لهذه الأسباب منح الله الأنبياء العصمة

ذهب الشيعة الإماميّة إلى أنّ النبيّ لا يجوز عليه شيء من المعاصي، صغيرة كانت أو كبيرة، قبل البعثة أو بعدها. وكذلك الإمام أيضاً.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وللمذاهب الأخرى آراء مختلفة، فذهب البعض إلى جواز الكفر عليهم، وبعض آخر إلى جواز الكبيرة عليهم قبل البعثة وبعدها، وبعض ثالث إلى جوازها قبل البعثة لا بعدها، وبعض رابع إلى جوازها بعد النبوّة عدا الكذب فيما يتعلّق بالتبليغ، وبعض خامس إلى جوازها بعد النبوّة بشرط الإسرار بها دون الإعلان، وبعض سادس إلى منع الكبائر والصغائر المستخفّة قبل البعثة وبعدها، وجواز وقوع ما لا يستخفّ من الصغائر، إلى غير ذلك من الأقوال. وكلّها فاسدة باطلة لا تليق بمقام النبوّة والسفارة عن السماء.

وقد استدلّ الشيعة الإماميّة (أنار الله برهانهم) على مذهبهم في العصمة ببراهين متنوّعة؛ كبرهان نقض الغرض، وبرهان الأصلحيّة، وغيرها، وفيها تفصيلات لا يسع المجال لذكرها، لذلك سنقتصر على الدليل ذكره السيّد المرتضى في [تنزيه الأنبياء ص19ـ20]، وأوضحه الشيخ السبحانيّ في [الإلهيات ج3 ص169] على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) قبل البعثة وبعدها، وحاصله:

لا يخفى أنّ تحقيق غرض بعثة النبيّ يكون بقبول الناس لكلامه وقوله، وانقيادهم لأمره ونهيه، وسكونهم له، عدم تنفّرهم منه، فلو جاز على النبيّ المعصية قبل البعثة لانحطّ قدره بين الناس، ولتفّروا عن قبول قوله، والعمل بأمره ونهيه؛ إذ من الواضح أنّ النفس لا تسكن إلى قبول قول مَن تجوز عليه المعصية على حدّ سكونها إلى مَن لا تجوز عليه، فإنّ مَن ارتكب المعصية لا نسكن إلى قبول قوله ـ وإنْ تاب منه ـ كسكوننا إلى مَن لا يعصي في حال من الأحوال.

ولهذا نجد في وجداننا أنّ الواعظ المرتكب للكبائر ـ وإنْ تاب عنها ـ لا يكون مؤثّراً في نفوسنا كتأثير الواعظ الذي لا نعرفه إلا بالنزاهة والطهارة والاستقامة، والفرق بينهما هو فيما يقتضي السكون والنفور. وكثيراً ما يعيّر الناسُ مَن يعهدون منه القبائح ـ وإنْ تابوا عنها ـ، فيقولون: (أنت الذي كنتَ تفعل كذا وكذا) ونحو ذلك، ويجعلون ذل عيباً ونقصاً، وربّما قالوا مثله للواعظ التائب: (أنت الذي كنتَ تفعل كذا وكذا والآن تنهانا عنه؟!).

فلو كانت سيرة الداعي إلى الله تعالى قبل بعثته مخالفة لما هو عليه بعدها، بأن يكون قبلها إنساناً سافلاً مرتكباً لقبائح الأعمال، لا يحصل الوثوق بقوله ولا السكون له وإنْ صار إنساناً مثاليّاً، بل يتسرّب الريب إلى كلّ ما يقوله من أمر ونهي وإرشاد، بحجّة أنّه كان في مدّة من حياته متهتّكاً عاصياً، فكيف انقلب إلى رجل مثاليّ؟!

ولا شكّ أنّ لكلّ صفحة من صفحات عمر الإنسان الداعي تأثيراً في جلب ثقة الناس وانقيادهم إليه، فلو كانت ملطّخة بالسواد في بعضها لَمَا سكنت إليه النفوسُ. فتحقّقُ الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره.

إذن: عصيان النبيّ ـ سواء كان حال نبوته أو قبلها ـ يوجب تنفر الناس عن قبول قوله واستماع وعظه، فلا تسكن نفوس الناس إلى العاصي ومن يجوز صدور العصيان عنه، كسكون نفوسهم إلى مَن لم يصدر عنه عصيان ولا يجوز عليه صدوره.

وقد أشار العلّامة الحليّ في [نهج الحق ص157] إلى هذا الدليل بقوله في ضمن ما يلزم من إنكار العصمة: «ومنها: سقوط محلّه ورتبته عند العوام، فلا ينقادون إلى طاعته، فتنتفي فائدة البعثة».