كيف يعالج ’الإسلام’ مشاكل الحياة؟

يمكن تصور المنهج الإسلامي لمواجهة إشكالات الحياة وصعوباتها في بعدين، الأول المنهج الذي يعمل على منع وقوعها من الأساس، والثاني هو المنهج الذي يتعامل معها بعد حصولها.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ففي البعد الأول عمل الإسلام على تحصين الفرد والمجتمع مما يعكر عليه حياته، فالإسلام بكل ما فيه من عقائد وأحكام يستهدف تأسيس حياة سعيدة للإنسان، وقد جعل العمل الصالح هو الطريق الحصري لتحصيل ذلك، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فالعمل الصالح هو الذي يحقق للإنسان حياة طيبة في الدنيا وجزاء حسن في الاخرة، وبذلك يكون الإسلام حريص على حياة الإنسان في الدنيا وكذلك حريص على حياته في الآخرة، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فقد جعلت الآية الفساد في قبال الصلاح فأوجبت الصلاح وحرمت الفساد، وبذلك يكون الإنسان مسؤول عن كل ما يصيبه بسبب ما أحدثه من فساد في الأرض، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فالإنسان بفساده هو الذي تسبب في معاناته، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).

ولكي يتحقق الصلاح أمر الإسلام بمجموعة من الأمور يمكن تلخيصها كالتالي:

أولاً العقيدة الصحيحة: ولا نقصد مجرد الاعتقاد النظري أو القدرة على استحضار الأدلة، وإنما العقيدة القائمة على الوعي الذي يستحضر المحتوي القيمي والثقافي لتلك العقائد، وقد عبر القرآن عن هذا الوعي بالبصيرة، فالعقيدة ليست مجرد معرفة للحقيقة وإنما اتخاذ موقف يقوم على تلك الحقيقة، فالهدف من المعرفة ليس مجرد التعرف على الأشياء، وإنما هو تحديد مسؤولية الإنسان اتجاهها، وعليه يمكن أن يكون الشيء معروفاً للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن هو الذي يمتلك فيه البصيرة دون الكافر، ويبدو أن كلمة البصيرة في القرآن هي التي تؤكد على الجانب العملي للعقيدة، ومن خلالها نفهم المقصود من قوله تعالى (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وقوله: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وهذا لا يتحقق بمجرد الاعتقاد بوجود إله وإنما بحضور هذه الاعتقاد بشكل ملموس في حياة الإنسان، وعليه لا يمكن تجاوز مشكلات الحياة إلا ببصيرة واعية تقوم على عقيدة صلبة.

ثانياً الإيمان: وهو صلة الوصل بين الحق والخلق، ومنه تجري كل قيم الخير والفضيلة، ويمكننا أن نؤكد أن عشق الإنسان للقيم وتطلعه للكمال نابع من إيمان الإنسان بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتصال بالله ومن ثم التخلق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلع له الإنسان هو تجاوز الأنانيات الضيقة والتحول إلى حالة أسمى وأرفع، وبالتالي الإيمان بالله في حقيقته تحديد لمسار الإنسان، فبدل أن يكون مسار الإنسان نحو الذات يكون مساره نحو الله، وقيمة حياة الإنسان بقيمة الهدف الذي يسعى إليه، ومن هنا كانت حياة الإنسان بين مسارين، بين حبه لله وحبه لهواه، أي بين أن تكون حياته لها قيمة وبين أن تكون القيمة هي الأنا والشهوة، ولذا ربط الإسلام بشكل وثيق بين الإيمان وبين العمل الصالح، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)، وقال تعالى: (ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ)، ومن هنا لا يمكن أن يعبر الإنسان في الدنيا بأمان من دون إيمان قوي وراسخ.

ثالثاً العلم: من الأمور التي لا تحتاج إلى برهان هو كون العلم أساس كل صلاح والجهل أساس كل فساد، والنصوص الإسلامية في ذلك أكثر مما تحصى، وعليه لا يمكن أن يطمع الإنسان في حياة هادئة ومستقرة إلا إذا اخذ بأسباب العلم والمعرفة.

خمساً العدل: من المؤكد أن العدل قيمة محورية لا تستقيم الحياة بدونه، ولذا جعله القرآن هدف جميع الرسالات قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، بل طلب العدل حتى مع الأعداء قال تعالى: (يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وفي المقابل جعل الظلم معول هدم لحياة الإنسان، فكل ما يصيب الإنسان إما لظلمه لنفسه أو ظلم الاخرين له، قال تعالى: (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وقال تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وقال تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) فقد أذن الله للإنسان في سبيل رفع الظلم عنه أن يجهر بالسوء ويظهر المعارضة والتحدي للظالم، فالذي يعيش في الظلم ولا يسعى لتغيير وضعه يكون ظالماً لنفسه، فالله منح الإنسان العقل والقدرة والإرادة وهياء له أسباب الحياة الكريمة فلا يتوقع بعد ذلك أن ينوب الله عنه ليعمل بدل منه، وقد بين القرآن الكريم نموذجاً لهؤلاء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فقد وصفتهم الآية بانهم ظالمي أنفسهم مع أنهم يعيشون حالة من الظلم والاستضعاف، وارجعت الآية السبب في ذلك إلى مسؤوليتهم الشخصية عن رفع الظلم عنهم، ولم تكتفي الآية بذلك وإنما بينت لهم أحد الخيارات التي كان بإمكانهم العمل بها وهي الهجرة بعيداً عن الظالمين، وبالتأكيد الخيارات متعددة ومختلفة بحسب الظرف الزمني، ولا عذر للإنسان أمام ما يصيبه من ظلم واستضعاف، وفي المحصلة لا يمكن ان تستقيم الحياة بدون عدالة، ولكي تتجاوز البشرية الكثير من المشاكل يجب عليها أن تبتعد عن الظلم.

وكذلك عمل الإسلام على معالجة عوامل الضعف في الإنسان حتى يستقيم على الصراط المستقيم، فالأهواء والشهوات هي التي تجعل الإنسان ضعيفاً أمام مغريات الحياة، وبالتالي كل فساد في الأرض وكل ظلم وتعدي هو بسبب تلك الأهواء، فحب الإنسان لذاته يشكل أساساً لكل رغباته وشهواته، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). فحب الذات هو الذي يزين للإنسان متاع الحياة الدنيا، وقد اصطلح القرآن على هذا الحب بهوى النفس.

وعليه فإن فكرة الإسلام الأساسية في معالجة الانحرافات تتلخص في أن الهوى (الشهوات) وما يتبعها من مشاكل نفسية هي التي تمنع الإنسان من عمل الصالحات، وفي مقابل ذلك تصبح مخالفة الهوى هي الضمان الوحيد للاستمرار على الصراط المستقيم، وهكذا رسم الإسلام معادلة شديدة الوضوح، تقوم تلك المعادلة على ركيزة واحدة وهي ترك الهوى، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)، وللاستدلال على صحة هذه المعادلة يكفي استعراض بعض النصوص الواضحة في ذم العمل بالأهواء، ولا يحتاج الأمر إلى بحث تفصيلي عن النفس وميولاتها في القرآن. قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ). حيث تؤكد الآية على أن الهوى هو المسؤول عن عدم قبولهم الحق الذي جاء به الأنبياء. وقال تعالى: (إن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ)، وهنا جعلت الآية هوى النفس سبباً في ترك الهدى. وقال تعالى: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، والعدل كما الحق لا يمكن تطبيقه إلا بمخالفة الهوى. وحين بعث الله نبيه داود وجعله خليفة على الناس، أمره بمخالفة الهوى لأنها طريق العمل بالحق، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). كما أن الله نهى عن طاعة من يتبع الهوى، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)  بل حكم القرآن بشكل مطلق بأن أهواء الناس ضلالات يجب مجانبتها قال تعالى: (قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، وفي المحصلة هناك تضاد كامل بين الهوى والعلم، قال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، وقال: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)، وكثير هي الآيات التي تحمل الهوى مسؤولية الانحرافات الفكرية والسلوكية.

وعليه عمل الإسلام على تأسيس حياة سعيدة للإنسان وذلك من خلال تمليك الإنسان بصيرة في الحياة، ومن خلال تلك البصيرة يتمكن الإنسان من عمارة الأرض بالصالحات، ومن دون ذلك يكون الفساد هو النتيجة الطبيعية، وحينها تتحول حياة الإنسان إلى جحيم ومعاناة، وما نشهده اليوم من مظالم وحروب وفقر هو بسبب هيمنة المصالح والأهواء على حياة البشر.

أما منهج الإسلام في مواجهة مشكلات الحياة في حال حصولها، فيمكن تلخيصه في عدم الاستسلام لمشكلات الحياة والسعي الحثيث لتجاوزها، ويكون ذلك بالصبر الإيجابي والتواصي الدائم على الحق، وقد لخص القرآن ذلك في سورة العصر حيث أكدت السورة على كلا البعدين حيث اشارت في البعد الأول إلى عمل الصالحات بوصفه الأساس للحياة الطيبة، وأشارت في البعد الثاني إلى الصبر والتواصي بالحق بوصفهما الأساس لتجاوز كل ما يصيب الإنسان من مشاكل. قال تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).