’الفكر المادي’ يُفقر الشعوب ويسّحقها!

تتحدث الثقافة المعاصرة عن الإنسان الطبيعي ذو البعد الواحد وهو البعد المادي، والإنسان ضمن هذا الوصف مكتفي بذاته حيث يشكل من نفسه المرجع والمعيار لكل شيء، وبالتالي ليس أمامه أي حدود أو قيود تاريخية أو اجتماعية أو أخلاقية أو ثقافية فهو يعيش في الزمان الطبيعي ولا يعيش في الزمان الإنساني الذي تحكمه القيم والأخلاقيات.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

فكل شيء يتم تفسيره بحسب المادة حتى أحاسيسه ومشاعره ورغباته ليست إلا نتاج الطبيعة المتأصلة فيه، والعقل ضمن هذا التصور فاقد للسلطة وخاضع بشكل دائم لميولات النفس ورغباتها، وحينها لا يحق للعقل الارتقاء بالإنسان معنوياً وروحياً من خلال البحث عن المعنى والمقدس؛ لأن كل ذلك يمنع الإنسان من الذوبان التام في جانبه الطبيعي والمادي، وحتى لو تم الحديث عن القيم الأخلاقية فلا يتعدى الحديث الدوافع الطبيعية القائمة على الأنانية والحرص على البقاء والمنفعة، ولذا يتم التوافق على بعض النظم والقوانين التي تحفظ البقاء المادي للإنسان، وهكذا فالإنسان في هذه الثقافة هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة، بخلاف النظرة الدينية التي تجعل الإنسان جزءاً يتجزأ من الطبيعة، فلو استحال على الإنسان مفارقة الطبيعة من خلال بعده الروحي والمعنوي، فحينا سيكون متبدلاً ومتحولاً مثل الطبيعة والمادة، وبذلك تنعدم الثوابت وتتلاشى المشتركات الإنسانية على المستوى المعرفي والأخلاقي، ولذلك نجد العلوم الإنسانية الغربية تتعامل مع الإنسان بوصفه وظائف بيولوجية ومادية، فهو مجرد نظام طبيعي كغيره يخضع للحتمية المادية..

وعليه لم تنتج لنا الثقافة الحديثة إلا نوعين من البشر، الأول: هو الإنسان الاقتصادي وهو إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والنفعية والسعي لتراكم الثروة والربح، أو إنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج وهو إنسان منفصل تماماً عن القيمة ولا تحركه إلا الدوافع الاقتصادية، والثاني: هو الإنسان الجسماني الشهواني وهو إنسان فرويد الذي تحركه دوافعه الشهوانية حيث تتلخص حياته في البحث عن اللذة الغرائزية، فهو إنسان استهلاكي يعيش البذخ والترف، وهو أيضاً إنسان متجرد عن القيم والأخلاق، وما يؤسف له أن الإنسان المعاصر هو خليط بين الإنسانيين اقتصادي مادي وشهواني غرائزي، وتم في المقابل استبعاد الروح وما تحمله من قيم واخلاق.

ونحن هنا لا نتنكر على ما أنجزته الحداثة من أمور مفيدة مثل التقدم العلمي والتكنلوجي والاقتصادي، مضافاً لبعض الشعارات مثل الحريات والتسامح والحقوق.. وقد عبرنا عنها بالشعارات لأن هناك تناقض واضح بين مضامين تلك الكلمات وبين الواقع الذي نعيشه، فمثلاً ثقافة التسامح نجدها في التوسع والاستعمار ومحاربة الأفكار المغايرة، وثقافة التقدم والتطور نجدها تقوم على استغلال الشعوب وإفقارها، وهكذا تتم التنمية والتطور لأي مجتمع على حساب تجهيل وتخلف مجتمع أخر، وبالتالي قيم الحداثة لا تكون مفيدة إلا في ظل فلسفة أخلاقية تعترف بالجانب الروحي في الإنسان، ومن هنا نحن لا نرفض الكثير من الأفكار التي تنادي بها الحداثة ولكن نرفض أن تكون أفكاراً مادية تهمل الجانب الروحي والأخلاقي في الإنسان، فمثلاً الحرية التي تجعل المرأة سلعة تباع وتشترى، أو الحرية التي تحطم إنسانية الإنسان لا يمكن قبولها، لكونها قائمة فقط على جانب الجسد دون الروح.

وعليه فإن حقيقة الإنسان ضمن الإيمان بالله ترتكز على علاقة المخلوق بالخالق، أي أن الإنسان أوجده الله من عدم وخلقه على الهيئة التي هو عليها، قبضة من طين، ونفخة من روح، فانتمى إلى الأرض من جهة الطينة، وانتمى إلى السماء من جهة تلك النفخة، وبالتالي بإمكان الإنسان العيش على الأرض وهو يتطلع إلى الله، وبهذا لا يحكم الإنسان ميول أو اتجاه واحد، وإنما ينجذب إلى الأرض كما يندفع الى الأعلى ليتسامى على المادة.

وبذلك يعترف المؤمن بالمادة فيندفع في رحاب الحياة اندفاع المؤمن بضرورة تسخير المادة من أجل الإنسان، فلا يفوته شيء من خيرات الدنيا وبهارج الحياة، وفي الوقت نفسه يمتاز عن بقية الكائنات بمقدرته على التكامل المعنوي والروحي من خلال اتصاله بالله تعالى.