أصالة الدين أم العلمانية في المجتمع العراقي؟

في البدء.. ماذا نعني بأصالة الدين أو العلمانية في المجتمع العراقي؟ 

هل هي الحالة المتأصلة فيه، كما هو الحال بالنسبة للغلظة والخشونة في ابناء المجتمع البدوي؟  

فيكون الدين او العلمانية هو الاساس الذي يتمسك به ابناء المجتمع العراقي، فإن فرض عليهم الآخر استبطنوا النفور منه، وارتدّوا الى الآخر عند زوال الفرض!

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

في ظني أن ليس هناك معنى على هذه الشاكلة لمصطلح الاصالة والاعتبارية بالنسبة الى أبناء النوع الإنساني، وإنما هي السيرورة التاريخية بما تضخّه من عوامل مادية ترسم شكل الصبغة العامة للمجتمع، فتتغير الصبغة بتغير العوامل. فحتى في مثال الغلظة للبدوي، التي ذكرتها قبل قليل، فإنها تلاشت في طبع البدوي حين استوطن المدن.

وعلى هذا فإن الصبغة العامة للمجتمع العراقي أميَل الى تأثير الدين منها الى العلمانية، وذلك بسبب:

1ـ السواد الأعظم من أبناء المجتمع العراقي يدينون بالإسلام منذ اربعة عشر قرنا.

2ـ التعددية الدينية والعرقية في المجتمع العراقي، والتي كان التكتل على أساسها طاغيا الى بدايات القرن العشرين، إنما كان طاغيا بسبب توفير عناصر الحياة من حماية وسبل العيش، وحين يتجاوز الأمر هذه الحدود يرتد الحال الى الدين. فابن الريف ـ مثلا ـ حين يلتحم بأبناء القبيلة ويرضخ لرئيسها، طلبا للأمن والحماية ولأن الرئيس صاحب الارض التي يعمل أجيرا فيها، إلا إنه خارج هذا النطاق يكون في مدار الثقافة الدينية وإن كان ذلك المدار بعيدا عن واقع الاسلام الذي يدين به، ومن جهة زعيم القبيلة فأن الامر حين لا يمس حدود مصلحته وما يمليه واقع الحياة التي يعيشونها، يظهر انتماءه الديني ويترك لرجل الدين المجال.

3ـ العلمانية التي ظهرت في الغرب هي أفكار أصيلة انتجتها عقول الفلاسفة الغربيين بتأثير من واقعهم المعاش. وهي التي انتجب التطور الاقتصادي والتكنلوجي، وهذه الاخيرة انتجت بدورها نموذجا أخلاقيا وسلوكيا مغايرا، الى حد كبير، للنموذج الذي كان أيام الهيمنة الكنسية، مثل البعد المادي في العلاقات الاجتماعية والانفتاح الجنسي وغير ذلك. بينما نجد العلمانية في العراق، على العكس، فهي أفكار مستوحاة من الغرب وقد نتجت عن التطور الاقتصادي. وبالتالي فإن الانسلاخ عن الدين ـ في أوروبا ـ كان أمرا لصيقا بالتطور الحضاري، أي ان الاوربي المسيحي كان أمام خيارين هما أن يبقى على مسيحية الكنيسة او ينسلخ عنها فيواكب التقدم الحضاري. أما العراقي فإنه تطور أولا ثم وجد الافكار العلمانية تحيط به. بمعنى أن الاوروبي الذي كان يعمل وعائلته في ورشة بسيطة لإحدى الحرف اليدوية وجد أن الكنيسة تعارض العلم الذي حوّل أدواته البسيطة الى أدوات متطورة وحوّل الورشة البسيطة الى مصنع يوفر فرص عمل أفضل وربح أوفر. وصار أفراد العائلة غير مضطرين للعمل بشكل التحامي في الورشة، وإنما يعملون متباعدين في المشاريع الصناعية والتجارية التي وفرتها النهضة المصنوعة من قِبل الفكر العلماني. ثم راحت العلمانية تضخ فيهم أفكارها عن الحرية والفردانية وتهميش الغيب ونسبية الأخلاق، فتدفعهم إلى الاستغراق بالعمل لصنع حياة سعيدة. مما أدى الى اكتساب العلاقة الاجتماعية لونا من المادية وتمتع المرأة بقسط وافر من الاستقلالية والحرية التي وصلت الى حقها في ممارسة الجنس خارج إطار الزواج.

الفرد العراقي لم يمر بكل هذه المراحل، وإنما وجد نفسه أمام التطور دفعة واحدة، وقد كان السبب في حصول تطوره، بشكل أساس، عاملين ماديين بشكل محض، وهما فتح قنوات السويس وظهور النفط. فلم يعش ـ بذلك ـ حالة التخيير بين الدين والتطور. إن ما أحدثه التطور في المجتمع العراقي الى السبعينيات من القرن العشرين، هو تهاون واستخفاف بمفردات الدين وليس انسلاخا عنه، فالعراقي وإن آمن بفكرة الاخلاق المستقلة عن الدين وأن الدين ليس مصدرا للأخلاق، إلا إنه لم يعشها، فهو إما أن يضع حدودا لتهاونه بمفردات الدين، أو أنه آمن بأفكار كالليبرالية والعلمانية والشيوعية، القائلة باستقلال الاخلاق عن الدين، إلا إنه ظل وفيا للثابت الاجتماعي العراقي. وهذا الوفاء يتجسد بالفارق الكبير بين الواقع العراقي في ذروة انفتاحه في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وبين ما وصل اليه المجتمع التركي من إباحية، بعد أن أحل النظام العلماني محل الخلافة العثمانية في الحكم، ولم يقم بتجاوزات صارخة على ثوابت الشريعة الاسلامية كما فعلت العلمانية في تونس حين منعت التزوج من أكثر من زوجة أو ساوت بالإرث بين الرجل والمرأة.

إن الثابت الاجتماعي ظل قادرا على صنع دائرة محدودة لأبناء المجتمع العراقي، يعيشون فيها قيما روحية كالترابط العائلي والجيرة والشرف. فمثلا المسيحي الاوروبي حين انصهر بالفكر العلماني قد أفضى به ذلك الى أن يقبل لابنته ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، في حين نجد المسيحي العراقي الذي انصهر أيضا في الفكر العلماني يرفض هكذا حالة. ومما لاشك فيه أن رفضه ذلك نابع من عراقيته وارتباطه النفسي والتربوي بالثابت الاجتماعي.