الإمام الكاظم (ع) والسياسة: كشف انحراف السلطة بـ ’’العزلة ومقاطعة الدولة’’

السيرة الذاتية للإمام موسى الكاظم (ع)

الإمام السابع من أئمة أهل البيت (ع) هو الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) كان يُعرف بالعالم وبالكاظم وبالعبد الصالح ويُكنَّى بأبي الحسن وبأبي إبراهيم.

 

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

 

مولده ونشأته:

وُلد الإمام الكاظم (ع) في موضع يُسمَّى (الأبواء) يقع بين مكة الشريفة والمدينة المنورة، وكان ذلك في السابع من شهر صفر سنة ثمانٍ وعشرين ومائة، وقيل بعد هذه السنة بسنة، وأمُّه يُقال لها حميدة المُصفَّاة أو البربرية كانت معروفة بالزهد والصلاح.

وقد رُوي عن الإمام الرضا (ع) انَّه كان ممن تكلَّم في المهد، وقد وردت في ذلك رواياتٌ عديدة، منها ما رواه أبو بصير في حديثٍ طويل انَّ الإمام الصادق (ع) حين بُشّر بمولد الكاظم (ع) قام من مجلسه الذي فيه عددٌ من أصحابه وذهب إلى السيدة حميدة ثم عاد إلى المجلس وقال: "إنَّ الله وهب لي غلاماً وهو خير مَن برأَ اللهُ في خلقه"(1) وإنَّه لما سقط من بطنها سقط واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء وقال: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(2). وأفاد (ع) انَّ ذلك من أمارات الإمامة.

نشأ الإمام (ع) في كنف أبيه الإمام الصادق (ع) وكان يرعاه أشدَّ الرعاية ويتولَّى هو بنفسه تنشأته وتعليمه، وكان له موقعٌ متميِّز في قلب أبيه حتى ورد انَّه كان يقول (ع): "وددتُ انْ ليس لي ولد غيره لئلا يُشركه في حبي أحد"(3).

ورُوي انَّه كان يقول لابنه عبد الله -الذي يكبر الإمام الكاظم (ع)- يلومه ويعاتبه ويعظه: "ما منعك ان تكون مثل أخيك، فوالله إنِّي لأعرف النور في وجهه"، فقال عبد الله: لمَ؟ أليس أبي وأبوه واحد وأصلي وأصله واحد؟، فقال له أبو عبد الله (ع): "إنَّه من نفسي وأنت ابني"(4).

وظلَّ الإمام الكاظم (ع) في رعاية أبيه مدةَ عشرين سنَّة، كان يقدِّمه فيها لشيوخ تلامذته وتلامذة أبيه الباقر (ع) كزرارة وأبي بصير والمفضَّل بن عمر وعبد الله بن مسكان ومؤمن الطاق وصفوان الجمال وغيرهم، فكان يُعرِّفهم بمقامه السامي وموقعه عند الله تعالى وانَّه الذي اجتباه الله تعالى واصطفاه للإمامة والريادة للأمَّة من بعده، وانَّه وليُّ الله وحجَّتُه على عباده وانَّ من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى.

الدلائل على إمامته (ع):

مضافاً إلى النصوص العامة كآية التطهير وآية المودة وحديث الثقلين وحديث السفينة والروايات التي نصّت على أسماء الأئمة (ع) واحدٍ بعد الآخر فإنَّ ثمة نصوصاً تفوق حدَّ التواتر رواها الثقاة الأجلاء عن الإمام الصادق (ع) صريحة في تعيُّن الإمامة في الإمام الكاظم (ع).

فمّما ورد في ذلك ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد والطبرسي في إعلام الورى بسندٍ عن الإمام الصادق (ع) انَّه قال لجماعة من خاصته وأصحابه: "استوصوا بموسى خيراً فإنَّه أفضل ولدي ومَن أُخلِّف بعدي وهو القائم مقامي والحجَّةُ لله عزَّوجل على كافة خلقه من بعدي"(5).

ومنه: ما رواه الصدوق بسنده عن المفضَّل بن عمر قال: دخلتُ على سيدي جعفر بن محمد (ع) فقلتُ: يا سيدي لو عهدتّ إلينا في الخلف من بعدك؟، فقال (ع) لي: "يا مفضَّل، الإمام من بعدي إبني موسى"(6).

ومنه: ما رواه المفيد في الإرشاد عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد الله (ع) أبا الحسن يوماً ونحن عنده فقال لنا: "عليكم بهذا بعدي فهو والله صاحبكم بعدي"(7).

ومنه: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنَّ الوصية نزلت من السماء على محمد (ص) كتاباً لم ينزل على محمد (ص) كتاب مختوم إلا الوصية فقال جبرئيل (ع): يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله (ص): أيُّ أهل بيتي يا جبرئيل؟، فقال: نجيب الله منهم وذريته ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم وميراثه لعلي وذريتك من صلبه، وكان عليها خواتيم ففتح عليٌّ الخاتم الأول ومضى حتى فتح الحسن الخاتم الثاني .."، فقال معاذ بن كثير: فقلت: أسأل الله الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة انْ يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات، قال (ع): "قد فعل اللهُ ذلك يا معاذ"، قال: فقلتُ: فمَن هو جُعلت فداك؟، قال هذا الراقد فأشار بيده إلى العبد الصالح، وهو راقد(8).

هذا مضافاً إلى ما ثبت نقله بالتواتر الإجمالي مما كان يظهر على يديه من دلائل وكرامات لا يتَّفق صدورها مجتمعةً إلا لمَن اجتباه الله لدينه واصطفاه دون خلقه وجعله قيِّماً على عباده خصوصاً وانَّ ظهورها على يديه كانت تكتنفه دعوى الإمامة والخلافة لرسول الله (ص)، فذلك يُورث القطع بصدق دعواه، إذ لو لم تكن كذلك لاستحال على الله جلَّ وعلا تمكينه وإقداره على إظهار الخوارق من الأمور وإلا كان في ذلك تضليل من الله تعالى للعباد وإغراءٌ لهم بالباطل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وعلى هذا الدليل قامت الرسالات والنبوات وبه تثبت الإمامة أيضاً.

فمِّما أُثر عنه هو ما أكثَر الرواةُ الثقاة نقله من إخباراته بالمغيبَّات وسرعة الإستجابة لدعواته بتفاصيلها ودقائقها.

فمن ذلك ما ورد في قرب الإسناد عن حماد بن عيسى قال: دخلتُ على أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) بالبصرة فقلتُ له: جعلتُ فداك ادعُ الله تعالى انْ يرزقني داراً وزوجةً وولداً وخادماً والحجَّ في كلِّ سنة، قال: فرفع يديه ثم قال (ع): "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وارزق حماد بن عيسى داراً وزوجةً وولداً وخادماً والحجَّ خمسين سنة"، قال حماد: فلمَّا اشترط خمسين سنة علمتُ إنِّي لا أحج أكثر من خمسين سنة، قال حماد: وقد حججتُ ثمانية وأربعين سنة وهذه داري وقد رُزقتُها وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني وهذا خادمي، وقد رُزقتُ كلَّ ذلك، فحجَّ بعد هذا العام حجتين تمام الخمسين ثم خرج بعد الخمسين حاجَّاً فزامل أبا العباس النوفلي فلمَّا صار في موضع الإحرام غرق في الوادي فمات قبل انْ يحجَّ زيادةً على الخمسين(9).

ومنه: ما ورد في بصائر الدرجات بسنده عن عليِّ بن المغيرة قال: مرَّ العبد الصالح (ع) بامرأةٍ بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون، وقد ماتت بقرةٌ لها، فدنا منها ثم قال (ع): "يا أمة الله هل لك أنْ أُحييها لك"، ثم تنحَّى ناحيةً فصلى ركعتين ثم رفع يديه يمنةً وحرّك شفتيه ثم قام فمرَّ بالبقرة فنخسها أو ضربها برجله فاستوت على الأرض قائمة، فلما نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت صاحت: عيسى بن مريم وربِّ الكعبة(10).

مكارم أخلاقه:

أما عبادته فيكفي منها ما عُرف عنه بأنَّه حليفُ السجدة الطويلة، فقد ذكر مناوئوه ممَّن سجنَه انَّه كان يُصلِّي الفجر فإذا انفتل من صلاته جلس للتعقيب وتلاوة القرآن حتى تُشرق الشمس، فإذا أشرقت سجد سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى تزول الشمس ويحين وقتُ النافلة والفريضة فإذا انتهى من صلاته سجد حتى تُغرب الشمس فيقوم دون انْ يُجدد وضوءه فيُصلِّي المغرب ثم يتنفَّل ويعقِّب ثم يُصلي العشاء ويعقِّب ثم يفطر وبعدها يقوم للصلاة ثم ينام نوماً خفيفاً فما يلبث حتى يقوم لنافلة الليل ويوصلها بصلاة الصبح، وهكذا كان دأبه في السجن كما ذكر ذلك مَن كان في سجنهم كالفضل بن يحيى(11).

وأما زهده فقد ذكر الثقاة من الرواة انَّهم اذا دخلوا داره لم يجدوا سوى خصَفةٍ وسيفٍ معلَّق ومصحف(12). هذا وكانت الأموال والأخماس تُجبى إليه من كلِّ حدبٍ وصوب.

وأما كرمه فقد اشتهرت صُرِّتُه ذات الثلاثمائة دينار حتى كان يُقال صرة موسى بن جعفر يُضرب بها المثل، وكانوا يقولون مَن نال عطاء موسى (ع) استغنى(13)، وكان يخرج في الليل إلى بيوتات المدينة يتفقَّد فقراءها واليتامى والأرامل، فكانت تصلهم منه الدراهم والنفقات وهم لا يعلمون الجهة التي تصلهم(14).

ثم انَّه كان حليماً يجازي على السيئة بالإحسان حتى لُقبِّ بالكاظم(15). شجاعاً لا تمنعه سطوة السلطان من الجأر بالحق حتى انَّ هارون سأله عن رأيه في داره فقال هي دار الفاسقين(16) ثم تلا قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(17).

وحين كان في السجن بعث إليه الرشيد ملتمساً منه انْ يعتذر إليه حتى يُطلقه من الحبس فأجاب رسولَه وكلَّفهبأن يُخبره: انَّه ستعلم اذا جاثيتُك بين يدى الله مَن الظالم المعتدي على صاحبه.

وبعث إليه في مشهدٍ آخر: "انْ يا هارون إنَّه لن ينقضي عنِّي يومٌ من البلاء حتى ينقضيَ عنك يومٌ من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه إنقضاء، وهناك يخسرُ المبطلون"(18).

ثم إنَّ مكارم اخلاقه ومحاسن خصاله مما لا يسع المقام استقصاؤها وليس من شيءٍ يُغني من ذلك سوى القول بأنَّه كان صفيَّ الله ونجيبه ونُخبته التي إجتباها من خلقه ليكون دليلاً عليه ومعرِّفاً شرائع أحكامه، فلم يكن خلقه ليشط قيد شعرة عن خُلقِ جدِّه رسول الله (ص).

الظروف السياسية المكتنفة لفترة إمامته (ع):

اضطلع الإمام الكاظم (ع) بدور الإمامة بعد عشرين سنة من ولادته، وبعد رحيل والده الإمام الصادق (ع) إلى ربِّه جلَّ وعلا وكان ذلك سنة ثمانية وأربعين ومائة للهجرة النبويَّة، وذلك في أيام ملك أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني ثم بعد قرابة التسع أو العشر سنوات من حين تسنُّمه لمنصب الإمامة تُوفي المنصور العباسي وتولَّى بعده ابنُه المهدي وبقي مدة عشر سنوات وشهراً ثم جاء بعده الهادي العباسي ولم يلبث في الملك سوى سنة واحدة وشهر ثم تولَّى بعده سدةَ الحكم هارون الرشيد وبقي في الملك خمساً وعشرين سنة استُشهد الإمام (ع) في سجنه بعد خمسة عشر سنة من ملكه وكان قد بقي في السجن مدة أربع سنوات حيث بدأ حبسه في العشر الأواخر من شهر شوال سنة تسع وسبعين ومائة واستُشهد في سجن السندي بن شاهك في بغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة للهجرة.

كانت الفترة التي اضطلع فيها الإمام (ع) بدور الإمامة هي أشدُّ الفترات قسوةً على أهل البيت (ع) وشيعتهم إبَّان العصر العباسي حيث انَّ الدولة العباسية قد بلغت في هذه المرحلة أوجَ قوتها حيث كانت تبسط هيمنتها على شرق البلاد الإسلامية وغربها فكان نفوذها يتصل بتخوم أوروبا والكثير من بلاد أفريقيا وقارة آسيا.

ففي هذه المرحلة لم يكن يؤرِّقهم من شيءٍ سوى الشيعة والثورات العلوية التي كانت تخرج عليهم بين فينةٍ وأخرى، وكان المتَّهم الأكبر بتمويلهم وتحريضهم هو الإمام الكاظم (ع) نظراً لكونه أكثر العلويين وجاهةً وأتباعاً، فقد كانت قواعده الشعبية منتشرة في شرق البلاد الإسلامية وغربها خصوصاً في العراق وفي خراسان وهما أهم الحواضر الإسلامية آنذاك وكانت تُجبى إليه الأموال والأخماس من كلِّ مكان، وكان له وكلاء في أكثر الحواضر الإسلامية حتى انَّ العديد من الوشاة كانوا يقولون لهارون الرشيد إنَّ في البلاد الإسلامية خليفتين أحدهما في العراق والآخر في الحجاز وهو الإمام موسى بن جعفر (ع).

وقد سُجن الإمام (ع) في هذه المرحلة مراتٍ عديدة إلا انَّ سجنه لم يكن يطول، وقد بذل هارون جهوداً حثيثة في سبيل إغتيال الإمام (ع) إلا انَّ محاولاته كانت تبوء بالفشل تارةً بشكل إعجازي وأخرى بتمنُّع القادة السياسيين من إنفاذ أوامر الرشيد كما حدث ذلك حين أمر عيسى بن جعفر العباسي واليه على البصرة، وكذلك حينما أمر الفضل بن الربيع وبعده الفضل بن يحيى البرمكي حيث امتنع أشدَّ الإمتناع وهدَّد بإطلاق سراح الإمام (ع) إنْ لم يخرجه من عهدته، وحينما غضب هارون تدخل البرامكة -الذين كان لهم نفوذ واسع في الدولة العباسية آنذاك- لدرء ما كاد يقع من فتنة.

بعد ذلك أُخذ الإمام (ع) إلى سجن السندي بن شاهك أحد وزراء هارون الرشيد وكان رجلاً غشوماً شديد النُصب والعداءلأهل البيت (ع) وفي سجنه تمَّت تصفية الإمام (ع) بالسُم بعد انْ كان قد ضيَّق عليه أشدَّ التضييق، وحبسه في طامورةٍ مظلمة وكبَّله بأغلالٍ تزن تسعة أرطال فكان يصلَّي وينام حين ينام بها.

وكان قبل فترة سجنه كثيراً ما كانت داره تُكبس ويتمُّ تفتيشها وسلب ما كان فيها حتى بلغ الأمر أنَّ أحد قادة الرشيد أشعل النار في دار الإمام (ع) لإفزاعه ثم أصرَّ على تمكين جنوده من سلب العلويات وبعد أنْ أبى الإمام (ع) ذلك قَبِل من الإمام (ع) انْ يقوم بجمع كلِّ ما كان عليهنَّ من حُليٍّ بل ومقانع.

وفي هذه المرحلة امتئلت سجون العباسيين من الشيعة والعلويين وبين الفينة والأخرى يقومون بتصفية العديد منهم حتى انَّ حميد بن قحطبة أحد القادة العسكريين ذكر انَّه قتل من السجناء في ليلةٍ واحدة ستين علوياً بين شابٍ وكهلٍ وشيخ.

الأدوار التي اطَّلع بها الإمام (ع):

امتدَّ زمنُ إمامة الإمام الكاظم (ع) إلى خمسٍ وثلاثين سنة كان يمارس فيه دور التهذيب والتربية للأمُّة على اختلاف مشاربها ومذاهبها، فكان وعظه وإرشاداته وحكمه التي كان يُلقيها في مجلسه وفي المسجد النبوي وفي المحافل التي كان يحضرها وفي موسم الحج تجدُ صدىً واسعاً في الحواضر الإسلامية بعد انْ يتناقلها الركبان والمسافرون ويبثُّها وكلاؤه وتلامذتُه الذين كان لهم حضورٌ واسع في عموم البلاد الإسلامية.

كما انَّه احتضن بعد رحيل أبيه (ع) تلامذته الذين كانوا يربون على الأربعة آلاف رجل فكان (ع) يُملي عليهم التفسير والفقه وأصول المعارف الإسلامية، فكانوا يدوِّنون ما يسمعونه منه في الفقه والعقيدة والسيرة والسنن والآداب والتفسير والحكم والمواعظ.

حتى روى ابن طاووس بسنده انَّ أصحاب الإمام الكاظم (ع) كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك(19).

ثم إنَّ المرحلة التي اضطلع فيها الإمام (ع) بدور الإمامة تميَّزت بظهور الكثير من المذاهب الفقهية والمذاهب الكلامية.

فثمة مدرسة الرأي التي كان لها حضورٌ واسع في العراق ومدرسة الحديث يقودها مالك بن أنس ومدارس أخرى في الفقه وسطاً بين هاتين المدرستين، وكذلك كان للمذاهب الكلامية رواجٌ واسع كمذهب المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والقدرية وغيرهم.

وقد تصدَّى الإمام (ع) لتحصين قواعده من آثار هذه المذاهب كما تصدَّى هو وتلامذتُه لمناظرة روَّاد هذه المذاهب في مجلسه تارةً وعلى ملأٍ من الناس او العلماء تارةً أخرى، وقد كان بعضهم يعترف له بخطئه، ويُحجم الآخرون عن مقارعة حججه وبيِّاناته.

وفي هذه المرحلة ونظرًا للانفتاح على الترجمة ودخول الكثير من الشعوب تحت نفوذ الدولة الإسلامية انتشرت في الوسط الإسلامي الكثير من الشبهات الإلحادية والأفكار والمناوئة للدين الإسلامي فتصدَّى الإمام (ع) وتلامذته لمعالجة هذه الشبهات وتفنيد ما كان يُعدُّ من المعضلات الفكريَّة والعقائديَّة، وقد وصلت لنا العديد من مناظراته وإجاباته وأحاديثه في ذلك.

هذا ما يتَّصل بدوره الفكري والتوعوي والذي استطاع من خلاله التعريف بالرؤية الصحيحة والناصعة للدين الإسلامي والمذهب الحق.

وأمَّا ما يتصل بدوره السياسي فقد اتَّخذ أسلوب القطيعة مع الدولة ليؤصِّل لما بدأ في تأصيله أئمة أهل البيت (ع) الذين سبقوه حيث أنَّ الدولة الأموية وكذلك العباسية بذلتا جهوداً مضنيةً لغرض إقناع الأُمة بأنَّ الإسلام مُمثَّلٌ فيهم وإنَّ ما يُروِّجون له وما يمارسونه هو الإسلام الحقيقي إلا أنَّ قطيعة أهل البيت (ع) فوَّت عليهم هذا الغرض، وذلك نظرًا لما يُمثله أهل البيت (ع) في وجدان المجتمع الإسلامي، فقطيعتهم للسلطة يعدُّ تعبيرًا صارخًا في وعي المجتمع الإسلامي عن إنحراف هذه السلطة عن الإسلام.

ثم إنَّ الإمام (ع) لم يكن يكتفي بالاعتزال عن السلطة العباسية بل كان يُصرِّح علنًا تارةً وسرًا تارةً أخرى عن انحرافها عن خطِّ رسول الله (ص) وكان كثيرًا ما يُؤكِّد لأصحابه وشيعته على حرمة التعامل معها حتى في بناء مسجد، وقد ورد عنه انَّه كان يقول (ع): "لأنْ أسقط من شاهق فأتقطَّع قطعة قطعة أحبُّ إليَّ من أن أتولَّى لهم عملاً أو أطأ بساط رجلٍ منهم"(20).

هذا مضافاً إلى مقارعته للسلطان في موارد عديدة والجهر له بعدم استحقاقه لهذا المنصب. ثم إنَّ الإمام (ع) كان يحرص على التعريف بالإمامة وموقعها في الاسلام والملكات التي يجب أنْ يتوفَّر عليها الامام والشروط التي وضعها الاسلام ونصَّ عليها الرسول (ص) فيمن له أهليَّة الامامة والريادة للأمة. وكان بذلك يؤصِّل لمفهوم الإمامة الشرعيَّة المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبويَّة. وذلك ما ساهم إلى حدٍّ كبير في بلورة مذهب أهل البيت (ع).

 

 

 

ترددتْ السلطة كثيراً وتأنَّت طويلاً حتى قرَّرت سجن الإمام (ع) ثم تصفيته، فكانت كلَّما أودعته السجن أطلقته حتى أُثِر عن هارون القول (أما في موسى حيلة)(21).

ففي الوقت الذي ترى فيه الأثر الخطير لوجود الإمام (ع) على سلطانها نظراً لسعة نفوذه المعنوي ودوره الذي كان آخذاً في التنامي، فلم يكد وضع السلطة يستقر فيما يتَّصل بشئونها الخارجيَّة وكذلك الداخليَّة بعد تصفية الحركات المناوئة لهم من الأمويين والخوارج على يد أبي جعفر المنصور، وقد بذلوا جهوداً من أجل أن يُضفوا الشرعية على سلطانهم على خلفيَّة بطش الأمويين وظلمهم وعلى خلفية دعواهم السعي من أجل الرضا من آل محمد (ص) حتى بدأ الإمام الكاظم (ع) تعريتهم فاستشعروا نقمة الناس عليهم بعد أن كشف الإمام (ع) واقعهم وانَّهم لا يقصرون عمَّن سبقهم ظلماً وعدواناً وبطشاً وترفاً وانحرافاً وتحكُّماً بمقدَّرات الأمة.

فثمة بقيةٌ حرصوا على التدثُّر بها لكي لا يَظهروا في مظهر المناوئة لرسول الله (ص) من خلال البطش الصريح برائد البيت النبوي، فكانوا يُدارونه في أول الأمر إلا انَّه أعيتهم الحيلةُ معه فسجنوه وأطلقوه وكبسوا داره ثم تظاهروا بإكرامه وتكرَّر ذلك منهم مراراً ثم استقرَّ رأيُهم على تصفيته بعد حبسه الأخير، فما عاد لإيهامهم وتضليلهم للأمة من أثرٍ يُذكر، فقد فشلوا فشلاً ذريعاً في تمريره، فما كان عليهم الا انْ يتحفَّظوا على سلطانهم وإنْ ادَّى ذلك إلى الجأر بالمحاربة للرسول الكريم (ص).

ثم وبعد انْ قتلوا الإمام (ع) جمَع هارون وجهاءَ المسلمين من الفقهاء والأعيان وشيوخ الطالبيين فكانوا ثمانين أو ينيفون فأبدَى لهم ندمه على سجن الإمام (ع) واستغفر ممَّا كان منه تجاه الإمام (ع) إلا انَّه تنكَّر لقتله وادَّعى أنَّه مات حتف أنفه.

وقد سبَقه إلى ذلك السندي بن شاهك، فقد جمع من فقهاء العراق ما ينيف على الخمسين رجلاً وأدخلهم السجن الذي كان فيه الإمام (ع) وقال لهم: انظروا إليه فليس من أثر سيف أو خدشٍ في جسده، وكان ذلك منه بعد ان دسَّ إليه السم، وكان الإمام (ع) حينها موعوكاً فالتفت إليهم وأخبرّهم انه قد سُقي السم وانَّه ميِّت قريباً فأسُقط في يد السندي بن شاهك وأخذته رعدة كما ذكر المؤرخون واضطرب اضطراباً شديداً(22).

ثم انَّه فعل ذلك بعد انْ استُشهد الإمام (ع) فكان منه انْ كشف أمام الناس عن وجه الإمام (ع) وشيءٍ من جسده وادَّعى لهم انَّه مات حتفأنفه إلا انَّهم أو بعضهم تعرَّف على أنَّه مات مسموماً وذلك لما وجدوه على جسده الطاهر من آثار السم.

وكان آخر تضليلٍ للناس عمِلت عليه السلطة هو ما تصنَّع به الأمير سليمان بن أبي جعفر المنصور العباسي، فقد بعث برجاله إلى جنازة الإمام (ع) وأمرهم أنْ يأخذوها من رجال السندي بن شاهك بعد انْ يضربوهم ويمزِّقوا ثيابهم ثم أبدى للناس غضبه على السندي بن شاهك وأوحى اليهم أنَّ ما فعله لم يكن بأمرٍ من السلطة العباسية ثم أكرم جنازة الإمام وأذن للناس في تشييعها وخرج هو حافياً يمشي خلفها بعد أن شقَّ جيبه وأظهر الجزع على الإمام (ع).

ثم إنَّ الإمام الرضا (ع) حضر بشكلٍ إعجازي من المدينة إلى تجهيز أبيه وتولَّى هو شأن تغسيله، فكان العباسيون يرونه ويتظاهرون بعدم معرفته فكانوا كما أفاد الإمام الرضا (ع) مثلهم مثل أخوة يوسف: ﴿فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾(23).

ثم حُمل الإمام (ع) في تشييعٍ مهيب لم تشهد بغدادُ مثله جلالاً وهيبةً ووقاراً وحضوراً، فكانت الواعية من النساء وهدير الحناجر بالتهليل من الرجال بعد انْ ألقوا عمائمهم وترجَّلوا حفاةً إلى مقبرة قريش حيث المثوى الأخير للجثمان المطَّهر الزكي في محضرٍ من ملائكة الله الصافِّين وأوليائه المكرمين فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الهوامش:

1- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 385.

2- سورة آل عمران / 18.

3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 75 ص 209.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 310.

5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 20.

6- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص 334.

7- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج 2 ص 219.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 280.

9- قرب الاسناد -الحميري القمي- ص 311.

10- بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص 293.

11- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 99.

12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 100.

13- "عمدة الطالب: كان موسى الكاظم (ع) .. عظيم الفضل رابط الجأش، واسع العطاء، وكان يضرب المثل بصرار موسى، وكان أهله يقولون عجبا لمن جاءته صرة موسى فشكا القلة ..". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 248.

14- أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج 2 ص 6.

15- عمدة الطالب -ابن عنبة- ص 196.

16- الاختصاص -الشيخ المفيد- ص 262.

17- سورة الأعراف / 146.

18- كشف الغمة -ابن أبي الفتح الإربلي- ج 3 ص 8.

19- المجتنى من دعاء المجتبى -السيد ابن طاووس- ص 27.

20- "لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة أحب إلي من أن أتولى لاحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم". وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 17 ص 194.

21- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 224.

22- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 91.

23- سورة يوسف / 58.