العدل: لماذا يعاقبنا الله يوم القيامة؟

لقد وقعت العقوبات الأُخروية ذريعة لإنكار عدله، حيث يقولون ما هو الغرض من العقوبة، فهل هو التشفّي الذي جاء في قوله سبحانه: ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا )[1]والله سبحانه منزّه من هذا الغرض لاستلزامه طروء الانفعال على ذاته.

أو الغرض من العقوبة الأُخروية هو اعتبار الآخرين، الذي يشير إليه سبحانه في قوله: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ).[2]

ومن المعلوم أنّ تلك الغاية تختص بالدنيا التي هي دار التكليف ولا توجد في دار الجزاء، أعني: الآخرة.

والجواب: انّ السؤال عن الغاية وانّها هل هي التشفِّي أو اعتبار غيره، إنّما يتوجه إلى العقوبات المفروضة عن طريق التقنين والتشريع، فالتعذيب في ذلك المجال رهن إحدى الغايتين: التشفّي أو الاعتبار.

وأمّا إذا كانت العقوبة أثراً وضعيّاً للعمل فيسقط السؤال، لأنّ هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجودَه في الحياة الأُخروية، فعند ذلك لا يصحّ السؤال عن حكمة التعذيب، وإنّما هي تتوجه إلى التعذيب الذي يمكن التفكيك بينه وبين المجرم كالعقوبات الوضعية.

وأمّا إذا كانت العقوبة من لوازم وجود الإنسان الأُخروي، فالسؤال عن التعذيب، ساقط جداً.

توضيح ذلك: انّ الإنسان إنّما يحشر بذاته وعمله، وعمله لازم وجوده وكلّ ما اقترف من الأفعال فله وجود دنيوي، يتجلّىٰ باسم الكذب والنميمة، وله وجود أُخروي يتجلّىٰ بالوجود المناسب له، فهكذا أعماله الصالحة فلها صورة دنيوية، باسم الأذكار، وصورة أُخروية تناسب وجود الإنسان في هذا الظرف.

فالصوم هنا إمساك، وفي الحياة الأُخروية جُنَّة من النار، وهكذا سائر الأعمال من صالحها وطالحها، فلها وجودان: دنيوي وأُخروي، وإليك ما يدلُّ على ذلك في القرآن الكريم.

يقول سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ).[3]

ويقول سبحانه: ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).[4]

 

وقال سبحانه: ( يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ).[5]

علىٰ أنّ تعذيب المجرم وإثابة المحسن مظهر من مظاهر عدله، فلو لم يعاقب المجرم تلزم تسوية المؤمن والكافر، يقول سبحانه: ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).[6]

ويقول أيضاً: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ).[7]

عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة

وربما يقال كيف يصحّ الخلود الدائم مع كون الذنب منقطعاً، وهل هذا إلّا نقض للمساواة المفروضة بين الجريمة والعقوبة ؟!

والجواب عن الشبهة بوجهين:

الأوّل: انّه لم يدل دليل على وجوب المساواة بين الجرم والعقوبة من حيث الكمِّية، بل المراد المساواة في الكيفية أي عظمة الجرم، فربما يكون الجرم آناً واحداً وتتبعه عقوبة دائمة، كما إذا قتل إنساناً وحكم عليه بالحبس المؤبد.

فالإنسان المقترف للذنوب وإن خالف ربّه في زمن محدّد، لكن آثار تلك الذنوب ربما تنتشر في العالم.

الثاني: قد عرفت أنّ العذاب الأُخروي تجسيد للعمل الدنيوي وهو المسؤول عمّا اقترفه.

وقد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة وانّ أعماله المقطعيّة سوف تورث حسرة طويلة أو دائمة، وأنّ عمله هنا سيتجسَّد له في الآخرة، أشواكاً تؤاذيه أو وروداً تطيبه، وقد أقدم على العمل عن علم واختيار، فلو كان هناك لوم فاللوم متوجه إليه، قال سبحانه حاكياً عن الشيطان: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).[8]

وفيما مرّ من الآيات التي تعد الجزاء الأُخروي حرثاً للإنسان تأييد لهذا النظر، على أنّ من المحتمل أنّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة وإمكان الإفاضة، قال تعالى: ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).[9]

ولعلّ المراد من قوله: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) إحاطتها به إحاطة توجب زوال أيَّة قابلية واستعداد لنزول الرحمة، والخروج عن النقمة.

وكيف كان فتظهر صحّة ما ذكرنا إذا أمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأوّل وهو أنّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإنسان وفي مثله لا تجري شبهة التعادل بين الجريمة والعقوبة كما هو واضح.

الهوامش:

[1] الإسراء: 33.

[2] النور: 2.

[3] النساء: 10.         

[4] آل عمران: 180.

[5] التوبة: 35.

[6] القلم: 35 - 36.

[7] المؤمنون: 115.

[8] . إبراهيم: 22.

[9] البقره: 81.