هل يتنافى حساب يوم القيامة مع عذاب القبر؟

إشكالٌ يتمسَّكُ به المُنكرون لعذابِ القبر وهو أنَّ دعوى وجود العذاب في القبر لبعض الكافرين والعصاة يتنافى مع ما دلَّ من الآيات على أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم الحساب، فإيقاعُ العذاب في البرزخ على الكافرين يقتضي أنْ يتقدَّم حسابُهم على يوم القيامة، وهذا يُنافي ما ثبتَ من أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم القيامة.

والجواب هو أنَّ يوم القيامة هو يومُ الحساب الأكبر، ففيه يُحاسب الناسُ على أفعالِهم الخطيرِ منها والحقير قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1) وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(2) لكنَّه ليس في الآياتِ ولا في الروايات ما يدلُّ على انحصار الجزاء على العمل بالآخرة بل إنَّ الكثير من الآيات- وكذلك الروايات- صريحةٌ أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه الحَسَنِ أو السَيءِ في الدنيا أو عند الموت أو ما بعد الموت وقبل قيام الساعة.

فمن الآيات التي دلَّت على وقوع العذاب والعقوبة في الدنيا جزاءً على سوء العمل قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ / لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ (3).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (4).

ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (5).

ومنها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾ (6).

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ (7).

والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وهي صريحةٌ في أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه السيء في الدنيا قبل يوم الحساب في الآخرة، وفي عرض هذه الآيات ثمة آياتٌ تدلُّ على أنَّ الإنسان قد يُجازى على حُسن صنيعه في الدنيا وله في الآخرى جزاءُ الضعف.

فمِن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (8) لهم نصيبٌ ممَّا كسبوا في الدنيا وأمَّا في الآخرة فيُوفِّيهم أُجورهم.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ (9).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (10).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (11) فهذه الآية تدلُّ على جزاء التقوى وجزاء التكذيب في الدنيا.

 

ومن الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى جزاءَ صنيعه عند الموت قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(12).

فهذه الآيةُ واضحةُ الدلالة في أنَّ مثل هؤلاء الظالمين يسوؤهم ما يجدونه في غمراتِ الموت من ملائكة العذاب، يتوعَّدونهم بالنكال وعذاب الهوان بل الآيةُ ظاهرةٌ في أنَّهم يتلقَّون العذاب لحظةَ انتقالهم من عالم الدنيا، وهو ما يقتضي أنَّ لهم نحوَ حياةٍ بعد الموت يتلقَّون فيها عذابَ الهَوان كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (13).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (14).

فالكافرون بمقتضى مفاد الآيتين يتلقَّون جزاء كفرهم وجحودهم الضربَ على الوجوه والأدبار عند النزع أو بعد انتقال أرواحِهم من عالم الدنيا.

وبهذه الآيات ومثلها يتبيَّن أنَّ كون القيامة هي يوم الحساب لا يعني أنَّ الإنسان لا يلقى قبلها شيئًا من جزاء عمله الحَسَن أو السَيء، وبذلك تسقطُ دعوى الإنكار لعذابِ القبر استنادًا إلى أنَّ الحساب والجزاءَ مؤجَّلٌ إلى يوم القيامة، فإنَّ هذا المُستند يُناقضُ الكثيرَ من الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه في الدنيا وعند الموت وكذلك بعد الموت وقبل يوم القيامة كما هو مقتضى مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(15).

فإنَّ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الشهداء يتلقَّون شيئًا من جزاء عملِهم قبل يوم القيامة فهم: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.

وكذلك فإنَّ قولَه تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (16) يدلُّ بوضوحٍ على أنَّ آلَ فرعون يَحيق بهم ويحوطهم العذابُ قبل يوم القيامة، فهم يُعرضون على النار صباحَ مساء ثم إذا قامت الساعة أُمر بهم فأُدخلوا أشدَّ العذاب.

الهوامش:

1- سورة الرعد / 33-34.

2- سورة البقرة / 114.

3- سورة الزمر / 25-26.

4- سورة المائدة / 41.

5- سورة فصلت / 16.

6- سورة البقرة / 201-202.

7- سورة نوح / 10-12.

8- سورة الطلاق / 2-3.

9- سورة الأعراف / 96.

10- سورة الأنعام / 93.

11- سورة محمد / 27.

12- سورة الأنفال / 50.

13- سورة محمد / 27.

14- سورة الانفال / 50.

15- سورة آل عمران / 169- 171.

16- سورة غافر / 49- 46.