حجاب المرأة فريضة أم عادة؟!.. رداً على قناة «الحرة الأمريكية»

يروى ان الأعشى خرج الى رسول الله (ص) يريد الإسلام، فقيل له انه يحرم الزنا. فقال: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب. فقيل له: انه يحرم الخمر: فقال: انها مذهبة للعقل، فقيل: هل لك ان تترك الإسلام ولك مائة ناقة، فقال: اما هذه فنعم. فأخذها وسار بها، إلا انه قبل ان يصل الى داره وقع من على ظهر الناقة ومات، فأضاع المشيتين مثل الغراب، فهو لم يُسلم ولم ينتفع بالأبل. وهذا حال الكثير من مثقفينا ـ مع الأسف ـ فتراهم يحاولون الجمع بين سلوكيات الغربيين والتراث الديني والاجتماعي، رغبة في اللحوق بركبهم والتقدم مثلهم من خلال تحديث الفقه الإسلامي! إلا انهم لم يحصلوا لا على بلح الشام ولا على عنب اليمن، فلا هم ساروا بسيرة الغرب وانفصلوا عن هويتهم تماماً، ولا هم التزموا بها وأخذوا بمسلماتها، ومن هؤلاء المقدم المصري ابراهيم عيسى الذي طرح مسألة حجاب المرأة في الإسلام من خلال برنامجه (مختلف عليه) عبر قناة الحرة، واعتبره زياً اجتماعياً ليس له منشأ ديني، فقد كانت النساء قبل الإسلام تلتزم بتغطية الرأس ـ حسب قوله ـ بل هو من ثقافات الشعوب الأخرى، وإن الآيات التي تحدثت عنه مختصة بنساء النبي (ص) وايضاً ليس المراد منه في هذه الآيات ستر الرأس والبدن، وإنما وضع حاجز مكاني كستارة او باب ونحوه، والخلاصة ليس للحجاب ـ الذي يعده الفقهاء فرضاً ـ منشئاً دينياً.

حجاب المرأة قبل الإسلام

وإذا رجعنا الى كتب المؤرخين وجدناها  تكذب الدعوى المتقدمة، فكانت النساء في الجاهلية لا يلتزمن بزيهن بالتستر الكامل. وكن يختلطن بالرجال ويجالسنهم، ويحضرن المجالس العامة، ويرتدن الأماكن العامة كالأسواق. وكانت ثيابهن لا تستر جميع البدن، بل يبقى بعض الرأس والأذنان والعنق والصدر مكشوفة، وكذلك الذراعان والقدمان.

قال الزمخشري: «كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يستدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة.. وكانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل انها كانت تضرب إحدى رجليها الأخرى ليعلم انها ذات خلخالين». الكشاف، ج3، ص62 ـ 63.

وقال السيوطي: «عن سعيد بن جبير، قال: إن المرأة كانت يكون في رجلها الخلخال فيه الجلاجل، فإذا دخل عليها غريب تُحَرِّكُ رجلها عمداً ليسمع صوت الخلخال». الدر المنثور، ج6، ص186.

وقال الغرناطي: «كن في ذلك الزمان يلبسن ثياباً واسعات الجيوب يظهر منها صدورهن. وكن إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة يُسدلنها من وراء الظهر فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها..». التسهيل في علوم التنزيل.

وأورد الطبري في ذلك مثل ما ذكرناه. وقد استمر الوضع على ذلك بعد الإسلام الى ما بعد الهجرة، حيث نزل تشريع الحجاب في سورة النور، وتدل الروايات الواردة في ظروف نزول آية الحجاب على ذلك وسيأتي ذكر بعضها. من هنا يتضح الخطأ في قول ابراهيم عيسى في ان الحجاب كان هو الحالة السائدة بين نساء العرب قبل الإسلام. بل ان قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الأحزاب: 59، يكشف بوضوح ان الحالة السابقة هي عدم ارتدائهن الحجاب، وأنه صار علامة على ان المرأة التي ترتديه مسلمة حرة فلا تؤذى (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

وقد يعتمد القائلون بوجود الحجاب قبل الإسلام على ما ذكره (وول ديورانت)، حيث قال: «كان للمرأة مقام رفيع على عهد زرادشت، فكانت تخرج بين الناس بكل حرية وبوجه مكشوف...وبعد داريوش انخفضت منزلة المرأة، وخاصة في طبقة الأثرياء. إلا أن المرأة الفقيرة ظلت محافظة على حريتها بالنظر الى اضطرارها الى الاختلاط بالناس للحصول على عمل، ولكن بالنسبة للطبقات الأخرى، فإن فترة الحيض التي كانت تقضيها المرأة محتجبة عن الناس، بحسب القانون، قد امتدت بالتدريج لتشمل فترة حياتها الاجتماعية كلها وهذا يعتبر اساس ارتداء الحجاب عند المسلمين». قصة الحضارة، ج1، ص552. ويقول في موضع آخر: تسبب عن اتصال العرب بإيران انتشار الحجاب واللواط في البلدان الإسلامية». نفس المصدر، ج11، ص112.

ولكن ماذا يقصد بقوله: «وهذا يعتبر اساس ارتداء الحجاب عند المسلمين»؟

فالظاهر انه يقصد ان الحجاب الرائج بين المسلمين يعتبر من العادات التي اقتبسها المسلمون من الايرانيين بعد اعتناقهم الإسلام.

لكنه مردود، لأن آيات الحجاب قد نزلت قبل دخول الايرانيين للإسلام، أضف الى ذلك ان ويل ديورانت هذا يتكلم بشكل يتصور معه المرء أنه لم يكن على عهد النبي (ص)اي قانون يخص الحجاب، وإن المرأة كانت خلال القرن الأول تروح وتغدي بغير حجاب مطلقاً، لا شك ان الأمر ليس كذلك، والتاريخ يشهد بخلاف ذلك شهادة قاطعة.

فقد كانت المرأة في الجاهلية فعلاً مكشوفات الشعر، وإنما يسدلن الخمار وراء ظهورهن، الا ان الإسلام غير ذلك، فقد كانت عائشة تثني على نساء الأنصار بقولها: «ما رأيت خيراً من نساء الأنصار لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن الى مرطها المرحل فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن وكأن على رؤوسهن الغربان». الكشاف: ذيل الآية 31 من سورة النور. وروى ابو داوود في سننه عن أم سلمة أنها قالت: «بعد نزول آية (يدنين عليهن من جلابيبهن)، من سورة الأحزاب فعلت نساء الأنصار ذلك».  سنن ابي داوود: ج2، ص382.

حجاب المرأة بعد الإسلام

لا ريب في وجوب الحجاب على المرأة البالغة سن التكليف. وهذا التستر هو ما اشتهر الاصطلاح عليه بـ(الحجاب) وهو تسامح في التعبير عن موضوع الحكم الشرعي، فإن الحجاب في الشرع الإسلامي، حكم خاص بنساء النبي (ص) ولا يشمل سائر النساء المسلمات. وقد دل عليه قوله تعالى في سورة الأحزاب المدنية:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) الأحزاب: 53. إن هذه الآية حددت علاقة رجال المسلمين بنساء النبي (ص) خاصة، فمنعت من دخول بيوت النبي (ص) ـ وهي بيوت نسائه ـ من غير إذن، وأجاز لهم الدخول إذا دعاهم النبي (ص) الى تناول الطعام، ومنعت من المكث فيها بعد ذلك، كما منعت من الاتصال المباشر بنساء النبي (ص) إذا قضت الحاجة بالحديث معهن، وأمرت بأن يكون الحديث معهن في هذه الحالة ( مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ )، باب او جدار او ستر.

وهذه الأحكام لا تسري على سائر النساء المسلمات اللاتي يجوز لهن الاتصال المباشر بالرجال الأجانب واتصال الرجال بهن في الحياة العملية والسياسية والاجتماعية، ويجوز لهن ولهم الحديث بصورة مباشرة.

هذا هو الحجاب بالنسبة الى نساء النبي (ص) خاصة. وأما ما اصطلح عليه بـ (الحجاب) بالنسبة الى سائر النساء المسلمات، فهو ستر بشرة بدن المرأة عن الأجنبي البالغ، فدليله القرآني قوله تعالى: (َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الاحزاب: 59، والآية صريحة في وجوب ارتداء الجلباب ـ وهو قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر ـ على جميع نساء المسلمين بما فيهن نساء وبنات النبي (ص). «والمراد من (يُدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ». تفسير الأمثل ج13، ص349.

وكذلك قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: 31. والآية صريحة في حرمة إبداء الزينة لكافة المسلمات، وليس المراد حرمة إظهار الزينة بما هي هي وإنما حرمة ما تحتها من البدن، وكذا هي صريحة في وجوب تغطية الرأس والصدر لقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ).

وفي الختام نسأل: هل كانت هذه الآيات غائبة عن مقدم البرنامج، أم انه يأخذ ببعض القرآن دون بعض، وجعل القرآن عضين.