لماذا تكثر علينا المشاكل والابتلاءات؟

​ورد في جملة من آیات القرآن الكریم و الروایات المرویة والمستفیضة عن أهل بیت العصمة والطهارة علیهم السلام، أن سبب الابتلاءات التي تحصل للمؤمنین إما بسبب ما یصدر منهم من أفعال عفویة خاطئة وبریئة، أو هي امتحانات واختبارات إلهیة، أو لأجل رفعتهم و علو شأنهم في أعلی الدرجات في الجنة.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وإلیك هذا الإیضاح الموجز لكل من هذه المفردات:

أولاً: قد یرتكب الانسان بعض الزلات والأخطاء ینتج عنها بعض الابتلاءات والمحن في الحیاة الدنیا، فلكل ذنب ومعصیة أثرها الخاص بها، فبعضها ینتج عنها الفقر، وبعضها الآخر ینتج عنها ابتلاءات و محن آخری، كما أشار إلیه الامام علي (ع) في دعاء كميل قال علیه السلام: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعَاءَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاء»، وعلی أي حال، هذه الابتلاءات والمحن إنما هي كعقوبة علی ذنوبه وآثامه ومعاصیه، وبما أن الله یحب عبده المؤمن، فقد یبتلیه بسبب بعض هذه الذنوب والمعاصي، فتكون عقوبة هذه الذنوب والمعاصي في هذه الدنیا، ویخفف من وزرها في الآخرة، وهذا هو بنفسه من ألطاف الرحمة الالهیة الكبیرة بالعبد المؤمن، أما من یشمله الغضب الالهي، فبدل أن یعاقب بالابتلاءات والمحن في كثیر من الموارد، یزید له في نعمته، لیبتلی في النهایة بالعذاب الألیم في الآخرة.

ثانيا: الامتحانات الإلهية قد تكون الابتلاءات والمحن للامتحان والاختبار الالهي، فمن السنن الكونیة والقوانین الالهیة الثابتة أن یمتحن المؤمنین، كما أشار القرآن الكريم في آيات عدیدة لهذه المسألة، فعلی سبیل المثال: قال لله سبحانه وتعالی في محكم كتابه المجید: « لتُبْلَوُنَّ في‏ أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ» (آل عمران:186).

وقال أیضاً: «و لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الاَمْوالِ وَ الأَْنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ» (البقرة:155)؛ وقال كذلك: «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون...»(العنكبوت1-3).

إذاً، لیس للامتحانات والابتلاءات الالهیة إطار محدد ومعین، بل أن كل شخص یبتلی و یمتحن تبعاً لحالاته النفسیة والعاطفیة والروحیة، ولهذا قال عزوجل في آية أخری أیضاً: «وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» (الانبياء: 35).

ما هي الحكمة في الامتحانات الالهية؟

إذا كان الله علام بالأمور، فلیست الامتحانات الالهیة لرفع الجهل عن الأمور، بل لیستعرض المؤمن الخالص قابلیاته وكفاءاته، ویظهر استعداداته الباطنیة، فیمتحنه الله عزوجل، إذ إن من الحكم الالهیة إخلاص الانسان المؤمن وإظهار جوهره الإیماني الناصع، فكما أن الذهب إذا صهر بالنار، لتزال منه شوائبه و تظهر ونزاهته في كورة النار، فیبدو منه الذهب الخالص، فكذلك الإنسان المؤمن، إذ یصف الله عزوجل عمل الانسان بكورة البلاء والمحن، لیكون إیمانه خالصاً ناصعاً، وكذلك فصل صفوف المؤمنین بصدق عمن ادعوا الایمان كذباً وزوراً و بهتاناً، فكان إسلامهم مجرد لقلقة لسان، وهذا هو أیضاً من الحكم والامتحانات الالهیة، كما قال الامام علي (ع): «لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَ يُمَيَّزُوا وَ يُغَرْبَلُوا وَ يُسْتَخْرَجُ فِي الْغِرْبَالِ خَلْق».

وعلی هذا، یتعرض المؤمنون تناسباً مع درجات إیمانهم وحالاتهم النفسیة والروحیة إلی امتحانات واختبارات الهیة صعبة، ولا ینبغي لأحد أن یتصور أن طریق الایمان والتدین تحفّ به الریاحین والزهور، ویمرّ عبر الحدائق الغنّاء و الخضراء، بل هو طریق ذات الشوكة، فیضع الإنسان المؤمن علی طول هذا المسیر الطویل الذي أمامه أقدامه علی أعتاب هذه الزهور والریاحین، فیكون هذا التصور علامة علی عدم معرفة ماهیة الایمان والدین، ولقد عشعش و سیطر هذا التفكیر والتصور في أذهان بعض المسلمین الذین عاشوا في مكة أنهم إلی متی سیتحملون هذا العذاب، ویتألمون بسبب إیمانهم بالله الواحد الأحد؟

فأنزل الله عزوجل هذه الآیات لرفع هذه الأوهام عن أفكارهم وتصوراتهم؛ فقال سبحانه وتعالی: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ» (العنكبوت/2-3).

ولعل هذه التصورات غیر الطبیعیة و غیر المأنوسة قد جعلت أهل الإیمان یتصورون: أنهم لا یمكن أن تعرقل المشاكل طریقهم بعد ذلك أبداً، وحصل هذا النوع من التفكیر في أذهان أهل المدینة أیضاً، فقال الله عزوجل لإبطال هذا التصور الخاطئ: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَريب‏»(البقرة: 214).

روي: أن معركة «أحد» انتهت، فكان حصیلتها وقوع الكثیر من القتلی والجرحی، وسقوط سبعین فارساً من صنادید المسلمین وشجعانهم وقادة جیشهم في المعركة، «ولكي یبین الله سبحانه وتعالی لهم أن طریق الإیمان والتدین هو طریق ذات الشوكة، یمر بالصعاب والابتلاء»أنزل علیهم هذه الآیة المباركة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرينَ»(آل عمران:142).

وعلی أي حال، لمسألة الامتحان والاختبار الالهي بحث واسع وطویل، وأحكامه وحكمه كثیرة لا تعد ولا تحصی أیضاً، فالله یبتلي عباده ویفتنهم، كما فتن الانبیاء والرسل من قبل بشدة البلاء والابتلاء والفتن المریرة.

ثالثا: مضاعفة الاجر والثواب المعنوي، فقد یبتلي الله سبحانه وتعالی عباده المؤمنین لیعلم مدی صبرهم علی البلاء فیضاعف من درجاتهم المعنویة. روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ:ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) الْبَلَاءُ وَ مَا يَخُصُّ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ الْمُؤْمِنَ فَقَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً فِي الدُّنْيَا فَقَالَ النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ وَ يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَ حُسْنِ أَعْمَالِهِ فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَ حَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَ مَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَ ضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلَاؤُهُ».

و روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ بِمَنْزِلَةِ كِفَّةِ الْمِيزَانِ كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلَائِه». وقال الامام الصادق علیه السلام: «إن الله لیبتلي أولیاءه لیثیبهم علی ذلك بالأجر والثواب لما لم یذنبوا».

وفي حديث آخر عن رسول الاسلام (ص) قال:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلِهِ يُبْتَلَى بِبَلَاءٍ فِي جِسْمِهِ فَيَبْلُغُهَا بِذَلِكَ». وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع: «قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَا يَبْلُغُهَا عَبْدٌ إِلَّا بِالِابْتِلَاءِ فِي جَسَدِهِ».

وبناء علی ما ذكر، علينا أن نفكر في حیاة أناس من البشر الصلحاء ومن لهم كرامة عند الله كالأنبیاء والرسل والأوصیاء علیهم السلام والأولياء وعباد الله المؤمنین، وما حلّ علیهم من المحن والبلاء في الدنیا، أو ذلك فیما إذا تعرض غیرهم لمثلها، فتحمّل عبئه ثقیل جداً، وتحملّه صعباً علیهم و شاق.

وجميعنا يعرف قصة نبي الله أیوب علیه السلام، وكیف أن الله قد ابتلاه، ففقد ولده و صحته في فترة قصیرة جداً، رغم أنه قد أصیب بافتقاد الابناء الشباب وهم في مقتبل العمر، وحالة الفقر الشدیدة، وسقم البدن، ولسعة الألسنة النابیة، وسخریة الناس بالنبي أیوب علیه السلام، إلا أنه لم یصدر منه اعتراض أو شكوی علی ذلك، ولم یقل: أي رب، لقد ابتلیتني وامتحنتني، وسأقف في طریقك یوم القیامة، بل كان یشكر ربه في كل حال، فصبر علی قضاء الله وقدره، حتی رفع الله عزوجل عنه كل هذه المحن والابتلاءات العظیمة، فكان علیه السلام سید الصبر والكرامة عند الله، ومثال الصبر والاستقامة عند الناس المؤمنین.

لاحظوا حیاة وسیرة الأئمة من أهل البیت علیهم السلام، فكم عانوا من المحن والابتلاء والبلاء؟ وشاهدوا واقعة كربلاء، فكم من المصائب العظمی والجسام قد مرت علی هذه الذریة الطاهرة من أهل البیت علیهم السلام، ولكن مع كل تلك المصائب والبلاء الذي جری علیهم في كربلاء، كانت أسوة و سیدة الصبر السیدة «زینب الكبری» تتحلی بالصبر، ولم تنبس بشفة اعتراض أبداً، بل قالت علیها السلام تصف ما حل بها بقولها: «ما رأيت إلا جميلا»؛ وحتی في لیلة استشهاد إخوتها وأنصار الإمام الحسین علیه السلام، لم تترك التهجد بنافلة اللیل أبداً.

ففكروا الآن، لعل تعرضكم للمحن والبلوی هو نوع من الامتحان والاختبار الالهي، ولعل فیه جهات أخری أیضاً، ولعل بعض الروایات صرحت بأن خیر العبد في المحنة والابتلاء في الدنیا، واقتضاء حكمته أن یبتلیه ویمتحنه. وتتعلق الاجابة للدعاء و التوسلات ببعض الشروط أیضاً، فإذا لم تتحقق هذه الشروط، فسوف لن یستجاب الدعاء. ویحب الله عزوجل كذلك أن یسمع صوت عبده واستغاثته به، فیكون ذلك سبباً في أن تؤخر استجابة دعوته، وقد یری ربه أن خیره وصلاحه في عدم استجابة الدعاء، فیدخرها له علی أن رفعة و درجة معنویة في عالم الآخرة، وبما أننا نجهل الحكم الالهیة، فقد نتصور أن كل ما نطلبه من الله، علی الله الإجابة؛ وأن یكون الأئمة علیهم السلام واسطة في الإجابة، مع أن هناك حكم-بكسر الحاء وفتح الكاف- أخری نحن نجهلها في هذا العالم أیضاً .

إن الله سبحانه وتعالی لا یبتلي أحداً من دون سبب، فهو یحب عباده أكثر من حب الأم لولدها، ومن هنا ينبغي أن نسيطر على أفكارنا، ولا ننخدع بالوساوس الشیطانیة، ولا نسود الناصعة البیضاء في ارتباطكم مع الله.