الوجود الديني والعلماني في العراق

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

 

لو تأملنا واقع الطروحات الفكرية والتوثيقية المتعلقة بالوجود الديني والعلماني في العراق، نجدها تنقسم تحت عنوانين رئيسيين هما:

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ـ صلاحية الحكم:

من حيث انسجامها مع طبيعة المجتمع العراقي والنسيج المكوّن له، فيقول بصلاح العلمانية اعتمادا على طبيعة المكوّن العراقي وتراكمه التاريخي، حيث يعتبر ـ مثلا ـ التعددية العرقية والدينية ـ التي تعد من أبرز سمات المجتمع العراقي ـ دليلا على أن العلمانية لا الدين هي الاصلح للحكم، بعد أن يتوحد العراقيون جميعا في إطار المواطنة.

ومن جهة أخرى فإن العلمانية مفهوم يقترن بالتقدم والمعاصرة ويحمل في طياته المنجز الاوروبي الحديث وما يعنيه من تطور حضاري كبير على الصعيد التكنلوجي والاداري. فيما ينحصر الدين في دائرة الفعل العبادي الذي يستلزم تحديده جملة من علوم لا تكاد تمس واقع الحياة.

كما ويتخذ العلماني من المصير المأساوي الناجم عن تسلم الأحزاب الدينية ـ اليوم ـ دفة الحكم في العراق دليلا أوضح من الشمس في رابعة النهار، على صحة مقالته.

ـ الاصالة والاعتبارية:

ويدور الحوار في هذا العنوان اعتمادا على أدلة عدة منها ـ مثلا ـ التاريخ العراقي، فالقائل بأصالة العلمانية يحتج بتاريخ العراق الممتد الى آلاف السنين حيث الحضارات البشرية الاولى التي كانت تذعن لقوانين مدنية، وحتى بعد الاسلام، لم يعش العراق حالة مطلقة من الحكم الثيوقراطي الاسلامي. فبغداد الرشيد ـ قبلة الدنيا حينها ـ لشدة ما كانت تضج بمظاهر الانفتاح الاجتماعي فضلا عن انفتاح السياسة الحاكمة.

وقد ظل ذلك الانفتاح نبضا ملموسا طوال المراحل التاريخية التي تلت الدولة العباسية وهي المغولية والصفوية والعثمانية، وصولا الى الدولة العراقية الحديثة التي قامت عام 1921 . فيما يحتج أنصار الدين بالصبغة الاسلامية التي هيمنت على المجتمع العراقي منذ أن طاله الفتح في العقد الثاني من هجرة النبي الاكرم (ص).

إن مناقشة هذين العنوانين أمر يطول، وخارج عن موضوع البحث. ولكن ثمة نقطة تهمني فيه وهي الثابت الاجتماعي الذي يرتكز عليه المجتمع العراقي في طبيعته وسلوكياته، سيما في وقتنا الراهن، الثابت الذي يتجاوز تباين الأفراد واختلاف الانتماءات والأفكار والاتجاهات ويشكل لونا بارزا في الهوية الاجتماعية للعراقيين.

لهذا سأتناول العنوانين، بشكل مختصر، فأقول:

لا يختلف اثنان في أن اليقظة العربية الاسلامية منذ بواكيرها، في بداية القرن التاسع عشر، وعلى يد مفكرين من أوائلهم السيد جمال الدين الافغاني وأواخرهم السيد محمد باقر الصدر (قد). قد انتجت فكرا اسلاميا تميز بالنضج العالي. عنِيَ بإنقاذ الاسلام من الرقاد الفكري والعجز عن مواكبة المسيرة الحضارية العالمية. وذلك من خلال طروحات علمية وفلسفية شملت مختلف الجوانب الحياتية والعلوم المتعلقة بها كالسياسة والقانون والاقتصاد وغيرها.. وإن نظرة منصفة لتلك الاطروحات قادرة على بث الثقة من حيث صلاحيتها ـ نظريا ـ في التدليل على كون الاسلام منظومة قيادية بوسعها صنع النموذج الحياتي الصالح. وهذا مايضعنا ـ فيما يخص استدلالات العلماني ـ أمام نقاط هي:

1ـ الطوائف العراقية القائمة على الاساس العرقي كالتركمان او الاكراد مثلا، أو الاساس الديني كاليزيدين والصابئة. ليس فيهم من أعلن عن قدرة مكونه، العرقي أو الديني، على انتاج منظومة فكرية تتناول شؤون الحياة، ليكون بالتالي مكونا موازيا للمكون الاسلامي، فلا تحل مشكلة اشتراكهم في بقعة جغرافية واحدة إلا بإلغاء الجميع وفرض العلمانية كحل نهائي وأوحد. بمعنى ان المواطنة ليست حكرا على تطبيق العلمانية، اللهم إلا أذا حصرنا الاسلام في دائرة الفعل العبادي وما بعد الموت، وهذا ما أثبت المنجز الفكري الاسلامي الذي انتجته مرحلة اليقظة، خطله. إن دولة الرسول الاعظم ص تبدو فيها حالة المواطنة بشكل واضح من خلال احتضانه للنصارى واليهود وغيرهم في دولته ضمن سياقات معينة.

2ـ يشير دعاة العلمانية الى بعض المظاهر الحضارية التي دخلت المجتمع العراقي كحصول بعض الشباب العراقي على شهادات في الطب والحقوق، أو انشاء صالات للعرض السينمائي او المسرحي، على انها من تجليات الوجود العلماني ومنجزه الايجابي في المجتمع.  والحال أن مظاهر التحضر من إيجاد كوادر علمية في شتى المجالات بل وحتى العمران والتكنولوجيا ليست حكرا على النظام العلماني، وخير دليل دولة ماليزيا التي تدين حكومتها بالإسلام. وبالنسبة للفنون فإن المؤسسة الدينية لم تمنع منها غير الاستخدام السيء والمتجاوز لحدود القيم الفاضلة. وعليه فإنه لاحقّ للعلمانيين في احتساب هذه النقطة دليلا على تفوقهم في الحكم على الدين.

3ـ التطور الحضاري الذي عاشه العراق منذ بدايات القرن العشرين لم يكن بسبب تطبيق العلمانية بل بسبب الانتعاش الاقتصادي وظهور النفط. فالإسلامي والشيوعي والبوذي والعلماني والمنتمي لأي جهة كانت، قادر على استغلال الوفرة المادية وتحقيق القفزة العمرانية، وخير دليل ما شهدته دول الخليج العربي منذ عقود، من قفزات حضارية هائلة حققتها لهم حكومات تدين بالمشيخة البدوية. والتطور الحضاري ـ كما رأينا ـ هو السبب في الحراك الفكري والثقافي. وعليه فإن الاحزاب الحاكمة اليوم، لم تدمر العراق بانتمائها الاسلامي بل بتكالب قادتها على نهب المال العام. وهذا ما يمكن أن يفعله العلماني والاسلامي على السواء.