَّفَ ذلك سفكَ دمه الطاهر.

2. أنَّهُ زَحَفَ بأسرته

ولم يزحف عليه السلام بجيشٍ حيث قال: أَلَا وَإِنِّي زَاحِفٌ بِهَذِهِ الأُسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ العَدَدِ وَخِذْلَةِ النَّاصِرِ (اللهوف ص98).

والخارجُ لإسقاط نظام الحكم يخرج بجيشٍ لا بأُسرَةٍ يضنُّ بها عن القتل والإبادة، وَهَل يَطلُبُ الإمامُ وهو البصير الخبيرُ ما لا يُدرَك؟! أيُعقل أن يطلب مقارعةَ الحاكم الظالم بلا عدَّةٍ ولا عَدَدٍ؟ مع علمِهِ بخذلان الناصر؟!

3. أنّه كان عالماً بمقتله

وشواهده أكثر من أن تحصى، كقوله لمحمد ابن الحنفية: وَالله يَا أَخِي، لَوْ كُنْتُ فِي جُحْرِ هَامَّةٍ مِنْ هَوَامِّ الأَرْضِ لَاسْتَخْرَجُونِي مِنْهُ حَتَّى يَقْتُلُونِّي (بحار الأنوار ج‏45 ص99).

وكقوله لبني هاشم: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ ألحق [لَحِقَ‏] بِي مِنْكُمْ اسْتُشْهِدَ مَعِي، وَمَنْ تَخَلَّفَ لَمْ يَبْلُغِ الفَتْحَ، وَالسَّلَام (بصائر الدرجات ج‏1 ص482).

4. أنّه لم يبدأ أعداءه بقتالٍ حيث كان أسهل وذلك حينما ذَكَرَ زهير بن القين أنّ قتال جيش الحرّ أهون ممن يأتي بعده، لكنّ الحسين عليه السلام أجاب زهيراً بقوله عليه السلام: مَا كُنْتُ لِأَبْدَأَهُمْ بِالقِتَالِ (الإرشاد ج2 ص84).

5. أنّه لم يلجأ إلى المدد الغيبي

لما لقيته أفواج الملائكة وبأيديهم حِرابٌ من الجنة، وقد أمدَّهُمُ الله تعالى به، ولمّا أتته أفواجٌ من مؤمني الجنّ لنصرته، فما استعانَ بأحدٍ منهم، وليس هذا حالُ من يطلب المُلك والسُّلطان.

6. أنه أذِنَ لأصحابه بالإنصراف

حتى في ليلة عاشوراء حين قال لهم: أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، فَانْطَلِقُوا جَمِيعاً فِي حِلٍّ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ، هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا (الإرشاد ج‏2 ص91).

7. أنّه أراد الإنصراف دون البيعة والقتال وقد تكرَّرَ الأمر منه مراراً، ومن ذلك ما قاله عليه السلام لأعدائه:

وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كَارِهِينَ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى المَكَانِ الَّذِي جِئْتُ مِنْهُ إِلَيْكُمْ، فَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ (الإرشاد ج‏2 ص79).

8. أنّه سيصبر إن لم يُقبل قوله

فقد صرَّح الإمام أنه إن لم يُقبل قوله فليس ممّن يريد القتال، بل إنّه سيصبر، وقد قال عليه السلام:

فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الحَقِّ فَالله أَوْلَى بِالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ الله بَيْنِي وَبَيْنَ القَوْمِ بِالحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ (تسلية المجالس ج2 ص 160).

هذه الشواهدُ وغَيرُها في غاية الوضوح، وقد ذكرناها وسواها بشكل مفصلٍ في محله، وهي تؤكِّدُ أنّ الحسين عليه السلام أراد بيان الحقّ، وهذا هو الإصلاح الذي يبتغيه، ولكن لم يكن مؤسِّساً لخارطة طريق الحركات المسلّحة، وإن استعمل السِّلاح عِندما خُيِّرَ بين السلَّة والذلّة، وفَرقٌ كبيرٌ بين الأمرين.

فمنهجه عليه السلام هو إحقاق الحقّ، ولما خُيِّرَ بين القتال أو اضمحلال الحقّ، اختار الأول، ولمّا خُيِّرَ بين القتال وبين الدَّنية اختار الأول فقال: لَا أُعْطِي الدَّنِيَّةَ مِنْ نَفْسِي أَبَداً (اللهوف ص27).

وما توانى عن تقديم القُربان تلوَ القربان في سبيل الله تعالى، في أعظَمِ فاجعةٍ أبكَت الكونَ بأسرِه، من أعظمٍ قَلبٍ في الكون الرَّحب، قلب المصطفى صلى الله عليه وآله، وبضعته الزهراء، إلى أصغر مخلوقات الله التي لا تُرى.

لقَد ثارَ يزيدُ على الحسين عليه السلام.. وليِّ الله تعالى وخليفته.. ورفع السِّلاح في وجهه.. فسالَت دماءُ الحسين عليه السلام، لكنَّه:

جَعَلَ يَتَلَقَّى الدَّمَ بِكَفِّهِ، فَلَمَّا امْتَلَأَتْ لَطَخَ بِهَا رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَيَقُولُ: ألقَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَا مَظْلُومٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمِي (الأمالي للصدوق ص163).

سلامُ الله عليك يا أبا عبد الله.. أيها المظلوم الشهيد..

وإنا لله وإنا إليه راجعون

*علي شعيب العاملي