الإمام المهدي.. مولود حيّ أم سيولد في المستقبل؟!

إن الإجابةَ على هذا السؤالِ تستوجبُ ذكرَ مُقدّمةٍ مُختصرةٍ حولَ فلسفةِ المهدويةِ في الإسلام، ومِن دونِ ذلكَ لا يمكنُ تحديدُ أيُّ الخيارات أكثرُ انسجاماً معَ هذهِ القضيّةِ، فترجيحُ خيارِ كونِه حيّاً ينتظرُ الإذنَ بالخروج، أو ترجيحَ خيارِ إمكانيّةِ ولادتِه مُستقبلاً، فإنَّ ذلكَ لا يتمُّ إلّا مِن خلالِ فهمِ القضيّةِ المهدوية ضمنَ السياقِ الإسلاميّ لهذهِ القضيّة.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

منَ المؤكّدِ أن بدايةَ الإنسانِ في الأرضِ بدأت بعدَ خلافةِ آدمَ عليهِ السلام، ومنَ المؤكّدِ أيضاً أنَّ خلافةَ آدمَ مثّلَت الخطوةَ الأولى في إقامةِ حُكمِ اللهِ تعالى في الأرض، وهذا ما غابَ عن الملائكةِ فدعاها إلى القول: ﴿أَتَجعَلُ فِيها مَن يُفسِدُ فِيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ﴾، وتخوُّفُ الملائكةِ لم يكُن مِن شخصِ آدم (ع)، وإنّما مِن ذُرّيّتِه، وقد كانَ نزولُ آدمَ إلى الأرضِ معَ نزولِ إبليسَ إليها، وكانَ ذلك بدايةَ الصّراعِ بينَ الحقِّ الذي يتجلّى في أولياءِ الله، والباطلِ الذي يتجلّى في أولياءِ إبليس، ولم يتأخَّر هذا الصراعِ كثيراً، فقد بدأت ملامحُه في أوّلِ ذُريّةٍ لآدم، فقد كانَ هابيلُ امتداداً لإرادةِ الله، وكانَ قابيلُ امتداداً لإرادةِ إبليس، وقد كانَ تعدّي قابيل على هابيل أوّلَ البدايةِ لسفكِ الدمِ والفسادِ في الأرض. 

وهكذا استمرَّ الصّراعُ بينَ ذُرّيّةِ آدم، فكانَ مِنهم الأنبياءُ والمُرسلون وعمومُ الصّالحين، وفي المُقابلِ كانَ هناكَ مَن يُمثّلُ إرادةَ إبليس مِن جبابرةٍ وطواغيت، وفي خاتمةِ المطاف، إما أن تغلبَ إرادةُ اللهِ فيحكمُ الأرضَ الصالحون، ويكونُ في ذلكَ ردٌّ عمليٌّ على تخوّفِ الملائكة، وإمّا أن تغلبَ إرادةُ إبليس ويحكمُ الأرضَ الظالمونَ والمُفسدونَ وبذلكَ تصدقُ نبوءةُ الملائكة، وحينَها تصبحُ خلافةُ آدمَ وبعثُ الأنبياءِ بلا حكمةٍ، إذ كيفَ يجعلُ اللهُ تعالى فيها مَن يفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ، ثمَّ يقولُ ردّاً على الملائكةِ: ﴿إِنِّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمُونَ﴾؟ 

ولا نجدُ معنىً لخلافةِ آدم وبعثِ الأنبياءِ والرسلِ إلّا إقامةَ حُكمِ اللهِ في الأرض، ومَن يفهمُ الدينَ فهماً لا ينتهي إلى وجوبِ حُكمِ الأرضِ بقيادةِ الصالحينَ، فكأنّما يجعلُ جهادَ الأنبياءِ والرّسلِ والصالحينَ جهاداً بلا ثمرةٍ، ورسالةً بلا حِكمة، فبدلَ قولِه تعالى: ﴿وَلَقَد كَتَبنا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، تصبحُ أنَّ الأرضَ يرثُها عبادُ إبليسَ المُفسدون، وهذا ما يتمنّاهُ إبليسُ ويعملُ على تحقيقِه، ولذلكَ طلبَ منَ اللهِ أن يُمهلَه حتّى يومَ البَعث: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنظِرنِي إِلى يَومِ يُبعَثُونَ﴾، أي إلى يومِ القيامة، ولكنَّ اللهَ لم يُمضِ لهُ هذا الطلبَ، لأنَّ هناكَ أجلاً يُهزَمُ فيهِ إبليسُ ويفسحُ فيه المجالُ للصّالحين، ولذا قالَ تعالى ردّاً على طلبِه: ﴿قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ﴾، فلم يكتفِ بالقولِ إنّكَ منَ المُنظَرين، وهوَ كافٍ في الإجابة، كما أنّه لم يقُل: إنّكَ منَ المُنظرينَ إلى يومِ يبعثون، كما كانَ يتمنّى إبليس، وإنّما جعلَ ذلكَ إلى يومِ الوقتِ المعلوم، فهناكَ وقتٌ معلومٌ عندَ الله، يُمثّلُ نهايةَ المُهلةِ لإبليس، وهذا اليومُ الذي لا يعلمُه إلّا الله، هوَ اليومُ الذي يقفُ فيه الفسادُ وسفكُ الدماءِ ويُغَلُّ فيهِ إبليس. 

ومِن هُنا، نفهمُ ردَّ اللهِ سُبحانَه على الملائكةِ عندَما تخوّفَت مِن خلافةِ آدم بقولِها: ﴿أَتَجعَلُ فِيها مَن يُفسِدُ فِيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ﴾، فردَّ اللهُ بقوله: ﴿إِنِّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمُونَ﴾، وما لا تعلمُه الملائكةُ وهوَ معلومٌ عندَ الله، كانَ هوَ الردُّ على تخوّفِ الملائكةِ منَ الفسادِ وسفكِ الدماء، ولا نجدُ في البينِ ردّاً غيرَه، فيا تُرى ما هوَ المناسبُ لتطمينِ الملائكةِ التي تخافُ مِن أن تكونَ الأرضُ محلّاً لوراثةِ الظالمينَ والمُفسدين؟

نحنُ لا نجدُ إلّا أن يكونَ في علمِ اللهِ يومٌ موعودٌ يكونُ بدايةً لوراثةِ الصالحين، ودحرِ إبليس وأنصارِه منَ المُفسدين، وهذا اليومُ هوَ ذاتُه اليومُ الذي جعلَه اللهُ نهايةً لمُهلةِ إبليس: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ﴾، فيصبحُ يومُ الوقتِ المعلومِ هوَ بدايةَ حكومةِ الصّالحين، وهذا ما لَم تكُن تعلمُه الملائكةُ التي رأت حكومةَ الظالمينَ والمُفسدين، ولم ترَ حكومةَ عبادِ اللهِ الصّالحين. 

ومِن ذلكَ يتّضحُ أنَّ حكومةَ الصالحينَ في الأرضِ حقيقةٌ حتميّةٌ لا تستقيمُ فلسفةُ النبوّةِ والرسالةِ إلّا بها، ومِن هُنا لا يمكنُ أن نتوقّعَ نهايةَ عُمرِ الأرضِ ونهايةَ حياةِ الإنسانِ قبلَ تحقّقِ وعدِ اللهِ بوراثةِ الصالحينَ لها، وضمنَ هذا السياقِ نفهمُ الرواياتِ الكثيرةَ والمتواترةَ التي بشّرَت بالمهديّ الذي يملأُ الأرضَ قسطاً وعدلاً بعدَ أن مُلئَت ظُلماً وجوراً. 

والسؤالُ: إذا كانَ اللهُ قد اختارَ بعلمِه منذُ الأزلِ الأنبياءَ والمُرسلين والأئمّةَ الطاهرين واصطفاهُم دونَ خلقِه، فلماذا أخّرَ اللهُ هذا الأمرَ إلى آخرِ هؤلاءِ المُصطفين؟ ولماذا لم يُقِم دولةَ العدلِ على يدي أيّ واحدٍ مِنهم، وكلُّ واحدٍ مِنهم يصلحُ لهذا الأمر، وقد كانَ مِنهم الأنبياءُ أولي العزمِ، وآخرُهم النبيّ محمّدٌ (ص)؟   

ولكي نتمكّنَ منَ الإجابةِ على هذا السؤال، الذي يُمهّدُ لنا الطريقَ لفهمِ الغيبةِ والحِكمةِ مِنها، لا بدَّ أن يرتكزَ فهمُنا على وجودِ حِكمةٍ مِن بعثِ الأنبياءِ والرّسل، وأن بعثتَهم لم تكُن عبثاً، وإنّما لتحقيقِ هدفٍ يشتركُ فيهِ كلّهم، بحيثُ يقتضي هذا الهدفُ ترتيبَهم على الشكلِ الذي تمَّ، وإذا أصبحَ هذا الأمرُ مِن بديهيّاتِ وعيِنا الديني، تصبحُ الإجابةُ لدينا واضحةً، وهيَ كما يلي: 

أوّلاً: إنَّ إرادةَ اللهِ تعالى هيَ التي ترسمُ هذه الأهدافَ للأنبياءِ والرّسل، وليسَ لإرادةِ الإنسانِ حقٌّ في تغييرِها أو تبديلِها. 

ثانياً: إنَّ إرادةَ الإنسانِ هيَ المسؤولةُ عن تطبيقِ هذه الأهداف، وإنزالِها إلى أرضِ الواقع، وهيَ الأمانةُ التي حمّلَها اللهُ للإنسان، بعدَ أن أشفقَت عن حملِها السماواتُ والأرض: ﴿إِنَّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾، فحملَ الإنسانُ المسؤوليّةَ دونَ أن تتدخّلَ إرادةُ اللهِ تعالى لإكراهِه عليها، وبذلكَ أصبحَ الإنسانُ حُرَّ الاختيار، ومسؤولاً عن اختيارِه: ﴿أَنُلزِمُكُمُوها وَأَنتُم لَها كارِهُونَ؟﴾.

ثالثاً: إنَّ حِكمةَ اللهِ تقتضي التدرّجَ في هذهِ الأهداف، وصولاً إلى الهدفِ النهائي.   

رابعاً: إنَّ الهدفَ النهائيَّ لكلِّ الأنبياء، هوَ التوحيدُ في كلِّ الأرض، بحيثُ لا يبقى هناكَ مُشركٌ، وإقامةُ العدلِ والقسطِ في الأرض، بحيثُ لا يكونُ هناكَ ظلمٌ أو فساد، وفي المُقابلِ هناكَ إبليس الذي هدفُه الشِرك، وإقامةُ الفسادِ وسفكُ الدماءِ في الأرض. 

خامساً: إنَّ الوصولَ إلى تلكَ الغايةِ ليسَ موقوفاً على إرادةِ اللهِ فقط، وإنّما إرادةُ الإنسانِ هيَ المسؤولةُ عن تحقيقِ تلكَ الغاية، فإرادةُ اللهِ تقتضي إرسالَ الأنبياءِ للناسِ لهدايتِهم وإرشادِهم لِما فيه صلاحُهم، وإرادةُ الإنسانِ تقتضي طاعتَهم والانقيادَ إليهم. 

والجمعُ بينَ هذه النقاط، يتضمّنُ الإجابةَ على السؤالِ الذي تقدّم، فالأمرُ ليسَ موقوفاً على إرادةِ اللهِ فقط، ولو كانَ كذلكَ لخلقَ اللهُ الناسَ مؤمنينَ مُطيعين كما جعلَ الملائكة، وإنّما امتحنَ اللهُ خلقَه بطاعةِ رُسلِه، ولم يُجبِرهم على هذهِ الطاعة، ولكنَّ الإنسانَ بظُلمِه وجهلِه حملَ هذهِ المسؤوليّة: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾، وتمرّدَ بظُلمِه وجهلِه على أنبياءِ الله ورُسلِه وتبعَ أهواءَه التي زيّنَها له إبليس، وليسَ لنا أن نتوقّعَ أن ينوبَ اللهُ عنّا في مُحاربةِ الظلمِ والفسادِ الذي انتشر، لأنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنفسِهم. 

ومنَ المعلومِ بالضرورةِ أنَّ الاصطفاءَ الإلهيّ لأوليائِه لا يقومُ على الاختيارِ العشوائي وإنّما يصطفي مِن بينِ خلقِه مَن يستحقُّ ذلكَ المقام، قالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبرَاهِيمَ وَآلَ عِمرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعضُهَا مِن بَعضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وبما أنَّ النبيَّ محمّد (صلّى اللهُ عليهِ وآله) آخرُ الأنبياءِ والمُرسلين فالطريقةُ الوحيدةُ لمعرفةِ أولياءِ اللهِ مِن بعدِه هيَ التنصيبُ والتعيين، وبما أنَّ اللهَ ورسولهُ جعلوا في هذهِ الأمّةِ اثنا عشرَ إماماً فحينَها لابدَّ أن يكونَ المهديُّ الذي يقيمُ دولةَ التوحيدِ الكُبرى واحداً مِنهم. 

وكما بينّا فإنَّ وجودَ النبيّ أو الإمامِ لا يكونُ كافياً لإقامةِ تلكَ الدولة، وإنّما يتعيّنُ على الأمّةِ مُناصرةُ مَن اختارَه اللهُ وعيّنَه لهذهِ المسؤوليّة، إلّا أنَّ الذي حدثَ هوَ أنَّ الأمّةَ لم تكتفِ بعدمِ مُناصرتِهم وإنّما تعدَّت عليهم وقاتلَتهم، وعندَما لم يبقَ منَ المُصطفينَ الاثني عشر إلّا واحدٌ تدخّلَت إرادةُ اللهِ لحِفظه إلى حينِ تستوعبِ الأمّةُ مسؤوليّتَها وتعقدُ العزمَ على مُناصرَتِه. 

وعليهِ إذا كانَ عددُ الأئمّةِ مِن بعدِ رسولِ اللهِ محصورٌ في الاثني عشرَ إماماً مِن أهلِ البيتِ عليهم السلام، فإنَّ الحِكمةَ تقتضي حفظَ آخرِ هؤلاءِ المُصطفين، حتّى يعرفَ الناسُ فضلَه ومكانتَه، فحينَ تحيرُ بهم السبلُ وتسوَدُّ الدّنيا أمامَهم، وبعدَ أن تُملأ الدّنيا ظُلماً وجوراً، حينئذٍ تتعلّقُ القلوبُ بالمُنقذِ الذي أعدَّه اللهُ لإقامةِ العدلِ والقسط. 

ومِن هُنا نفهمُ أنَّ وجودَ المهديّ حيّاً بينَ ظهرانيّ هذهِ الأمّةِ يُكرّسُ مسؤوليّةَ الأُمّةِ تجاهَ قضيّتِه وإقامةِ دولتِه، فقد أقامَ اللهُ الحُجّةَ عليهم كاملةً عندَما أوجدَ لهم الإمامَ الذي يقودُهم، فاللهُ لا يفرضُ إرادتَه على الناس، وكلُّ ما عليهِ هوَ أن يُوجِدَ لهم هذا المُصلحَ الذي يقودُهم، وقد أوجدَه، ويبقى الأمرُ مُعلّقاً على إرادةِ الناس، بتهيئةِ النفوسِ على طاعتِه والانقيادِ له، وحينئذٍ يصبحُ وجودُه حيّاً في هذهِ الأُمّة، شاهِداً على تقصيرِنا وإسرافِنا وظُلمِنا لأنفسنا، وبالتالي يكونُ حافِزاً لنا يدفعُنا دوماً إلى الأمام، مِن أجلِ التحلّي بقيمِ الحقِّ والعدلِ والالتزام؛ لأنَّ العملَ هوَ الطريقُ إلى الفرج: (إنَّ أفضلَ الأعمالِ انتظارُ الفرج)، وبالتالي يصبحُ الجميعُ مسؤولينَ أمامَ هذهِ المُهمّة، وهذا ما يجعلُ قضيّةَ الغيبةِ تنسجمُ معَ فلسفةِ الإسلامِ وحِكمتِه. 

أمّا لو لم يكُن قد وُلدَ بعد كما يعتقدُ الآخرون، فلا يكونُ الأمرُ مُعلّقاً بإرادةِ الإنسان، وذلكَ لأنَّ الإنسانَ يكونُ مسؤولاً عن اتّباعِ أولياءِ الله، فإذا لم يُوجِد اللهُ لهم إماماً يقودُهم فلا يتعلّقُ بذمّتِهم أيُّ مسؤوليّة، فعندَما تتخلّى إرادةُ اللهِ عن إيجادِ مَن يقومُ بإقامةِ القسطِ والعدل فما عساها أن تفعلَ إرادةُ الإنسان، فمنَ المُستحيلِ أن يجزمَ الإنسانُ بولادةِ المُنقذِ في العصرِ الذي هوَ فيه، وحينَها سيصبحُ الإنسانُ مُحبَطاً مُستسلِماً أمامَ الظلمِ والفسادِ الذي يملأ الأرض.

نقلا عن mohammed