غضب الزهراء (ع)... كيف يتحول "حدث تاريخي" إلى مصدر للتشريع؟

ورد عن النبي الأعظم: (صلى الله عليه وآله وسلم): "فإنما ابنتي فاطمة بضعة مني يريبني ما أرباها ويؤذيني ما آذاها"[1].

يوجد قسمان من القضايا التأريخية:

الأول: القضايا التاريخية المحضة، وهي التي لا ترتبط ببيان الدين، ولا ببيان العقائد أو الفقه أو القيم والأخلاق الإسلامية. كتلك التي تتناول -مثلاً- احتلال "التتر" للبلاد الإسلامية، أو ونظير اجتياح نابليون للأراضي المصرية، وهما حدثان تاريخيان لا يستنبط منهما أي حكم فقهي أو عقدي أو أخلاقي.

الثاني: القضايا التاريخية المرتبطة ببيان الدين، وهي القضايا والأحداث التي وقعت في الزمن المنصرم، ولكن من خلالها نستطيع التعرف على أحكام الدين، كالعقائد والأمور الدينية الفرعية وأيضا الجوانب الأخلاقية. هذه القضايا والأحداث هي ما يرتبط بسيرة المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم)، فسيرتهم (صلوات الله وسلامه عليهم) رغم أنها حدثت في زمن مضى وخلى، ولكنها تعتبر منبعا لمعرفة أحكام الله تبارك وتعالى.

يدخل الحدث التاريخي ضمن دائرة مصادر التشريع لدى الشيعة، فقول المعصوم أو فعله أو تقريره أو إمضائه التي تعتبر من "السنة" إلى جانب القرآن الكريم كمصدرين للتشريع؛ إنما هي حوادث تأريخية وقعت في الماضي، وهي محوراً مهماً في أخذ الأحكام سواء على مستوى الفقه أو العقيدة وسائر المعارف الدينية.

ومن هنا جاء الحث على التمسك بالقرآن الكريم والعترة، التي يؤصلها الحديث النبوي الشريف الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ"[2]

فإن المقصود من التمسك بالعترة الطاهرة هو السير وفق هديهم المبارك، وهذا الهدي المبارك نأخذه من أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم. والصديقة الزهراء عليها السلام من المعصومين ومن أرز مصاديق أهل البيت عليهم السلام، ففي الحديث المروي عن أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) أنها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) قالت: فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علي وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - أجمعين فقال : "اللهم هؤلاء أهل بيتي "، قالت أم سلمة : يا رسول الله ، ما أنا من أهل البيت؟ قال : " إنك أهلي خير ، وهؤلاء أهل بيتي اللهم أهلي أحق" [3].

فإذا كانت الشهيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) من أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، الذين أمرنا الله تبارك وتعالى بالتمسك بهم، فيكون قولها وفعلها تقريرها مصدر من مصادر المعرفة العقيدية والفقهية والأخلاقية، وتكون سيرتها من القسم الثاني في القضايا التاريخية المرتبطة ببيان الدين.

ومن هنا يقول علماؤنا (أعلى الله كلماتهم) إن ما وقع على الصديقة الشهيدة الزهراء عليها السلام من أحداث بعد ارتحال أبيها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليست مجرد أحداث تاريخية محضة، بل ما وقع هو منبع من منابع بيان أحكام الله تبارك وتعالى.

غصب فدك ودلالته

عندما غصبت أرض فدك من الصديقة الزهراء عليها السلام فإنها لم تقبل بذلك وطالبت بها، فاحتج عليها الخصم بحديث نُسب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا نورث ما تركناه صدقة"[4]، فلم تقبل الزهراء عليها السلام بهذا الحديث، وقد غضبت على من غصبها فدكا وهجرته ولم تكلمه حتى انتقلت إلى الرفيق الأعلى.

وهذا الموقف من الزهراء عليها السلام يهدينا إلى عدة حقائق:

أولا: إلى عدم رضى الله تبارك الله وتعالى لغصب فدك، وعدم إقراره سبحانه لرفع الحديث المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ لا نورث ما تركناه صدقة - في وجه الصديقة.

ثانيا: عدم شرعية خلافة من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام والذي غضبت عليه سيدة النساء عليها السلام وقاطعته.

وبالعودة إلى الرواية التي قدمنا بها الحديث "يريبني ما رابها ويؤذيني ما أذاها" يتبين لنا أن الصديقة الزهراء عليها السلام من خلال مواقفها تعتبر مصدرا من مصادر معرفة أحكام الله تبارك وتعالى.

فإذا كانت عليها السلام لا ترضى على شخص، فنعلم أن هذا الشخص غير مرضي عليه عند الله تبارك وتعالى، وإذا غضبت على شخص، فنعلم أن هذا الشخص مغضوب عليه في ساحة الباري تبارك وتعالى، وهذا ما نستخلصه من قول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك"[5].

ومن هنا يتضح أن مصيبتها عليها السلام ليست مجرد حدث تاريخي بل هي مصدر في تحديد الموقف الشرعي من قضية عقائدية هامة وهي الإمامة. فمن تقدم على أمير المؤمنين ليس إماما ولا خليفة، وذلك لأن الله تبارك وتعالى غضب عليه بغضب الزهراء عليه.

دلالات حديث فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها

عندما ينظر الكثير من العلماء والخطباء إلى هذا الحديث يقولون: إنه دال على عصمة الزهراء عليها السلام، ولكن أحد علمائنا (أنار الله برهانهم) نظر لهذا الحديث الشريف بنظر أعمق، فقال إنه يثبت أمرا فوق مقام العصمة، فهذا حديث عجيب جدا.

إن من أبرز صفات المعصوم أنه لا يرضى إلا لله سبحانه وتعالى ولا يغضب إلا لله جل وعلا، بينما هذا الحديث العظيم لا يثبت لنا هذا المقام، وهو أن الزهراء عليها السلام ترضى لله تعالى وتغضب لله سبحانه، وإنما يثبت أن الله تبارك وتعالى هو من يرضى لرضها ويغضب لغضبها (صلوات الله وسلامه عليها)، أي: أن التبيعة في هذا الحديث العظيم ليست من جهة الصديقة الزهراء عليها السلام وإنما هي من جهة رضا الله تبارك وتعالى وغضبه، ومن هنا فإن المضمون الذي يستفاد من هذا الحديث المبارك والذي هو فوق مضمون العصمة هو: أن الصديقة الزهراء عليها السلام إذا رابها أو أذاها أمر فإن ذلك الأمر يريب ويؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنها إذا غضبت على فرد، فإن لله  تبارك وتعالى يغضب لغضبها، وهذا يثبت لنا أنها سنخ ذات عالية أخذ الله رضاها وغضبها في ملاكات أحكامه.

حيرة وإرباك..

لقد أوقع هذا الحديث الشريف والعظيم المخالفين في حيرة وإرباك فهل يعترفون بمضمونه  فتنتفي عدالة الصحابة وإمامة من تقدم، أو يشككون فيه وفي مدلوله وشأن الصديقة ليسلم لهم ما يعتقدون؟

بعض المخالفين في تعليقته على صحيح مسلم، وعندما تعرض لحديث غضب الصديقة الزهراء على من تقدم في الخلافة على أمير المؤمنين، وهجرانها له إلى أن توفيت قال: عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يدرك به ما يقول أو ما يفعل، أو ما هو الصواب فيه؛ فنسأل الله أن يعفو عنها، وعن هجرها خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

[ذات صلة]

وفي الحقيقة فإن ما ألجأ هذا المتحدث للقول بهذا القول المنكر، هو المشكلة الكبيرة والحيرة الخطيرة التي وقع فيها بسبب هذا الحديث الشريف "يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها" فهو أمام هذا الحديث الشريف وقع بين خيارين:

الأول: تصديق النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول إن حديث النبي يدل على ما وقع مباشرة بعد ارتحاله وهو إيذاء له، وبالتالي فإن ما حدث من أمر لا قيمة له من الناحية الشرعية.

الثاني: أن يحط من قيمة الصديقة الزهراء عليها السلام فيكون بذلك خارج الورطة.

إن ورود روايات في كتب العامة في مدح الصديقة مع موقفها المعارض لحكومة من تقدم دليل على صدور تلكم الروايات وحقانيتها لأنه ليس من مصلحتهم مدح ورفع شأن هذه المعارضة الكبيرة لحكم من يعتقدون حكومته ، ولهذا حط من قدرها من تقدم نقل عبارته وكانت (عليها السلام) اليوم من أقل الناس ذكرا في كتبهم ونواديهم .

 الهوامش

——————

[1] صحيح مسلم ،  كِتَاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ - بَاب فَضَائِلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَامُ

[2] مسند أحمد، الحديث رقم 10720 .

[3] المستدرك على الصحيحين، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الأحزاب، جمعه صلى الله عليه وسلم أهل بيته وقوله اللهم هؤلاء أهل بيتي.

[4] صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركنا فهو صدقة.

[5] المستدرك على الصحيحين، كتاب معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم » غضوا أبصاركم عن فاطمة حتى تمر.