لماذا يتخيّل البعض شكل الله عند الدعاء؟!

الإنسان يجري في حياته الاجتماعية على اعتبار قانون العلية والمعلولية الكلي وسائر القوانين الكلية التي أخذها من هذا النظام العام المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان وأفعاله يجري في التفكر والاستدلال أعني القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وهو مع ذلك لا يستقر في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علة هذا العالم المشهود الذي هو أحد أجزائه بشيء من الإثبات والنفي لما يرى أن سعادة حياته التي لا بغية عنده أحب منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلة الفاعلة المسماة بالإله عز اسمه ونفيه اختلافا جوهريا فمن البين أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتأله الذي يثبت للعالم إلها حيا عليما قديرا لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه والجري على ما يحبه ويرضاه ، وبين حياة الإنسان الذي يرى العالم سدى لا مبدأ له ولا غاية ، وليس فيه للإنسان إلا الحياة المحدودة التي تفنى بالموت وتبطل بالفوت ، ولا موقف للإنسانية فيه إلا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية البطن والفرج.

فهذه نزعة فكرية أولى للإنسان إلى الحكم بأنه: هل للوجود من إله؟ وتتلوه نزعة ثانية وهي القضاء الفطري بالإثبات، والحكم بأن للعالم إلها خلق كل شيء بقدرته وأجرى النظام العام بربوبيته فهدى كل شيء إلى غايته وكمال وجوده بمشيته وسيعود كل إلى ربه كما بدئ. هذا.

ثم إن مزاولة الإنسان للحس والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة وإخلاده إلى الأرض عوده أن يمثل كل ما يعقله ويتصوره تمثيلا حسيا وإن كان مما لا طريق للحس والخيال إليه البتة كالكليات والحقائق المنزهة عن المادة على أن الإنسان إنما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس والتخيل فهو أنيس الحس وأليف الخيال.

وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصور لربه صورة خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادية المحسوسة حتى أن أكثر الموحدين ممن يرى تنزه ساحة رب العالمين تعالى وتقدس عن الجسمية وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خيالية معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجه إليه في مسألة أو حدث عنه بحديث غير أن التعليم الديني أصلح ذلك بما قرر من الجمع بين النفي والإثبات والمقارنة بين التشبيه والتنزيه يقول الموحد المسلم : أنه تعالى شيء ليس كمثله شيء له قدرة لا كقدرة خلقه ، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.

وقل إن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة، وما أشذ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلق القلب بمن دونه، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانية، قال تعالى: «سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ» الصافات: ـ 160 ، وقال حكاية عن إبليس : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » ص : ـ 83.

وبالجملة الإنسان شديد الولع بتخيل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور المحسوسة فإذا سمع أن وراء الطبيعة الجسمية ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من الطبيعة وأنه فعال فيها محيط بها أقدم منها مدبر لها حاكم فيها لا يوجد شيء إلا بأمره ولا يتحول عن حال إلى حال إلا بإرادته ومشيته لم يتلق من جميع ذلك إلا ما يضاهي أوصاف الجسمانيات وما يتحصل من قياس بعضها إلى بعض.

وكثيرا ما حكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبر أمر العالم بالتفكر ويتممه بالإرادة والمشية والأمر والنهي، وقد صرحت التوراة الموجودة بأن الله سبحانه كذلك، وأنه تعالى خلق الإنسان على صورته، وظاهر الأناجيل أيضا ذلك.

فقد تحصل أن الأقرب إلى طبع الإنسان وخاصة الإنسان الأولي الساذج أن يصنع لربه المنزه عن الشبه والمثل صورة يضاهي بها الذوات الجسمانية وتناسب الأوصاف والنعوت التي يصفها بها كما يمثل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأن كلا من النعوت العامة وجه للرب يواجه به خلقه.

*مقتطف من تفسير الميزان ج 10