الغناء حرام ويد السارق تُقطع.. ألا ينافي الدين فطرة الإنسان؟!

كيف يعقل انحراف الدين عن الفطرة مثل تعارض قانون العقوبات الإسلاميّ مع مقتضيات الفطرة كقطع يد السّارق ورجم الزاني المحصن، وكذلك منافاة الفطرة لبعض الأحكام الشرعيّة مثل حرمة الغناء والرّسم وبعض الفنون ووجوب الحجاب على المرأة المنافي للحرّيّة التي هي حقّ فطريّ.

ملخّص الإجابة: 

التفسير الخاطئ للفطرة قد يجعل البعض يتصوّر نوعاً من التعارض بين الفطرة وبين الأحكام الشرعيّة.

بينما المقصود من الفطرة الدينيّة هي الفطرة الموجودة في الإنسان دون الحيوان، وهي الحقائق التي يجدها الإنسان في عمق وجدانه بوصفه كائناً عاقلاً ومدركاً لحكم الأشياء.

وهذا بخلاف الفطرة بمعنى الغريزية التي هي مشترك بين الإنسان والحيوان.

وما ذكره السائل من أمثلة قد يتعارض مع غريزة الإنسان الحيوانيّة ولكنّه لا يتعارض مع الفطرة الإنسانيّة، فالحدود الشرعيّة، وحرمة الغناء، ووجوب الحجاب، كلّها أحكام تستهدف الكمال الروحيّ للإنسان، وذلك من خلال تكوين بيئة طاهرة ومجتمع عفيف يسمح للإنسان بتكامله الروحيّ والمعنوي.

تفصيل الإجابة:  

يبدو أنّ السائل اشتبه عليه معنى الفطرة فتصوّر وجود تعارض بينها وبين بعض الأحكام الشرعيّة.

ولرفع هذا الاشتباه لابدّ من تمييز الفطرة الدينيّة عن المعنى العامّ للفطرة.

فكلّ ما جبل عليه الإنسان يسمّى فطرةً بمعناها العام، وهي بالتالي تشمل كلّ ما يميّز الإنسان في بعده التكوينيّ.

فالإنسان ككينونة واحدة عند جميع البشر يمتاز بخصائص روحيّة تميّزه عن بقيّة المخلوقات.

فوعيه لوجوده وتعقّله لبقيّة المخلوقات وتحرّكه في إطار الغاية والحكمة يجعل منه مخلوقاً ذو تطلّعات تتجاوز البعد المادّيّ والغريزي.

وبذلك يكتسب الإنسان نوعاً خاصّاً من الفطرة مضافاً للفطرة الغريزيّة التي تشاركه فيها بقيّة الحيوانات.

وهنا تبرز أهميّة الدين بوصفه الخطاب الذي يحرّك الإنسان نحو تحقيق تلك التطلّعات الروحيّة. 

ولكي نميّز بين الفطرة بمعناها العامّ وبين الفطرة الدينيّة لابدّ أن نميّز بين الدوافع المادّيّة والغريزيّة، وبين الدوافع الروحيّة والمعنويّة.

وهذا ما لم يلتفت إليه السائل حيث استخدم الغريزة والفطرة بمعنىً واحد!

فالإنسان بوصفه مركّباً من روح وجسد له نوعان من الحاجات، مادّيّة تلبّي حاجة الجسد، ومعنويّة تلبّي حاجة الروح، والفطرة بمعنى الخلق والتكوين تشمل كلا الحاجتين.

إلّا أنّ الفطرة الدينيّة مرتبطة بالحاجات الروحيّة دون المادّيّة.

فالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وغيرها تسمّى غرائز.

أمّا حاجة الإنسان إلى الكمال وتعلّقه بالقيم والأخلاق وسعيه نحو السعادة له علاقة بالحاجات الروحيّة وهي ما نطلق عليه الفطرة الدينيّة.

وما يميّز الحاجات الروحيّة أو الفطريّة، عن الحاجات المادّيّة أو الغريزيّة، هو أنّ حاجات الفطرة لا تعرف الحدّ والشبع بخلاف حاجات الغرائز.

فمهما كانت حاجة الإنسان للطعام والشراب وغير ذلك فإنّ مقداراً قليلاً منها يكفيه.

بينما تطلّعه الروحيّ والمعنويّ ليس له حدّ يقف عنده، وبهذا، يمكننا تفسير حالة التجاوز والارتقاء والتسامي الموجودة عند البشر، وإلّا لماذا ينزع البشر إلى مثل أعلى؟، ولماذا يهوى المقدّس والمتعالي؟، ولماذا يتجاوز ذاته للوصول إلى ما هو أعلى؟، وما الذي يجعل التاريخ البشريّ في تطوّر دائم نحو ما هو أفضل؟ فالحالة الوجدانيّة التي تشعر بضرورة التكامل وبوجود المتعالي، لهي أقرب دليل على فطرة الإنسان وتطلّعه الرّوحي.

وإذا انطلقنا من التمييز السابق سيتّضح معنى التطابق بين الدين والفطرة؛ وذلك لأنّ الدين ليس شيئاً آخر غير دعوة الإنسان لتحقيق تطلّعاته الروحيّة، فالإنسان متديّن بطبيعته الروحيّة التي تعشق القيم وتتطلّع للكمال، فكلّ أمر يحكم به الشرع يحكم به العقل الفطريّ بالضرورة، والعكس بالعكس.

ولا سبيل لإشباع تلك الفطرة وتحقيق ذلك التطلّع غير اتّصال الإنسان بالغيب، فمن دون الإيمان بالله مصدر الكمال والجمال لا يكون ذلك التطلّع مفهوماً.

وهذا ما صرّح به أئمّة أهل البيت بقولهم (أوّل الدين معرفته) فمن دون تلك المعرفة لا يجد الإنسان سبيلاً لكماله.

وبذلك يمكننا أن نؤكّد أنّ عشق الإنسان للقيم وتطلّعه للكمال نابع من الإيمان الفطريّ بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتّصال بالله ومن ثمّ التخلّق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلّع له الإنسان هو تجاوز الأنانيّات الضيّقة والتحوّل إلى حالة أسمى وأرفع، وذلك لا يكون إلّا بعد الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى.

ولسان الروايات صريح في كون الفطرة هي التوحيد ومعرفة الله تعالى:

فعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿فطرت الله الّتي فطر النّاس عليها﴾ قال: فطروا على التوحيد. 

وقال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿حنفاء لله غير مشركين به﴾ ما الحنيفيّة؟، قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها، فطر الله الخلق على معرفته) 

والنصوص في هذا الشأن كثيرة.

وإذا كانت معرفة الله فطريّةً فإنّ كلّ القيم التي تتجلّى من تلك المعرفة تكون فطريّةً بالضرورة؛ لأنّ مصدر كلّ القيم التي يقدّسها الإنسان ويتطلّع إليها تعود إلى أسماء الله الحسنى.

وقد أشرنا للرّابط بين القيم وبين الأسماء الحسنى في إجابات سابقة، فكلّ اسم من أسماء الله الحسنى يمثّل قيمةً فطريّةً يتطلّع الإنسان لتجسيدها.

والقرآن الكريم بما فيه من معارف وتشريعات يرتكز على الأسماء الحسنى بوصفها الأساس لعبادة الله تعالى، (وللّه الأسماء الحسنىٰ فادعوه بها).

فالدين بكلّ أحكامه الشرعيّة يستهدف تحريك الإنسان نحو العمل طبقاً لتلك القيم الفطريّة، ومن هنا لا يجوز تقييم التشريعات الإسلاميّة بمعايير المصلحة التي تفرضها الطبيعة الغرائزيّة للإنسان، وإنّما يجب تقييمها وفهمها بمعايير القيم الفطريّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان مخلوق له كرامة وقيمة، إلّا أنّ قيمته وكرامته لا تستمدّ من واقع كونه جسداً مادّيّاً، وإنّما يستمدّها من جانبه الروحي الذي يحقّق له إنسانيّته.

فالإنسان يكتسب قيمته من خلال سلوكه الاختياريّ، وهو بدوره لا يكون ذو قيمة ما لم يرتكز على قيمة معنويّة وروحيّة، ولذا لا يكتسب الإنسان قيمةً لأنّه يأكل أو يشرب أو يتزوّج، وإنّما يكتسب قيمةً إذا كان عالماً أو رحيماً أو محسناً أو كريماً أو غير ذلك من القيم الأخلاقيّة.

ومن هنا يجب أن نفرّق في مقاربتنا للأحكام الشرعيّة بين المعايير التي تفرضها طبيعتنا الغرائزيّة وبين المعايير التي تفرضها طبيعتنا الروحيّة والفطريّة.

فمثلاً:

قطع يد السارق أو حتّى سجنه يتنافى مع الدافع الغريزيّ للإنسان، لأنّ ذلك بالضّرورة يمثّل نوعاً من الحرمان والنقصان لمتطلّبات الجسد، ويبدو أنّ ذلك هو السبب الذي دفع السائل إلى القول بوجود تناف بين الفطرة وقطع يد السارق.

إلا أنّه لم يلتفت إلى أنّ قيمة الإنسان في حاجته الروحيّة قبل حاجته المادّيّة، وعند التعارض بين الحاجتين فإنّ الحاجة الروحيّة والفطريّة مقدّمة على الحاجة المادّيّة والغرائزيّة، فيجب المحافظة على الجسد إذا لم يتعارض ذلك مع المحافظة على الرّوح، أمّا في حال استحكام المعارضة فإنّه يضحّى ببعض الجسد أو كلّه في سبيل المحافظة على قيمة الإنسان كروح وكمعنى وكقيمة، وإلّا كيف نفهم تقدّم الإنسان في ساحات القتال حتّى يقتل في سبيل الدفاع عن وطنه مثلاً؟ فالإنسان من أجل الدفاع عن حرّيّته وكرامته واستقلاله يقدّم جسده فداءً لتلك القيم.

وكذلك الحال في الحدود الشرعيّة سواء كانت جلداً أو قطعاً أو قصاصاً فإنّها تستهدف الحفاظ على مجموعة من القيم الروحيّة التي يجب أن تسود في المجتمع.

وقد فصّلت مجموعة من البحوث الحكمة من تلك التشريعات.

ولم نفهم مخالفة حرمة الغناء والموسيقى للفطرة كما أشار السائل، بل هي واضحة في كونها مخالفةً للفطرة التي تنشد الكمال، فالترفيه والمرح واللهو والترف وكلّ ذلك يسير في الاتّجاه المعاكس لكمال الإنسان.

وعليه فإنّ الغناء والموسيقى وكلّ أدوات اللهو تمثّل حاجةً شهوانيّةً ترضي هوى الإنسان ولا ترضي فطرته.

أمّا الفنون الأخرى التي لم ترد نصوص بحرمتها فهي مسموح بها في الحدود التي لا تحجب الإنسان عن تطلّعاته الروحيّة والفطريّة. 

أمّا وجوب الحجاب ومخالفته للحرّيّة فقد فصّلنا في أجوبة سابقة فلسفة الحجاب وكيف يمثّل الحجاب ضرورةً فطريّةً تستهدف عفّة المجتمع وطهارته.