أين عدل الله: آدم يعصي ويتوب وإبليس يُطرد!

طلب آدم وزوجه من ربهما التوبة حين قالا: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، الأعراف: 23، فوهب لهما ذلك: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 36 ـ 37.

 وطلب إبليس من الله سبحانه وتعالى أن ينظره إلى يوم يبعثون، عاصياً ومتكبراً، مؤثراً ألا يتوب، ومتوعداً بأن يغوي عباد الله عن الطريق القويم ويزين لهم طريق السوء ليدخلوا النار بدلاً من الجنة، قال تعالى يحكي عنه في سورة الحجر: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ)، ولم يسأل الله التوبة، من هنا، يتضح جواب من سأل عن عدل الله تبارك وتعالى في التوبة على آدم وزوجته، بينما يطرد ابليس ويلعنه، وكلهم عاصٍ له تعالى، فآدم وزوجه طلبا التوبة منه تعالى، بخلاف الملعون، الذي لم يطلبها وطلب أموراً اخرى، وقد أجيبت دعوتهما، فمن طلب التوبة نالها، ومن دعا بغيرها، هذا أولاً.

إما التوبة أو التكبر!

ثم ان التوبة توفيق لا يناله من تكبر وعاند الحق سبحانه، وهذا ما يحتاج الى بسط في الكلام:

قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي: التلقي هو التلقن، و هو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.

ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.

وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 119. الميزان: ج1، ص75.

هل للتوبة قانون.. أم أنها تشمل الجميع؟

فالتوبة إذن هي توفيق ابتدائي من الله تعالى لعباده، لكن هل يوفق لها الجميع أو ان لها قانونها الخاص، الخاضع لقوانين العدل الإلهي؟ 

باختصار ان المعصية اذا كانت صادرة عن جهل بمعنى صدورها من طغيان قوى الشهوة او الغضب، فإنها أي المعصية تزول بزوال منشأها، فمنشأ المعصية غير راسخ لدرجة يمتنع زوالها من غير جبر؛ لذا قال تعالى في وصف هؤلاء: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)، النساء: 17.

 بخلاف ما لو صدرت مما يعرف بخبث السريرة، فإن مثل هذا العبد لا يوفق للتوبة؛ لأن منشأ المعصية ذاتي لا يزول إلا بالجبر وهو مخالف لسنة الله في خلقه، وهي صدور الفعل عن اختيار، من هنا قال تعالى: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)، النساء: 18.

  وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي: فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و الغضب من غير عناد مع الحق، و من خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى و العواطف و الأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. الميزان: ج4، ص59.

والخلاصة ان الله تبارك وتعالى تاب على آدم وزوجته؛ لأنهما طلبا التوبة، بخلاف ابليس الذي طلب أموراً أخرى وقد استجاب له تعالى ايضاً، ولو كان طلب التوبة لم يبعد ان يتوب الله عليه، لكنه لم يطلبها، هذا اولاً، وثانياً ان التوبة توفيق لا يناله إلا من عمل المعصية عن جهل، كآدم وزوجه، لا عناد وكبر، كأبليس لعنه الله.

ملاحظة: ان وصفنا لفعل آدم بالمعصية تماشياً مع قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، طه: 121، ومن المعلوم قطعاً في مذهب الحق يؤمن بعصمة الانبياء عن الصغائر والكبائر، وإنما هي مجرد مخالفات للأولى من الفعل الذي يليق بهم.