قصة الكليم: الوعد الإلهي

 قبل الخوض في أحداث ما بعد الخروج لابدّ لنا من التذكير بقضيّة مهمّة وهي أنّ قصّة موسى عليه السلام في مرحلتها الأولى قد بدأت بوعد واختممت بوفاء بها الوعد العظيم.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

  • تذكير بالوعد والوعيد:
  • بدأت قصّة موسى عليه السلام بوعد لبني إسرائيل ووعيد لفرعون فقد قال عزّ من قائل: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)  وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ):

    فوعد بن إسرائيل بوراثة الأرض

    وتوّعد آل فرعون بالعذاب المبين

    وانتهت القصّة بتحقّق الأمرين معا حيث قال جلّ جلاله:

    (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137))

     فكان الخروج بمثابة تحقّق الوعد والوعيد.

    ويمكن الانتقال من هذا الوعد إلى إثبات نبوّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بملاحظة زمن النزول، حيث أشرنا إلى أنّ آيات مرحلة ما قبل الخروج نزلت في مكّة عندما كان المسلمون يستضعفون، فكانت تسلية لهم وبشارة بقرب الخلاص من براثن قريش وبالفعل تحقّق هذا الأمر بعد مدّة وجيزة، وهذا ما يعبّر عنه بــ(الإعجاز الإنبائي) وهي الأمور التي أنبأ بها النبي (ص) وتحقّقت بالفعل من أشهرها إخباره بمجريات أحداث الفرس والروم: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)).

    فقد أنبأ بأمور ثلاثة:

    -انتصار الروم بعد هزيمتهم

    -مدّة حصول هذا الانتصار (أقلّ من عشر سنين)

    -وجود المسلمين وفرحهم بذلك

    والقرآن مليء بهذه الأمور التي من الجدير أن يتوقّف عندها الإنسان

  • إشكال حول وراثة بني إسرائيل:
  • هذه الآيات المتقدّمة ولّدت إشكالا عند بعض المفسّرين مفاده:

    كيف يتحدّث القرآن من جهة عن وراثة بني إسرائيل لملك فرعون والحال أنّهم خرجوا من مصر؟ قال عزّ وجلّ: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)).

    والإشكال الآخر على فرض التسليم بوقوع وراثة بني إسرائيل لهذه الأرض هو نصّ القرآن على تدميرها عقابا لآل فرعون كما في قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).

    والجواب على الأوّل يكمن في الجمع بين آيات القرآن، وهذه أفضل طريقة لفهم القرآن وهو الجمع بين آياته وضرب بعضها ببعض:

     

    فقد بيّن القرآن أنّ وارث مصر قوما آخرين: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28))، ولا شكّ أنّ هؤلاء ليسوا بني إسرائيل لأنّ القرآن رجع وتحدّث عنهم حيث قال : (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) فالوارثون غير الخارجين من المصر.

    أمّا عن بني إسرائيل فقد ورثوا بالفعل أرضا وهي المشار إليها في آية أخرى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَ) وهذه الأرض هي فلسطين بقرينة آيتين:

    -الأولى: قول موسى عليه السلام (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) 

    -الثانية: هي ما ورد في حقّ إسراء النبي صلى الله عليه وآله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، والمسجد الذي بارك الله حوله هو المسجد الموجود ببيت المقدس.

    أمّا الإشكال الآخر فالجواب عليه هو أنّ التدمير كان أمرا جزئيّ لا كليّا بقرينة وراثة قوم آخرين لما تركه فرعون حيث قال عزّ من قائل: ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) ، ولعلّ التدمير كان للصرح الذي طلب فرعون من هامان بناءه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ) لكونه قد ذكر معنى الارتفاع في الآية: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)فلفظة عرش فيه معنى الارتفاع ومن هنا سمّي العرش عرشا.

    وبهذا يتبيّن أنّه لا تعارض في الآيات الكريمة

  • هل هي وراثة دائمة؟
  • أهمّ ما نختم به هذا البحث هو حقيقة هذا الوعد الإلهي: فهل هذه الوراثة التي بشّر الله بها بني إسرائيل هل هي مطلقة غير قابلة للتغيير والتبديل أو هي مشروطة فتدور مدار الشروط وجودا وعدما؟

    دعوى اليهود اليوم أنّ هذه الوراثة هي مطلقة ولذلك هم يتحدّثون عن إسرائيل الكبرى وعن حقّهم الإلهي في الأرض المقدّسة بنصّ القرآن الكريم: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)  ، ولكن الحقيقة غير ذلك بل إنّ الوعد الإلهي مشروط ويدلّ على ذلك:

    قوله تعالى: (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فربط بين الاستخلاف وبين طبيعة العمل أي أنّ استمرار هذا الاستخلاف منوط بطبيعة عملهم فإن أحسنوا استمرّ هذا الاستخلاف وإن أساؤوا انقطع وانتهى.

    وآية أخرى أوضح من ذلك (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ)، فربط استمرار النعم الإلهيّة بعدم الطغيان الذي يوجب حصوله –الطغيان- حلول الغضب الإلهي!

    والقاعدة العامّة هي قوله تعالى في سورة الإسراء: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ).

     

    ومن هنا نفهم أنّ استمرارية هذه الوراثة مرتبطة بعمل بني إسرائيل لأنّ السنة الإلهيّة هي: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، فمن انتفت عنه صفة الصلاح لا يصلح أن يكون وارثا وحقّ عليه أن يستبدله الله يغيره، لأنّه كما توجد عندنا سنّة الاستخلاف هناك سنة الاستبدال  (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) وقوله تعالى: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)  ، فمن مكّنه الله ولم يوف بعهده استبدله الله وجاء بغيره.

    لفتة:

    نفس هذه القاعدة تجري في أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أنّ خيريّة هذه الأمّة ليست مطلقة بل هي مقيّدة بنصّ القرآن: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)، إذ جعل هذه الخيريّة منوطة بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.