مقال جديد للسيد محمد باقر السيستاني: واقعة الغدير ودلالات اختيار الطريق

لقد ألقى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة الغدير في حالة السفر في أثناء العودة من مكة إلى المدينة بعد سفر الحج، وهذا الأمر يمثل خياراً غير اعتيادي من وجوه متعددة:

الأوّل: أنّ السفر لا يمثل موضعاً اعتيادياً للخطاب؛ لأنّه حالة عبور ومسير، والجموع المسافرة حتى وإن كانت متشاركة في الطريق لا تكون مجتمعة في مكان واحد، بل تنتشر على مساحة واسعة سواء في حال الاستراحة أو المسير، ومِن ثَمَّ فإنّ اجتماعها في مكان واحد لأجل سماع الخطبة لا يخلو عن عناء إضافي في سفر لا يخلو في أصله عن عناء.

الثاني: على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خطب في جموع المسلمين عدة خطب في مكة المكرمة في حجة الوداع على ما جاء في تاريخ السيرة النبوية والروايات التي تروي أحداثها، فقد خطب في مكة يوم التروية، ثُمَّ في اليوم التاسع عند الوقوف بعرفات، ثُمَّ في منى يوم العيد، ثُمَّ فيها في أوسط أيام العيد، ثُمَّ في مسجد الخيف يوم النفر، ثُمَّ كان سادسها خطبته في غدير خم بعد الخروج من مكة المكرمة، فلماذا لم يذكر ولاء عليّ على المسلمين في بعض خطبه بمكة.

وعليه فإنّه كان بإمكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر ما جاء في خطبة الغدير في إحدى هذه الخطب، لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفعل ذلك، بمعنى أنّه لم يذكر الولاء الخاص للإمام عليّ (عليه السلام) على المسلمين، رغم أنّه ذكر العديد من الإرشادات والأحكام، كما يظهر بمراجعتها لأجل الوقوف على وضوح ملاءمتها لذكر هذا المعنى.

الثالث: أنّ الحضور مِن المسلمين في مكة المكرمة كانت أكثر من الحضور مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الطريق إلى المدينة، مِن عدة جهات ثلاثة:

أوّلاً: حضور أهل مكة فيها، دون الطريق.

وثانياً: حضور أهل البلاد التي كانت وجهتهم تختلف عن اتجاه المدينة كما أهل الطائف واليمن.

وثالثاً: حضور أهل المناطق التي تقع بين مكة وبين غدير خم، فهم توقفوا عند الوصول إلى مناطقهم طبعاً، ولم يرافقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غدير خم.

إذن نلاحظ أنّ اختيار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطريق إلى المدينة لإلقاء الخطبة خيار غير اعتيادي.

وفي ذلك دلالة على اهتمام غير اعتيادي طارئ مِن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمضمون الخطبة.

وهذا الأمر يؤكّد أنّ مضمون الخطبة كان أمراً غير اعتيادي، وليس تأكيداً على أمر معهود وعام.

وهذا يلائم كون مفاد الخطبة عقد الولاء الخاص للإمام عليّ (عليه السلام) على المسلمين؛ لأنّه فعلاً أمر خطير للغاية؛ لأنّه يفي بأمر متوقع بشكل أكيد، وهو تعيين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مصير الحكم بعده، لا سيما وقد أخبر المسلمين من قبل في خطابه عن أنّه قد لا يلقاهم بعد عامهم هذا، كما أخبر في أوّل خطبة الغدير عن قرب وفاته.

وأمّا الولاء القائم بينه (عليه السلام) وبين المسلمين المتفرّع على الولاء العام لآحاد المسلمين بجامع الإسلام فذلك أمر قائم مِن قبل على أساس معلوم منذ بداية الإسلام، ولا سيما بعد تشكيل الدولة للمسلمين في المدينة قبل عشر سنوات من زمان إلقاء خطبة الغدير.

نعم، يبقى السؤال عن سرّ تأخير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيان الولاء الخاص للإمام عليّ (عليه السلام) عن مكة رغم المزايا المتقدمة لبيانها فيها لسعة الحضور والتسهيل على الناس.

والجواب عن هذا السؤال يقع على وجهين:

أمّا الوجه الأوّل: فهو أنّ من الجائز أنّ هذا الأمر لم يكن باختيار منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كان من جهة أنّ جبرئيل نزل عليه في الطريق وأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، كما جاء في بعض روايات الإمامية.

ويشبه ذلك ما اتفق قبل واقعة الغدير بسنة تقريباً في اليوم الأوّل مِن السنة التاسعة للهجرة باتفاق مؤرخي السيرة والمحدثين، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر إلى مكة بآيات من صدر سورة البراءة ليقرأها على أهلها. فجاء جبرئيل من عند الله العزيز فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً على ناقته العضباء أو الجدعاء أثره فقال: أدركه فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه واذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم فلحقه عليّ عليه السلام في العرج أو في ذي الخليفة أو في ضجنان أو الجحفة وأخذ الكتاب منه وحج وبلغ وأذن([1]).

ومن الملاحظ تأخر جبرئيل في هذه الحادثة عن الوقت المتوقع، حيث جاء بعد أن بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر إلى مكة لقراءة أوّل السورة على المشركين، وبعد أن قطع أبو بكر مسافة من الطريق، بينما المتوقع أن يبلغه منذ البداية أو قبل خروج أبي بكر.

والذي يبدو أنّ السر في التأخير في هذه الواقعة هو أن يعلم أبو بكر وغيره من الصحابة أنّ تفضيل عليّ (عليه السلام) وتقديمه على الآخرين رغم صغر سنه بالمقارنة مع شيوخ الصحابة أنّما هو من الله تعالى وليس انحيازاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عمه، فلو أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّف علياً (عليه السلام) مِن أوّل الأمر بذلك لسبق إلى أذهان القوم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دائماً يميز علياً (عليه السلام)، وليس إلا لأنّه ابن عمه، ولا ينصف فيه الآخرين، لكن لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر حتى خرج ثمَّ أرجعه بأمر جبرئيل وبعث بدله علياً (عليه السلام) كان في ذلك دلالة واضحة على أنّ ذلك ليس منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يكن يحتمل أحد من أخلاقه ولا من صدقه أن يتكلّف هذا المشهد تكلفاً.

وقد يحتمل مثل ذلك في المقام، وذلك أنّه لو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن ذلك للقوم في مكة اتهموه بأنّ ذلك برغبة منه إلى عليّ (عليه السلام)، فلما ترك ذلك حتى انتهى إلى وسط الطريق جاءه جبرئيل بالأمر ليوقن الصحابة أنّ ذلك لم يكن بهوى منه، بل كان امتثالاً لأمر جاء من الله تعالى.

وعلى كل تقدير فإنّ من الوارد على الإجمال وجود حكمة منظورة في التأخير في شأن واقعة الغدير، وإن لم نتبيّنه تفصيلاً، لا سيما مع عدم نقل جميع الحوادث والأمور التي كانت تجري بين الصحابة آنذاك.

والوجه الآخر: أنّ لنا أن نتوقع بعض الأسباب لتأخير إعلان الولاء الخاص للإمام (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى الخروج من مكة وبلوغ غدير خم من خلال تأمل حوادث السيرة آنذاك؛ ذلك أنه قد يتراءى مِن بعض الروايات أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تعرّض في خطبته في بعض مشاعر الحج ـــ وهي عرفات ـــ لمن يكون فيه الأمر من بعده، وذكر أنّ الأمر في قريش أو قال بني هاشم، وذكر أنه يكون منهم اثنا عشر خليفة، لكن حدث عند ذلك ضوضاء متعمّد مِن بعض الحضور أوجب عدم سماع بعض كلامه، مما يمكن أن يكون قد أدّى إلى عدم إتمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكلامه حول ذلك.

وهذا حدث غريب اتفق على روايته المحدثون في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها مِن طريق جابر بن سمرة وإن خلا عنه سائر ما جاء عن خطبته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعرفات.

فقد روى البخاري في صحيحه مِن طريق شعبة عن عبد الملك سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (ص) يقول: يكون اثنا عشر أميراً فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: إنه يقول: كلهم من قريش([2]).

وروى مسلم في صحيحه مِن طريق حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع النبي فسمعته يقول: إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ثم تكلم بكلام خفي عليّ فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش([3]).

وروى أبو داود في سننه: بإسناده عن عامر عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثنا عشر خليفة فكبّر الناس وضجوا ثُمَّ قال كلمة خفيت قلت لأبي: يا أبه ما قال؟ قال: كلهم من قريش([4]). ويقرب منه ما رواه احمد في مسنده.

وروى الطبراني في المعجم الكبير بطريقه عن جابر بن سمرة قوله: فسمعته يقول: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً حتى يملك اثنا عشر كلهم... ثُمَّ لغط القوم وتكلموا فلم أفهم قوله بعدَ كلهم، فقلت لأبي: ما قال بعدَ كلهم؟ قال: كلهم من قريش)([5])

ومن الملاحظ أنّ الروايات عن جابر تجمع على خفاء جُزء مِن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذ الخطبة، إلا أنّ بعضها لا تذكر سبب الخفاء كرواية البخاري ومسلم، وبعضها الآخر الأكثر تفصيلا تنصّ على أنّ السبب في الخفاء تكبير القوم وكلامهم ولغطهم وضجيجهم كما في لفظ رواية أبي داود والطبراني، مما يدل على عدم احتمال القوم لكلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لما كانوا يتوقعونه مِن تتمةٍ له بدرجة أدت إلى مشاكستهم إياه، وحيلولتهم دون سماع كلامه، بحيث ينتفي الأثر مِن إلقائه.

وعليه فإنّ هؤلاء المشاكسين سعوا من خلال الضجيج والضوضاء إلى إخفاء كلامه عن سائر الحضور حتى أنّ جابر لم يسمع الكلمة التي حدثت الضوضاء حين إلقاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها فسأل أباه، وفي بعض الروايات ذكر أنّه سأل أباه وعمر بن الخطاب، وفي بعضها الآخر أنّه سأل عمه.

وهذا تصرف غريب للغاية، ولم أقف على مورد مماثل لذلك في السيرة النبوية، بأن يحدث جماعة من الصحابة لغطاً في أثناء كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطبته حتى لا يسمعه الناس.

وجاء في بعض آخر من ألفاظ الرواية (فجعل الناس يقومون ويقعدون)([6])، وهذه حركة غريبة تعبر عن أنّهم كانوا يبدون به عدم استقرارهم بشكل تلقائي قلقاً مما يمكن أن يبديه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسمعه للناس في هذا الشأن، أو تكون هذه الحركة منهم لأجل إبداء أنّهم مستعدون لإثارة الفتنة إذا استمر (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلامه في هذا الاتجاه.

وفي لفظ الرواية في بعض طرقها بني هاشم بدلاً عن قريش، ويبدو ذلك أنسب بأن يكون اللفظ الأصلي للرواية، لكنها غُيّرت إلى قريش كي لا تصادم خلافة الخلفاء الثلاثة الأوّلين، فغلب لفظ (قريش) في نقل الرواية واشتهر؛ لأنّه يبدو هو اللفظ المعقول في ضوء الواقع الذي وقع بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلّت رواية الحديث باللفظ الأصلي، وليس وقوع مثل ذلك بغريب في نقل الروايات كما يظهر بالممارسة والمقارنة بين ألفاظها كما يعلمه نقاد الحديث وصيارفته.

ومِن المحتمل أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما ذكر أنّ الأمر في قريش أو بني هاشم أثار جماعة من الحضور الذين لم يكونوا يتحملون كون الأمر في قريش، أو في بني هاشم، فعارضوه بإثارة الضوضاء والكلام والقيام والقعود، وهذه المعارضة تدل على مبلغ اهتمامهم ورقابتهم على كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستعدادهم للتعامل مع ما كان يصدر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث أنّهم أحسّوا بمجرد اقترابه (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن ذكر ما يكرهون حول ولاية الأمر.

وربما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدد التدرج بذكر أهل البيت (عليهم السلام) والإمام عليّ (عليه السلام) كما فعل في خطبة الغدير، فانقطع (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن تتميم كلامه حذر الفتنة.

وليس هناك تفسير آخر قريب لإحداث الضجيج في وسط كلامه غير ذلك؛ فلماذا يقع الضجيج بين كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه لا يسمع صوته، وقد أمر المسلمين في القرآن برعاية الأدب في محضره؟ كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صوت النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ]([7]).

ويحتمل أن تكون هذه المعارضة قد حدثت مِن قبل الأنصار الذين يدلّ ما جرى منهم في السقيفة على أنّهم كانوا يريدون أن يكون الأمر لأنفسهم، دون قريش؛ لأنّهم الذين قام هذا الكيان على أكتافهم، والمدينة عاصمة هذا الكيان هي مدينتهم وموطنهم.

ولكن الأقرب أنّ المعارضة كانت من قبل سائر بطون قريش حذراً من ترجيح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعشيرته الأقربين، ونعني بها بني هاشم، وخاصة أقربهم إليه وهو الإمام عليّ (عليه السلام)، انحيازاً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـــ وفق تقديرهم ـــ إليهم، وجزاء على التزامهم منذ بداية البعثة بحمايته (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل سائر بطون قريش.

وقد يحتمل الناظر أنّ الكلمة التي خفيت على جابر كانت كلمة (أهل بيتي)، ولكن الراوي لم يحكه على وجهه؛ لأنّه مِن الاتجاه الموالي لتولي قريش للأمر؛ لأنّهم قبيلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عدا بني هاشم وأهل بيته، فإنّ جابر سأل عمر وأباه سمرة، وعمر مِن قيادات هذا الاتجاه كما تمثل في موقفه في السقيفة على ما تقدم، و أمّا سمرة والد جابر فهو كان صهر سعد بن أبي وقاص ـــ من بطن بني زهرة من بطون قريش ـــ على أخته خالدة، وكان هو ـــ وكذا ابنه جابر ـــ من حلفاء بني زهرة، الذين صاهرهم، وكان اتجاه سعد تجاه أهل البيت (عليهم السلام) وبني هاشم مثل اتجاه عمر وفق شواهد عديدة منها انحيازه إلى جانب عثمان دون عليّ (عليه السلام) في ستة الشورى، وامتناعه من بيعة الإمام (عليه السلام) بعد خلافته في نفر قليل من المهاجرين، وقد علم موقف ابنه عمر بن سعد من الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة كربلاء.

وقد يسأل سائل عن كيفية حدس الناس من الأنصار أو من قريش أنّه يريد أن يذكر قريش أو بني هاشم حتى يمانعوا من سماع صوته.

والجواب عن ذلك أنّ هناك عدة أسباب كانت توجب الحدس بذلك للنابهين، بل لعامة الناس المعنيين بهذا الأمر والمتحسسين له، منها:

أوّلاً: أنّ بني هاشم هم الأقربون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترجيح الأقرب أمر طبيعي للغاية في المجتمع القبلي، بل في غالب المجتمعات القديمة.

ثانياً: أنّ بني هاشم هم الذين حموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل قريش، ومنعوا وصول أذى سائر بطون قريش له وحالوا دون قتله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحماية أبي طالب شيخ بني هاشم له (صلى الله عليه وآله وسلم) معروفة حتى سمي عام وفاته بعام الحزن، ولما افتقده اضطر إلى الهجرة إلى المدينة تخلصاً عن مكيدة سائر قريش به، وكان ابنه عليّ (عليه السلام) ظهره وحاميه وناصره في مواقفه كلها.

ثالثاً: أنّ علياً (عليه السلام) هو ابن عمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبيه وأمه، وكان أبوه أبو طالب عمّ النبي هو الحامي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل جبروت قريش ومكائدها منذ بعثته إلى وفاته.

رابعاً: أنّ علياً (عليه السلام) كان أقرب الناس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد أودعه أبو طالب منذ صغره عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرافقه وتربى على يديه، وعندما بُعِث (صلى الله عليه وآله وسلم) آمن به بمحض الاطلاع عليه، فكان  (عليه السلام) أوّل من أسلم له (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصلّى معه بعد زوجته خديجة، ثُمَّ كان (عليه السلام) هو الذي استجاب له (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جمع (صلى الله عليه وآله وسلم) عشيرته الأقربين في أوائل البعثة، وذكر أنّ من كان عوناً له ومؤدياً لدينه إن مات فإنّه يكون وزيره ووصيه، ثُمَّ لم يزل يميزه بتكليفه بأموره مثل تكليفه في الحرب إذا اشتدت، وتكليفه بأمر من السماء بتبليغ سورة البراءة بعد أن كان قد كلّف أبا بكر أوّلاً، ولم يزل يثني عليه ثناء مميزاً كلما وُفّق عليّ (عليه السلام) في أمر أوكله إليه في حروبه وغزواته، حتى آخى بينه وبين نفسه مرتين عندما آخى بين الصحابة مثنى ومثنى، وقد اعتبره منه بمثابة هارون من موسى، وقد خصّه بمزايا منها تزويجه من ابنته فاطمة، وجعل ابناءه (عليه السلام) ابناءه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعل بيته بين بيوته، وكان متميزاً بكثرة اجتماعه معه، وقد سدّ أبواب الصحابة إلى المسجد إلا بابه، وصرّح أن حبه إيمان وبغضه نفاق.

إذن كان من السهل الحدس أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا عيّن أحداً للأمر بعده فإنّه سوف يعين ـــ لا محالة ـــ علياً (عليه السلام)، ولا يحتاج ذلك إلى مزيد ذكاء وتدقيق؛ ولذا أحدثوا الضوضاء للتشويش على كلامه بمجرد أن قال: (إن الأمر…) قبل أن يكمل كلامه، ولولا أنّ المشاكسين حدسوا باتجاه كلامه لانتظروا إتمام هذه الفقرة.

ويشبه ما وقع في هذه الحادثة في الحيلولة دون كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وقع في الحادثة الأخرى المعروفة برزية يوم الخميس التي اتفق المحدثون أيضاً على روايتها من طريق ابن عباس كما في صحيح البخاري عنه، قال: لما حضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع! وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا! منهم مَن يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا، قال عبيد الله: وكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم([8]).

ومن المتوقع جداً كما تنبّه العديد مِن أهل العلم أنّ عمر فهم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يوصي باتباع أهل البيت (عليهم السلام)، بالنظر إلى ما عهد منه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين من قبل، ولذلك قال: (حسبنا كتاب الله)، وإلا فمن أين علم أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يوصي بشيء آخر فلعله أراد تثبيت الوصية بالكتاب أو بآية منه، ومن أين فهم أنّه قد غلبه الوجع على وجه يهذي ويهجر كما هو لفظ الرواية في نقل آخر، معاذ الله من ذلك، فإنّ علامة هجر المريض هو أن يتكلم بما لا يليق، ولم يصدر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلام غير معقول، وأعجب من ذلك أنّه بينما يقول إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يهجر إذا به يجيبه جواب مَن تلقى الكلام جاداً فخاطبه بأنّ حسبنا كتاب الله، فإن صدقت هذه الرواية وهي صادقة باتفاقهم فإنّه يبدو أنّ عمر كان شديداً في هذا الأمر جداً، ولم يكن يطيق الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) بأي حال، و هناك مؤشرات أخرى على ذلك مثل الترجيح في ستة الشورى بابن عوف المقرّب من عثمان، وإلى مثل ذلك أشار الإمام (عليه السلام) في شكايته المتكررة المعروفة في سيرته بعد الخلافة من الشكاية من قريش.

فهاتان الحادثتان فريدتان فيما ذكر في السيرة النبوية، وكلاً منهما فيما يرجح كان مرتبطاً بولاية الأمر من بعده.

وعليه فإنّنا نتوقع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قاصداً لذكر ولاء أهل البيت بمكة، لكنه وجد صدوداً عنه، ولذلك أخّر ذلك إلى ما بعد الخروج عنه.

فإن قيل: وماذا كان يختلف الأمر في غدير خم عنه بمكة، وقد كان الممانعون معه ـــ من الاتجاه القرشي المخالف لكون الأمر في بني هاشم مثل أبي بكر وعمر وغيرهما ـــ حاضرين معه في الرجوع إلى المدينة.

فالجواب: أنّه ربما كان الاختلاف بين الموضعين مِن وجهين:

الوجه الأوّل: ما قد يظهر من روايات الإمامية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أنّ جبرئيل (عليه السلام) جاء للنبي في أثناء طريقه إلى المدينة، وأنزل عليه [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]([9])، فلما نزلت هذه الآية اطمئن بها عما كان يحذره من إثارة الفتنة عند طرحه لذلك، لما فيها من وقايته مِن كيد الناس، والواقع أنّ نزول هذه الآية بنفسه كان تهديداً صريحاً لمن يريد أن يثير الفتنة، كما أنّه كان تفهيماً ضمنياً للصحابة الذين كانوا يشعرون في أنفسهم بانحيازه لعلي (عليه السلام) دون الآخرين، وهو في ذلك يشبه ما نقلناه قبل قليل من مجيء جبريل (عليه السلام) إليه بعد أن بعث أبو بكر بسورة البراءة إلى مكة من أنّ عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل علياً (عليه السلام) بها، ويرجع أبي بكر، مع أنّ جبريل (عليه السلام) هو الذي كان قد أتاه بهذه السورة من عند الله تعالى، ولو أذن الله سبحانه لبلّغه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ ذاك بأنّه لا بدّ من ارسال عليّ (عليه السلام) لهذه المهمة، لكن أخّر الله تعالى ذلك ليعلم أبو بكر وغيره من الطامحين والمقارنين أنفسهم بعلي (عليه السلام) أن تمييز عليّ (عليه السلام) ليس من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلقاء نفسه، بل من قبل الله تعالى.

ومن الوارد هنا أيضاً مثل هذا المعنى، فلو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلّغ ولاء الإمام (عليه السلام) في مكة لظنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قد فعل ذلك مِن تلقاء نفسه، لكن عندما اتفق ذلك في أثناء الطريق أيقنوا أنّه قد فاجأه أمر في ذلك، لا سيما في حال نزول الآية عليه عنده وتلاوته (صلى الله عليه وآله وسلم) لها عليهم.

وربما يحتمل أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مأموراً بإبلاغ الأمر للمسلمين منذ كان في مكة، لكنه حذر من الفتنة وأخّر ذلك بما كان له متسع فيه منتظراً دعماً خاصاً له من الله تعالى، فجائه جبريل (عليه السلام) بالآية داعماً موقفه فبلّغ ذلك.

الوجه الآخر: إنّ إمكان إثارة الفتنة في مكة كان أكثر منه في أثناء الطريق لعدة أسباب:

السبب الأوّل: أنّ كثيراً من الممانعين من تصدي الإمام (عليه السلام) كانوا من ساكني مكة فبقوا فيها، وبذلك قلّ عدد الممانعين المرافقين له (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن يمكن أن يثير الفتنة.

والوجه في ذلك أنّ عمدة الممانعين في هذا الأمر كانوا هم سائر بطون قريش مِن قبيل بني أمية وبني زهرة وبني تيم وبني عدي وغيرهم، فهؤلاء لم يكونوا يتقبلون أن يكون هذا الأمر في بني هاشم أبداً فتجتمع لهم النبوة والخلافة، وترتفع بذلك عن سائر بطون قريش إلى الأبد، وهؤلاء كانوا على قسمين:

القسم الأوّل: مَن بقي في مكة إلى عام فتحها، وأسلم في هذا العام أو ما بعده إلى انتهاء الاتفاق مع المشركين على الإذن لهم بالبقاء في مكة، وهؤلاء كان أغلبهم معادين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا تمسكوا بشركهم حتى غُلِبوا على أمرهم، وكان إسلامهم طبعاً كرهاً لا طوعاً، ويعبّر عنهم بالطلقاء، ولعل هم جمهور قريش وأغلب رجالها، وكان لهم عداء خاص مع الإمام (عليه السلام)؛ لأنّه كان اليد الضاربة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حروبه مع قريش، وكان الرجل الثاني من بني هاشم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان أبوه أبو طالب شيخ البطحاء هو الذي حمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلّا لأنهوا أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) ـــ بحسب تقديرهم ـــ سريعاً، وقد قتل (عليه السلام) أعلام قريش ورجالاتها وشجعانها، فهم كانوا يحملون تجاهه حقداً كبيراً، وتلك مما تقتضيه طبيعة الأمور مع شواهد تاريخية كثيرة في السيرة النبوية وسائر أخبار المسلمين معروفة للمؤرخين.

القسم الآخر: مَن هاجر إلى المدينة، لأجل ألا يُفتن عن دينه، أو نصرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو عملاً بوجوب الهجرة شرعاً قبل الفتح، أو طلباً للدنيا التي توقعها أو وجدها مقبلة على أهل هذا الدين في المدينة، وهؤلاء منهم من سبق إلى الإيمان والهجرة، ومنهم من تأخر في ذلك.

وهؤلاء كانوا وفق الشواهد القرآنية والتاريخية والروائية على أصناف:

فمنهم: مَن كان سلماً لا يحمل شعوراً بالتنافس مع بني هاشم والإمام عليّ (عليه السلام)، ولا يثيره التميّز الظاهر للإمام بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حروبه ومواقفه، وكان من جملة هؤلاء مَن يحمل ولاء خاصاً وحباً شديداً له (عليه السلام) لخصاله وتضحيته ودوره في حماية المسلمين، ولمحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له وتصريحاته في حقه.

ومنهم: مَن كان ينظر إلى الإمام (عليه السلام) بعين المنافس، ويثيره تميّزه وتمييز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له في أقواله وتصريحاته ومواقفه، ويجد في ذلك كله حرجاً، لا سيما مع قلة عمر الإمام (عليه السلام) بالمقارنة مع أعمارهم، ويوسوس له أنّ النبي يفضل علياً (عليه السلام) لكونه ابن عمه، ولا يستسيغ ذلك، وفي هؤلاء من كان على حافة الإيمان في هذا الشأن بحيث يمكن أن يعدل عن الإسلام إذا أصرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إبرام الأمر لعلي (عليه السلام).

وقد وصف الله تعالى مراتب الإيمان عموماً في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]([10]) وقوله تعالى أيضاً: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]([11]).

ومنهم: مَن كان منافقاً لم يؤمن بالإسلام أيضاً بحقيقة الإيمان أبداً، بل دخل في الإسلام من جهة انتصاره وغلبته وهيمنته، كما قال تعالى: [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]([12])، وكان هؤلاء على مستويات مختلفة، منهم الذي يكيد بالمؤمنين، ومنهم من لا يكيد بهم لكن لم يؤمن بعد، ومِن هؤلاء مَن كان يؤلّف قلبه بإعطائه من الزكاة، حتى عدّ المؤلفة قلوبهم من جملة موارد الزكاة في القرآن الكريم.

وبهذا العرض يتضح أنّ قسماً كبيراً من الذين كانوا لا يتحملون الولاء الخاص للإمام (عليه السلام) كانوا ممن يسكن مكة، فهناك التقى من كان بهذه الصفة في مكة والمدينة من المنافقين والمبغضين للإمام، وسائر المسلمين الذين لا يتحملون الولاء الخاص لأهل البيت والإمام على (عليه السلام).

وعليه كان تأجيل بيان الولاء الخاص للإمام عليّ (عليه السلام) إلى الخروج من مكة وربما مع الابتعاد عنها بعض الشيء موجباً لقلة المعترضين والمثيرين للفتنة، مما يؤدي إلى قلة جرأتهم، لعدم وجود إسناد ظهورهم بمنافقي مكة ومعادي الإمام عليّ (عليه السلام) فيها.

السبب الثاني: أنّ معارضة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغ الولاء الخاص للإمام (عليه السلام) في مكة كانت أسهل منها في حال السفر؛ لأنّ المهاجرين من قريش هم في الأصل من أهل مكة، وهي وطنهم ومحلهم، ولم تزل بيوت الكثير منهم فيها، ومن المعلوم أنّ الإنسان أمكن نفسياً في موطنه منه في السفر؛ لأنّه يشعر في موطنه بالتمكن والاستقرار ويجد فيه الملجأ والمأوى، ويملك فيه الإمكانات والأصدقاء، ويعرف الطرق والدروب، وأمّا في السفر فالمرء طارئ فيه مثل بلاد الغربة، فلذلك لا يجد ذلك التمكن والجرأة، وهذا المعنى مما يجده المرء بالتأمل والممارسة، فهو ظاهر.

وعليه فإنّ المعارضة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يقوله بشأن الإمام عليّ (عليه السلام) لم يكن سهلاً ميسراً في الطريق كما كان ميسراً في مكة ومشاعرها.

السبب الثالث: أنّ خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اجتماعات المسلمين في مكة المكرمة ربما كان متوقعاً لأنّه اجتماع جماهيري في مقام أداء المناسك، ومثله يمثل مناسبة للخطاب العام من قبل القائد الحاضر في مراسم الحج، وقد كانت هذه المراسم تاريخياً محل الخطابات العامة؛ لأنّه يوفر التقاء طبيعياً للناس، ولا سيما أنّ هذه الفرصة كانت الأولى لحديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جماهير المسلمين من البلاد المختلفة، كما أنّها كانت آخر فرصة أيضاً لوفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان قد ذكر في كلامه في الحج أنّه قد لا ألقاكم بعد عامي هذا، وهذا بخلاف إلقاء الخطبة في حال السفر وفي الطريق، فإنّه أمر غير متعارف؛ لأنّ الطريق ليس محل استقرار بل موضع عبور، ولذلك تكون مفاجأة غير متوقعة.

ولهذا الأمر تأثيره في إمكان إثارة الفتنة من عدمها؛ لأنّ إثارة الفتنة قد تتوقف على تدبير مسبق، من خلال التنسيق بين الأفراد الساعين إليها، والاهتمام بالحضور في الزمان والمكان المناسب، وبذلك يتعذّر في حال كون الاجتماع واللقاء والخطاب فجائياً ومباغتاً.

إذن يعلم بذلك أنّ تأخير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة الغدير إلى ما بعد خروجه من مكة قد يبتني على سبب مناسب.

على أنّ مِن الوارد أن تكون هناك مزيد عناية من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعلام المسلمين في المدينة وما حولها، ثُمَّ الأقرب فالأقرب، بولاية الأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمقارنة مع الأبعدين عنها؛ بالنظر إلى أنّ المدينة كانت هي بمثابة العاصمة للجزيرة العربية، وهي مركز القرار فيها، وفيها أهل الحل والعقد في أمور المسلمين وحماة الدين وحرسه، من الأنصار والمهاجرين السابقين إلى الإسلام والهجرة المؤسسين لهذه الدولة، وفيها يلي الأمر مَن يليه بعد وفاة  النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومِن ثَمَّ يكون الأمر فيها أكثر خطورة وأهمية، نعم قد يكون مِن المهم تعريف جملة مِن القبائل الأخرى خارجها بمَن يلي الأمر بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يعلم أهلها أنّ  العلم بالجهة الشرعية لتولي الأمر لا ينحصر بهم، بل هناك في خارج المدينة مَن هو مسبوق بذلك، وهذا ما حققته واقعة الغدير حيث كان عليها شهود كثرة خارج المدينة بعد أن اتبع جلّ أهلها سبيلاً آخر في تعيين مَن تولى الأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وبما ذكرنا يتضح الخطأ في طرح آخر ذي صلة بالموضوع هذا، وهو أن يعتبر تأخير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيان ولاء الإمام (عليه السلام) على المسلمين عن مكة دليلاً على أنّه لم يكن ناظراً في هذه الخطبة إلى الوصية بالولاء الخاص للإمام عليّ (عليه السلام)، على أساس أنّه كان من المناسب فيما لو أراد ذلك حقاً أن يلقيه في بعض مواقف الحج، مثل البيت الحرام، أو عند وقوف المسلمين بعرفات، أو بمشهد منى.

فهذا الطرح خاطئ للغاية، لما بيّناه مِن أنّ هناك سبب محتمل ملائم لهذا التأخير، مِن غير أن ينفي كون اختيار المكان أمراً غير اعتيادي ذي دلالة على كون مضمون الخطبة أمراً مهماً حتى كأنه استدراك على خطبه في مكة المكرمة.

على أنً الواقع أنً هذا الطرح خاطئ على كل حال، وذلك لوجهين آخرين:

الأوّل: أنّ هذا السؤال عن سرّ تأخير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر الولاء للإمام (عليه السلام) وارد على كل حال؛ لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اهتمّ على كل حال بإلقاء هذه الخطبة في الجماهير، وإلا لم يعدل من الطريق إلى الجحفة نحو غدير خم وهو يبعد عنها ميلين، ولا أمر بجمع المسافرين المنتشرين في مساحة واسعة في مكان واحد، ولا دعا إلى الصلاة جامعة، فهؤلاء كلهم كانوا في مشاهد الحج مجتمعين بنحو طبيعي، فلماذا أخّر إلقاء هذه الخطبة حتى خرج من مكة وكان في طريقه إلى الجحفة.

ومن الخطأ ادعاء أنّ هناك سبب حدث في الطريق وهو شكاية بعض المسلمين من الإمام علياً (عليه السلام)، والذين كانوا قد رافقوه في سفره إلى اليمن ورجعوا قبيل ذلك، فأوجب ذلك خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيأتي وجه الخطأ في ذلك في الإيضاح اللاحق.

الآخر: هَب أنّنا لم نعرف سبب عدم إلقاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الخطبة في مكة أو بعض مشاعر الحج، لكن لا يمكن أن ننفي بذلك أنّ إلقاء الخطبة في غدير خم على نحو ما وصفناه من قبل في الإيضاح السابق يمثل اهتماماً مميزاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان الولاء للإمام عليّ (عليه السلام) لجماهير واسعة من المسلمين، وعناية منه بتعريف العرب من مختلف البلاد والأماكن به حتى يكون شخصية عامة، وإلا أمكن أن يقول ذلك لأصحابه في وسط الطريق مِن غير أن يجمع المسافرين في مكان واحد، أو يؤجله حتى يبلغ المدينة، ولم يكن موجب على كل حال بأن يعدل في طريقه إلى غدير خم.

ولا ينبغي بالباحث عن الحق أن يجادل فيما يعلم بإثارة السؤال عما لا يعلم، ليجعل منه حجة على إنكار الأمر المعلوم.

إذن تبيّن بما ذكرنا أنّ اختيار المكان وهو الطريق لإلقاء الخطبة يدلّ على كون مضمونها أمراً مهماً ومميزاً، وهو يلائم كونها مسوقة لبيان الولاء الخاص للإمام عليّ (عليه السلام) على المسلمين.

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

([1]) لاحظ: مسند أحمد: 1/151 (عن علي رضي الله عنه قال لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أدرك أبا بكر رضي الله عنه فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نزل في شيء قال لا ولكن جبريل جاءني فقال لن يؤدي عنك الا أنت أو رجل منك).

([2]) صحيح البخاري: 8/127، كتاب الأحكام.

([3]) صحيح مسلم: 6/3، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

([4]) سنن أبو داود: 2/309، كتاب المهدي.

([5]) لاحظ المعجم الكبير: 2/196 (فسمعته يقول لن يزال هذا الدين عزيزا منيعا ظاهرا على من ناوأه حتى يملك اثنى عشر كلهم ثم لغط الناس وتكلموا فلم أفهم قوله بعد كلهم فقلت لأبي يا أبتاه ما بعد قوله كلهم قال كلهم من قريش).

([6]) مسند أحمد: 5/99.

([7]) سورة الحجرات: آية 2.

([8]) صحيح البخاري: 7/9، كتاب المرضى والطب.

([9] ) سورة المائدة: آية 67.

([10] ) سورة الحج: آية 11.

([11] ) سورة النساء: آية 65.

([12] ) سورة الحجرات: 14.