غير القرآن والسُنّة.. كيف تعددت مصادر التشريع الإسلامي؟

ارتكز التشريع الإسلامي في مراحل تكونه على نصوص الوحي، ولم تكن هنالك ضرورة اجتهادية خارج الفتوى بالقرآن أو السنة؛ لأن طبيعة المرحلة كانت تأسيسية تعتمد بشكل مباشر على صاحب الرسالة وما يوحى إليه، وقد كان الصحابة يرجعون إلى رسول الله لمعرفة الأحكام في موارد الابتلاء.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

أما بعد رحيله فقد تولدت الحاجة مبكراً عند من رفض إمامة أهل البيت (عليهم السلام) لإعمال النظر والاجتهاد، وقد جعلوا وفاته إيذاناً بمرحلة جديدة تكون الأمة فيها هي المسؤولة عن بيان الأحكام الشرعية، وقد ارتكز هذا التصور على كون الـ(23) سنة التي قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متحملاً أعباء الدعوة كافية لتأهيل الأمة مواصلة المسيرة بعده.

وقد ازدادت هذه الحاجة بعد توسع الدولة وظهور أسئلة جديدة ومسائل مستحدثة، مما جعل الأمة تعمل على استحداث أصل جديد وهو العمل بالرأي، أو كما يقول محمد صالح في كتابه الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 38: «.. وترتب على ذلك ظهور حاجات ومشكلات جديدة تتطلب أحكاماً لها، واحتاج المسلمون في كافة الأمصار - بعد وفاة الرسول - إلى من يرشدهم إلى القواعد القانونية الواجبة التطبيق فيما يواجهونه من أحداث ووقائع، وفي الوقت نفسه كان المأثور من تشريعات الرسول وأحكامه لا يفي بهذه الوقائع المتجددة، وترتب على ذلك ظهور مصدر جديد للتشريع أطلق عليه اسم الرأي أو الاجتهاد». أي أن محدودية النصوص واتساع الحاجة هو المبرر الذي حمل الأمة إلى أعمال الرأي في المسائل الشرعية.

وتلك الدواعي ليست كافية لتجعل المتبنين لهذا الرأي بمنأى عن مواجهة مشكلات عقائدية وتشريعية، فالأمة ليست معذورة في تركها المرجعيات المعصومة التي مثلت الامتداد الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففي ظل وجود تلك المرجعية لا يكون الاجتهاد عملاً مبرراً، فمرحلة النصوص مازالت مستمرة بوجود الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام)، وإذا رجعنا لما كتب في تاريخ التشريع الإسلامي نجده يعتمد في تبرير العمل بالرأي على محدودية النصوص التشريعية، فمثلاً يقول الشهرستاني: «نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعاً أنه لم يرد في كل حادثة نصّ، ولا يتصور ذلك أيضاً، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلِم قطعاً أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد». وبذلك يكونوا قد جعلا القياس مصدراً من مصادر التشريع، ومن ثم اتسعت الدائرة لتستوعب مصادر أخرى للتشريع، مثل الاستحسان، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، وعمل الصحابي، وغيرها من الأصول الظنية التي جعلت التشريع تابع للعمل بالرأي.

وبرغم من عدم تمهل الأمة في ضبط مصادرها التشريعية إلا أن تلك المصادر أصبحت أساساً لمنظومة فقهية متكاملة، لم تزل الأمة تدين الله بها، ومع أن عملية الاجتهاد السني بدأت بوادرها مبكرة إلا أن تأصيلها لتلك الأصول والكشف عن مناهجها الاستنباطية لم يتم تحقيقه إلا في عصور متأخرة من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكتب عنها بصيغة استدلالية إلا في عهد الشافعي.

وقد حاول بعض الباحثين السنة في تاريخ الاجتهاد نسبة العمل بالرأي إلى الرسول الذي عمل به وعلمه صحابته في خطوة لشرعنة العمل بالرأي، كحديث معاذ بن جبل عندما بعثه رسول الله قاضياً إلى اليمن وقال له فيما قال: بماذا تقضى إذا لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة رسول الله؟ قال معاذ: اجتهد رأيي ولا آلو، فقال رسول الله: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله. وكذلك الروايات التي تبين اجتهادات رسول الله والتي تكون في العادة خاطئة بحجة تعليم الامة العمل بالرأي، كحادثة تأبير النخل، ففي رواية مسلم عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بقومٍ يُلقِّحون فقال: لو لم تفعلوا لصلَح، قال فخرج شِيصاً (تمراً رديئاً). فمرَّ بهم فقال: ما لنخلِكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم) يقول مناع القطان معلقاً على ذلك في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي: «نحب أن نفرق هنا في تصرفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ما هو تشريع وما ليس بتشريع، فهناك أمور سبيلها التجربة والدِّربة في الحياة والخبرة بأحوالها، فيما اعتاد الناس كشؤون الزراعة والطب فهذه يجتهد فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتهاد غيره ويخطى ويصيب وليست شرعاً»، وهذا التبرير يفتح الباب واسعاً أمام العمل بمطلق الرأي في تحديد وتشخيص الموضوعات، لأن التفريق القائم لا يعتمد على ضوابط واضحة، وخاصة أن التداخل كبير بين تحديد الموضوع والحكم الشرعي، ويمكن الاستشهاد على هذا التداخل من حادثة التأبير نفسها، فامتناع الصحابة من تلقيح النخل مبتنٍ على الفهم القاضي بشرعية أمر الرسول في حرمة تأبير النخل، ولذا امتنعوا عنه على حسب الرواية، لأن بالإمكان أن يتدخل الرسول ويمنع من زراعة نوع معين من النبات أو التداوي بنوع معين من الدواء، وهكذا سجل لنا التشريع حالات كثيرة تدخل فيها الشارع لتشخيص بعض الموضوعات، فكيف يتأتى للإنسان التمييز بين الباب المطلق للرأي الذي حاول الحديث إثباته وبين الدائرة التي يتدخَّل الشرع فيها للتشخيص الموضوعات، وبالتالي قد تتأسس أسس شرعية وأحكام فقهية لا يصح نسبتها إلى الرسول والرسالة.

وفي إجابة سابقة حول الاجتهاد الشيعي والاجتهاد السني بينا الفوارق بين مصادر التشريع بين الطرفين، وقد قلنا إن الشيعة لم يحتاجوا إلى إعمال النظر لاستنباط الأحكام الشرعية مع وجود المرجعيات المعصومة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومن هنا كان الموروث الشيعي كبيراً في الروايات الفقهية، فبينما كانت روايات الشيعة في باب الفقه والأحكام الشرعية تبلغ 100 ألف رواية، كانت الروايات المعتمدة عند أهل السنة في ما يتعلق بالأحكام في حدود 500 رواية فقهية، وإذا أخذناها مع المتكرر والضعيف تبلغ 4500، يقول الدكتور محمد فاروق النبهان: (وقد جرت محاولات لاستقصاء الآيات والأحاديث والواردة في الأحكام فقيل بأن آيات الأحكام في القرآن تبلغ نحواً من 500 آية، وأحاديث الأحكام 4500 حديث، وهذه النصوص منها ما يتعلق بالعبادات، ومنها ما يتعلق بالتنظيم التشريعي) (المدخل للتشريع، ص 98). ومن هنا اعتمد الفقه السني على العمل بالرأي في حين لم يجد الشيعة مبرراً لذلك مع هذه الوفرة من النصوص الفقهية.

وعليه فإن مصادر التشريع الأساسية عند الشيعة هي القرآن والسنة، ولم يثبت عندهم الإجماع كمصدر من مصادر التشريع إلا إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم، أما العقل وإن جعل مصدراً ثالثاً بعد القرآن والسنة إلا أنهم لم يحتاجوا إليه عملياً في استنباط الأحكام الشرعية، وكل ما هو موجود هو مناقشته أصولياً في باب الملازمات العقلية، وقد أشار الشهيد الصدر لهذه الحقيقة في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة، حيث قال: (ونرى من الضروري أن نشير أخيرا بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدنا بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة بامتدادها المتمثل في سنة الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم أحد الثقلين الذين امر النبي (ص) بالتمسك بهما ولم نعتمد في شيء من هذه الفتاوى على غير هذين المصدرين، اما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغا شرعيا للاعتماد عليها تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام. واما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وان كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به ولكنا لم نجد حكما واحدا يتوقف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة واما ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنة ولا يعتمد عليه الا من اجل كونه وسيلة اثبات للسنة في بعض الحالات، وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة ونبتهل إلى الله تعالى ان يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) (الفتاوى الواضحة، ج1، ص 15).