ما الجذور الدينية لمقولة: ’حفظ النظام’ في الفقه الشيعي؟

تأصيل مقولة: "حفظ النظام"

قيل: إنّ النبي عقلٌ ظاهر، والعقل نبي باطن.. وفي المجرى نفسه قيل أيضاً: الشرع عقل من خارج، والعقل شرعٌ من داخل.. وغير بعيد عن ذلك القانون الأصولي: ما حكم به العقلُ حكم به الشرع.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وتشير هذه الكلمات ذات اللفظ المختلف والمعنى المؤتلف إلى واحد من أهمّ المبادئ المكتنهة في منظومة المعرفة الدينية/الشيعية أصولاً وفروعاً. وهو مبدأ غائب عن شرائح واسعة من المؤمنين أو على الأقل لم يتجذّر بعدُ في أجواء المعرفة الدينيّة العامّة؛ بشهادة المطالبة المتكررة والدائمة بنصّ ديني من آية أو رواية على العديد من القضايا، مثل: المطالبة برواية تنصّ على تقليد الفقيه، أو على تسليم الخمس إلى الفقيه، أو على وجوب بل ضرورة حفظ النظام!، وغيرها من مسائل، وذلك يؤشّر بوضوح على انحصار تلك المنظومة فهماً وتوظيفاً بالنخبة من العلماء!

الأحكام كلّها تابعة للمصالح والمفاسد

والموضوع أوسع بكثير من تناوله في مدخل مقتضب وسريع ضمن مقال مختصر قد أفصح في عنوانه عن دواعيه: (تأصيل مقولة: حفظ النظام). بيد أنّ ما لابدّ من تناوله باقتضاب أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للملاكات، وخاضعة للمصالح والمفاسد. كذا ينصّ ويردد علماء الشيعة طُراً، مشيرين بذلك إلى الإيمان بوجود قيمة موضوعية حقيقية للأفعال جميعاً؛ ومن أجل هذا وبناءً عليه وحسب تلك القيم التي تنطوي عليها الأفعال تدور الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة وتثبت لها، فما من واقعة تخلو من إحدى حالات خمس: إمّا تنطوي خير شديد، أو شرّ كذلك، أو خيرها غالب على شرها، أو بالعكس، أو خيرها وشرها متساويان، ولك أن تستبدل هذا البيان بآخر فنّي: الأفعال إمّا تنطوي على مصلحة أو مفسدة أو تخلو منهما، وهذا أمرٌ واضح ومقطوع به؛ نظراً للثنائية الحاصرة والقسمة العقليّة الدائرة بين النفي والإثبات، لكن ما يحتاج إلى بسط في القول هو آلية اكتشاف الملاكات الكامنة في الموضوعات، وسبيل الوصول للمصالح والمفاسد في الأفعال، وطريقة الوقوف على قيم الخير والشر فيها؛ بغرض اعطاء الحكم الشرعي المناسب للحالة.

قدرة العقل على اكتشاف بعض الملاكات

وهنا تحديداً: تتميّز منظومة المعرفة الدينية/ الشيعية عن غيرها، بإعطاء مساحة للعقل بوصفه هبة إلهيّة لبني البشر في اكتشاف الملاكات، والإيمان بقدرته الجزئية على تحديد المصالح والمفاسد في الأفعال، وعند بلوغه هذه المرتبة من الإدراك فإنّه يحكم بالحسن على ما أدرك فيه مصلحته، وبالقبح على ما فيه مفسدة، والقاعدة المقرّرة في الأصول: أنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع؛ لأنّ مصدر الاثنين واحد، ومن أوضح ما استقل العقلُ بمعرفة ملاكه (العدل والأمانة، والظلم والخيانة)، وفي ضوء هذا ادراك المصلحة أو المفسدة فيها حكم بحسن العدل والأمانة، وبقبح الظلم والخيانة.. وعلى هذه المساحة ينطبق الشطر الثاني من العبارة في صدر المقال: العقلُ نبيٌّ باطن.!

إلا أنّ هذه القدرة على اكتشاف الملاكات في الأفعال ثمّ الحكم عليها ليست مطلقة، بل هي كما قلنا: قدرة جزئية ومحدودة ولا تطال كلّ شيء، فثمّة أفعال يتوقف العقل عن ادراك ملاكها، ولا يقول شيئاً عنها، وهي الغالبية العظمى من الواجبات العباديّة وتفاصيلها، كالصلاة والصيام، والحج.. وهكذا يصمت العقل البشري عن كثير من الأفعال المحرّمة في الشريعة، كالغناء والإجهاض وأكل الذبيحة غير المذكاة، وهكذا. وهنا يأتي دور العقل الظاهر: (الأنبياء والرسل والأئمة) لكشفوا وعبر النصّ الشرعي عن وجوه المصالح المفاسد التي عجز عنه العقل البشري عن ادراكها، فيعربوا عن وجوب ذي المصلحة وحرمة ذي المفسدة مما لم تتناوشه يد العقل ادراكاً.

الأحكام: أولية وثانوية

وسواء أكان المدرك والدليل هو النص أو العقل أو العقلاء أو غيرها؛ فإنّ الحكم الشرعي الواقعي ينقسم  إلى أولي وثانوي، والتسمية تفصح عن المعنى، فالحكم الأولي هو الحكم الثابت في الأوضاع الطبيعية والحالات الاعتيادية، إنّه حكم على الأشياء حسب حالتها الأولى ودون ملاحظة الحالات الطارئة التي قد تعتورها، فوصف الكذب مثلاً بالقبح عقلاً وبالحرمة شرعاً-إنّما يتحقق لعنوان الكذب في حالته الأولى المجرّدة عن الاضافات التي تؤثّر في الحكم، كما لو كانت تلك الاضافة الطارئة على الكذب هي: اصلاح ذات البين، فهذه من شأنها تغيير العنوان من مجرّد كذب إلى الكذب الاصلاحي، وبتغيّر العنوان الأوّلي (الكذب) فإنّ الحكم الأولي (الحرمة والقبح) أيضاً لا يبقى فاعلاً، بل تنشط حالة الحكم الثانوي، ليكون الحكم هو (الكذب الإصلاحي جائز، وغير محرّم ولا قبيح)، وهكذا الأمر في سائر الأحكام والموضوعات الأخرى.

العناوين الثانويّة: دورها وأهميّتها

وبالرغم من اشتراك النوعين في أنّهما واقعيان إلا أنّ المائز بينهما الأحكام الأوليّة تتصف بالشمولية والاستيعاب لجميع الناس، بينما الأحكام الثانوية تعالج حالاتٍ غير عاديّة، وأُنشئت لظروف استثنائية ومن ثمّ فالمستهدف في خطابها هم خصوص من واجههم العنوان الجديد، وحسب المثال: خصوص من رام الصلح بين المتخاصمين، ولم يجد بدّاً من الكذب، والذي يعنيه هذا الفارق أنّ الأهميّة أو التقديم والفاعليّة والهيمنة هو لصالح الأحكام الثانويّة، ولك أن تقول وبلغة معاصرة: إنّ الأحكام الثانوية موادٌ دستورية، بينما الأحكام الأوليّة موادٌ قانونيّة، وسيأتي الإسهاب أكثر في هذه النقطة تحديداً.

وتُعنى المدونات الفقهيّة، والرسائل العمليّة في غالبها ببيان الأحكام الشرعية الأوليّة، وأمّا الأحكام الثانويّة فحيث إنّها تعالج الحالات الاستثنائية؛ لذا كان بعضاً منها مبثوثة بين المسائل الشرعيّة، وموزعة على الأبواب الفقهيّة كما أنّ القواعد الفقهية والمسائل الأصوليّة كذلك، وكنت قد اقترحت على بعض الفضلاء بمهمة الاعتناء بها وابرازها عبر كتابة بحث أو دراسة خاصّة بها -على غرار ما كُتب بشأن القواعد الفقهية مثلاً- فيشتمل البحث مثلاً على بيان أهمية العناوين والأحكام الثانوية في الشريعة، ودورها في تعطيل الأحكام الأوليّة، وتأكيد واقعيتها كالأوّليّة، ويحصى فيه أيضاً أكبر قدر ممكن منها مع أدلتها، ونصوصها وشواهدها وتطبيقاتها، إلى غير ذلك من المسائل ذات الصلة، وهي كثيرة جدّاً، ومشتبكة ومتداخلة مع العديد من كبرى القضايا الشرعية، والمسائل الأصوليّة، والقواعد الفقهية:

فمن العناوين الثانوية المهمّة والمعروفة: عنوان الضرر، وعنوان العسر والحرج، وعنوان الاضطرار والإكراه، وهكذا اليمين والعهد والنذر..، وعنوان الأهم، و عنوان: التقية، وهكذا عنوان: حفظ النظام أيضاً وإلخ، وتشير هذه العناوين إلى مبادئ وقوانين عليا، فيمثّل كل واحد منها ويحيل إلى مبدأ أعلى، وقانون حاكم، وقضيّة نافذة، ومادة دستوريّة، فعنوان الضرر مثلاً، يشير لقاعدة فقهية عرفت بـقاعدة: نفي الضرر، أو قاعدة لا ضرر ولا ضرار، التي ينفى بموجبها كلّ حكم شرعي ينطوي على ضرر، وهكذا عنوان الأهمّ: يشير لقانون أصولي يحتّم تقديم الأهم على المهم عند تزاحم تكليفين، وتداخل واجبين في وقت واحد. وهكذا الكلام في البقية، ومثلما مرّ علينا: ليس هناك من كلام فيما لو تحقق العنوان الأولي وحده، وإنّما الكلام فيما إذا طرأ عليه عنوانٌ ثانويٌّ، فعندها يتضارب العنوانان، ويتعارضان، فيقدّم الثانوي، وهذا أدل دليل على فوقانيته وحاكميته على العنوان الأولي، كما في المثال الآتي:

ينص الحكم الأولي –مثلاً-على حرمة أكل لحم الميتة، لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : 3] الذي جاء مطلقاً وغير مقيد للحرمة بحالة دون أخرى، فيشمل لفظ الآية جميع الحالات، فحتى لو كان الإنسان مضطراً لأكل الميتة فإنّ الحرمة تشمله حسب اطلاق الآية!

وينص أحد بنود الأحكام الثانويّة العامة على نفي أي حكم ضرري وبقول مطلق أيضاً، لقوله (ص): لا ضرر. ومن ثمّ يقع التنافر في حالة أكل الميتة التي تحفظ للإنسان حياته، ويتضرر من ترك الأكل منها.

وفي هذه الحالة: هل الفاعلية لقانون: تحريم أكل الميتة، الشامل بلفظه لحالة الضرر، أو أنّ النفوذ لمبدأ: لا ضرر. المطلق حتى مع الميتة؟ يقدّم ويفعّل مبدأ عدم الضرر، ويلغى في تلك الحالة قانون حرمة أكل الميتة، ليصبح: جواز أكل الميتة؛ نظراً إلى أنّ (لا ضرر) هو أحد المبادئ الدستورية المقدّمة على القوانين والأحكام الشرعيّة العاديّة، وبعبارة أصولية: إنّ مبدأ عدم الضرر ناظر لأدلة الأحكام الأولية، وحاكم عليها، ومعنى النظر والتقديم هنا هو أنّ جميع الأحكام الأولية مقيدة به ضمناً: فتحرم أكل الميتة إلا لو كان في أكلها حفظ للنفس من الهلاك فلا يحرم أكلها، وهكذا: يجب الصيام إلا إذا كان مضّراً فلا يجب، ويحرم شرب الخمر إلا مع الاضطرار، ويجب الحج مع عدم التضرر، والأمر بالمعروف والغسل...إلخ.

تطبيق ذلك على مقولة: حفظ النظام

إنّ واحداً من أهمّ العناوين الثانوية الحاكمة والناظرة للأحكام الأوليّة هو عنوان "حفظ النظام، أو عدم الإخلال به"، تماماً كسائر العناوين الأخرى التي مرّت الإشارة إليها من قبيل: نفي الضرر والعسر والحرج والتقيّة.. إلخ، وكما أنّ هذه ليست مجرّد عناوين أو قوانين عابرة كذا: (ضرورة حفظ النظام، وعدم الاخلال به)، مثلها بل أهمّها، ولا أقول من أهمّها؛ للتقرير العقلي الآتي:

إنّ غاية الأحكام الشرعيّة/ القانونية هي إقامة العدل، ونفي الظلم، و الحديث عن مطلوبيّة العدل وحسنه، ومبغوضيّة الظلم وقبحه حديث عقلي في المقام الأوّل، ومثلما قد تمّت الإشارة من قبل إلى أنّ الحاكم بحسن بعض الأفعال وقبحها وعلى رأسها: حسن العدل وقبح الظلم؛ هو شرع الله الداخلي، و حجّته الباطنة على الناس (العقول)، ومن ناحيّة أخرى فإنّ الغاية الداعية للعقل والعقلاء الى تحسين العدل وتقبيح الظلم هو "كون العدل مما ينحفظ به النظام، وكون الظلم بعنوانه مما يختل به النظام، وانحفاظ النظام هي الفائدة المترقبة من العدل، واختلال النظام هي المفسدة المترتبة على الظلم. (الإصفهاني-نهاية الدراية، ج4،ص40)

ومثل هذا النوع من القضايا الثابتة لدى العقل أو العقلاء في المقام الأول، ثم يقررها الشرع ويمضيها، يقال لها: بالأحكام الإمضائية التي تشمل الحكم العقلي، وتشمل أيضاً الأحكام والسنن والقوانين التي يسير عليها العقلاء في المجتمعات البشرية عامة وأقرّها الإسلام وأمضاها، ويمكن أن تندرج ضرورة حفظ النظام أو عدم الإخلال به في النحوين معاً. ويرشد إلى المقولة أيضاً ما ورد من وصيّة لأمير المؤمنين لولديه (عليهم السلام): أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم.. (نهج البلاغة،47، ت: صبحي الصالح).

وبما بدأنا نختم: ما حكم به العقلُ يحكم به الشرع، أو مثلما جاء في الحديث: إن لله على الناس حجّتين: حجةً ظاهرةً، وحجةً باطنةً، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة - عليهم السلام -، وأمّا الباطنة فالعقول.(الكافي،ج1، باب: العقل والجهل، ح12).