أخلاق وغيب: كيف يُطبخ القرار لدى المرجعية الشيعية؟ -2-

 الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع «الأئمة الاثني عشر»

(الحلقة الثانية)

ذكرنا في الحلقة الأولى عاملين مهمين في البناء القيادي للمرجعية الشيعية وهما:

1. العامل التربوي (الصقل بالروايات) وذكرنا عظيم ما للروايات من أثر في حكمة القرار ومدى ما يستمده العلماء من بصيرة ووعي من هذه الروايات وهم كما وصفوا أنفسهم (كلامكم نور وأمركم رشد).

2. العامل الخبروي، وتراكم التجارب الكثيرة لدى القيادة الشيعية والذي يجعل الامور والنوايا والخفايا كلها واضحه أمامهم والأحقاب التاريخية تتكرر مع اختلاف الاسماء والألوان والشدة والضعف ولكن اللب واحد.  

ثالثاً - العامل الأخلاقي: 

 ثورة التنباك تعتبر واحدة من أعظم المشاهد في تاريخ الشيعة، وطريقة إدارة الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي لها كان بارعه للغاية وانتهت بسحق الشركات الأجنبية بالكامل وتحرير الاقتصادي الايراني منها.  

 لعلك أيها القارئ الكريم تحتاج للقراءة عن ثورة التنباك لتعرف جيداً ما أتكلم عنه، وقد ضحكت أسفاً قبل أيام عندما شاهدت أحدهم يضع عنوان عريض لحلقة برنامجه حول الدخول التركي للعراق (نحن بحاجة الى فتوى تنباك ثانية) من دون أن يلتفت أن المرجعية الشيعية واحدة ومستعدة دوماً، ولكن من أين لنا بمثل زوجة الشاه القاجاري التي كسرت نارجيلته بفتوى السيد الشيرازي!

 وعلى العموم، يقال أن الميرزا الشيرازي عندما انتصر في تلك المواجهة، وتم الاعلان عن إفلاس وخروج الشركات الاجنبية، كان طلاب الميرزا جالسين مع أستاذهم، وإذا به يبكي بكاءً شديداً، فاستغربوا من ذلك وسألوه عن سبب بكائه فقال:  أبكي لحال العلماء في مستقبل الايام، فحتى الآن كان الإنكليز يعتقدون أن دور رجال الدين دور محدود ويمكن شراؤهم بالأموال أو خداعهم بالوعود، ولذلك لم يكونوا يعملون على إسقاطهم، أما الآن وعندما اضطررت لمواجهتهم فقد عرفوا أن رجل الدين لا يمكن هزمه بالحيل والألاعيب، فسوف يسلكون طريق آخر وهو إسقاطه من أعين الناس!

 وبالفعل هذا ما عمل عليه الإنجليز، فكانوا يحرصون على إفهام المجتمع أن رجال الدين لهم مصالح خفيه وعلاقات مشبوهة، فلا حاجة لإتباعهم لأنهم يتاجرون بكم، هذه ليست تهمة أرميها على الإنجليز، بل هي الحقيقة بعينها، فبمجرد أن يشعر المجتمع أن قيادته الدينية تجامل على حسابه أو لا تنحاز لصالحه، سينفرط عقد الاجتماع الشيعي و (فتفرقوا وتذهب ريحكم).

كان السفير البريطاني يأتي أمام الناس، ليقدم هدية مالية للسيد أبي الحسن الأصفهاني، فما يكون من السيد إلا أن يقبلها منه وسط مفاجأة الجميع، ثم يرجعها اليه مرة أخرى ويقول:  هذه هدية منا الى مسلمي الهند التي تحتلونها !! فيخرج السفير وهو يقول:  أردنا خداعه فخدعنا.  (وقد حصل موقف مشابه للسيد السيستاني مع سلطان البهرة).

 وكان يأتي القائد الإنجليزي للسيد كاظم اليزدي ويطلب منه مغادرة النجف ليتم قصفها بعد مقتل الضابط مارشال، فيقول له السيد نعم أقبل بذلك ولكن بشرط اخراج عائلتي، فيسأله القائد وكم عددهم فيقول:  أبناء النجف كلهم.  (وتكرر المشهد بعينه مع عائلة السيد السيستاني في معركة النجف مع الامريكان).

 وعبثاً حاول بول بريمر لقاء سماحة السيد السيستاني ليقال أن المرجعية الشيعية تجالس الاحتلال وتمد معه جسور التفاهم، ولكن الطرد كان مصيره حتى لم يجد من يشتكي له سوى زوجته!

ومن جميل ما ينقل عن آية الله أغا علي الهمداني قدس سره أنه كان لا يقبل هدايا الملوك والأثرياء ويقول:  ثوب علماء الدين أبيض جداً، فالنقطة السوداء مهما كانت صغيره ستبان عليه.

 كل هذه المواقف التي اختزنتها ذاكرة الوجدان الشيعي، عن مراجع ثابتي الموقف الأخلاقي، لا يجاملون على حساب أمتهم، ينحازون للفقراء، ويميلون للضعفاء، يكرهون مجالس الحاكمين وموائد السلاطين، ولا يقفون على أبواب الملوك ولو انطبقت السماء على الأرض.  

 

 كل هذه المواقف زرعت في هذا الوجدان الشيعي حباً وولاءً للعلماء، مستمد من حبهم لأمير المؤمنين عليه السلام، لأن سيرة العلماء سيرته، ومنهاجهم منهاجه.  

 نعم، شباك صيد الإنكليز التي يرمونها مهما كانت ممزقه، لا تخلو من اصطياد لبعض مرضى القلب ممن يقيسون الأمور بميزان نفسهم، فلا يتوقعون وجود هذا الكم من النزاهة والثبات لدى العلماء، لأنهم لم يذوقوا طعم النزاهة يوماً.  

 من مضحكات الدهر ان شخصاً أخرق مثل حسن الكشميري الذي جند نفسه وقلمه لهتك حرمة العلماء (بل واعراض العلماء) عندما يذكر قصة زيارة (فرح) زوجة شاه إيران للإمام الخوئي في النجف، يقول أنها تمت بترتيب وعلم مسبق من السيد الخوئي كما تقول (فرح) ولكنه لا يصدق ما يقوله السيد قدس سره، أن الزيارة تمت بشكل مفاجئ وأن السيد الخوئي ما كان ليسمح بدخولها الى مجلسه لولا المفاجاة، وصاحبنا يصدق فرح و يكذب السيد!

 نعم وألف نعم، لازال الإنكليز وأذنابهم يسعون بكل الطرق منذ ١٥٠ سنة حتى الان، الى إسقاط هذا العامل الأخلاقي للعلماء وتصويرهم كانتهازيين مصلحيين، وأولئك الذين يأتيهم دعم غريب ليفتحوا فضائيات دينية تبدأ بالدفاع عن منهج الأئمة عليهم السلام، وعندما تستمر لفترة وتثق الناس بأصحابها وتصدق أنهم انما يدافعون عن أهل البيت،  تبدأ بالطعن على العلماء، وحتى الآن لدينا أربع فضائيات مشت على نفس المنوال، بدأت بالدفاع أمام الوهابية، وانتهت بالطعن على العلماء، وكلها مقرها في الغرب، فيالها من صدفة لمن يؤمنون بالصدف!

 وخلاصة القول في هذه النقطة، أن قرارات القيادة الشيعية (الفقهاء) ، محكومة بالعامل الأخلاقي، وعدم التهاون في هذا الأمر، وكل ما يصدر من هذه القيادة يجب ان يلاحظ نزاهته وعدم تأثره بأي ميل شخصي أو شائبة مصلحيه، وهذا هو معنى تحمل أمانة اهل البيت الذين أوصلوا لنا هذا الثوب نقياً طاهرا.  

 ولهذا أصبحت الناس تثق بكلمة قالها سماحة السيد السيستاني دام ظله وهي (ليس لي أمل إلا ان أرى العراقيين اعزاء).

 ولهذا أصبحت الناس تتمسك أكثر بخط الفقهاء العلماء بعد أن أيقنت أنه أبعد شيء عن المصالح، وان الخطوط الحزبية والسياسية مهما تغنت بالإسلام، ورفعت شعارات الدين، فإن مصلحتها الذاتية تبقى على رأس قائمة الأولويات.  

 ولهذا أيضاً، أقول لكم هذه الكلمة فاحفظوها:  إن أهم شيء وأقدس شيء لدى ذلك الرجل الجالس في زاوية منزله في النجف الأشرف، هو أن يحفظ للقيادة الإلهية الشيعية هيبتها ومكانها، بعد كل سيول الاتهامات والاباطيل، فهي أمانة في عنقه، ومسؤولية في عاتقه، وليست إرثاً عائلياً، فناموا أيها الحالمون بسقطة أو هفوة، فلن تجدوا.  

رابعاً - العامل الغيبي (التسديد): 

 صحيح أن الروايات، تكشف السبل وتنيرها، صحيح أن تراكم الخبرة، يسهل الكثير من المهمات في اتخاذ القرار، صحيح أن الجانب الأخلاقي يمنح للقيادة قوة ذاتيه و تجرداً كاملاً عن الميول، ولكن، يبقى القرار ليس سهلاً.  ويبقى العدو صعباً وشديداً، وتبقى الظروف، مرةً ومعقدة وحتى الجبال لا تطيق حجم المرارة التي يشعر بها المؤمن، في زمان مثل زماننا، بين مفسدين ملئت بطونهم من الحرام ، وشهداء تركوا آلاف الأيتام، ومجتمع مشغول بالنزاع والصراع على توافه الأمور، مشتت متفرق، لا يعلم ما يراد به من كيد، تأخذه الدعايات والعصبية، وتستفزه الألاعيب الشيطانية، يفكر بعاطفة لا بعقول، يترك الرأس ويتبع الذيول، فأي قيادة إلهية تمسك زمام أموره بغير شق الانفاس، وتقوده بدون عظ الأضراس، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام ينصح الناس في نهج بلاغته (أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم ولا تصدعوا على سلطانكم فتذموا غب فعالكم. ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة وأميطوا عن سننها وخلوا قصد السبيل لها. فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن ويسلم فيها غير المسلم).

فكان الله في عون القيادة الالهية، وحق لها التوسل بالله وبصاحب الزمان ليعينها على حمل المسؤولية.  

 هنا أيها القارئ الكريم لا مكان للأدلة والبراهين، في إثبات هذه النقطة، فالحديث حديث الوجدان، وحديث أول صفحة في القرآن (الذين يؤمنون بالغيب).  

غريب جداً، ما حصل من شبهة لبعضهم، حتى أنكر امكان حصول اللقاء بإمام الزمان روحي فداه في زمن غيبته، مع تكاثر الأخبار، وتوارد الآثار، على فوز جملة من علمائنا بيمن لقائه، وتزودهم من موائد عطائه، وهل يا ترى يمكن حمل هذه المصائب بدون سفينة النجاة، أو تجرع هذه النوائب، بغير ماء الحياة، وهو سلام الله عليه القائل (إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللاواء واصطلمكم -استأصلكم- الأعداء).

 قال لي أحدهم، لا أفهم كيف تقبلون بقصة حضور أمير المؤمنين أو الزهراء عليهما السلام عند العقيلة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم؟!

قلت:  وأين الإشكال؟؟ فقال:  زينب هي زينب في صبرها، لا تحتاج لمن يشد أزرها!!

فقلت:  والحسين هو الحسين في مصابه، والسبي هو السبي في عذابه، بلى والله مثلك تلك القواصم، تحتاج لحضور الخمسة أصحاب الكساء، عند سليلة المجد والإباء.  

 أنتم ترون القيادة قوية، صلبة، منضبطة الأعصاب، وتشاهدون خطب صلاة الجمعة في الصحن الحسيني تأتي مختصرة الألفاظ، ليس فيها زخماً عاطفياً ومشاعر كبيرة، لأنها تحسب حساب لأكثر من عشرين جهة محلية وإقليمية ودولية، كلها تستمع في وقت واحد، وتريد ان تستخلص ما ينفعها أو ما يمكن استغلاله إعلامياً، فلذلك يكون الحديث على هذا المنبر في هذه الظروف المعقدة، أشبه بسير في حقل ألغام.  وضبط الأعصاب هذا، قد يراه السذج من الناس برودا ً او عدم مبالاة!!

كلا، ليتك ترى هذه القيادات الإلهية التي تبدو منضبطة الأعصاب، كيف يكون حالها في جوف الليل، ينقل ان الإمام الخميني قدس سره، كان عندما يواجه وسائل الاعلام ويتكلم عن الشاه كما لو كان طفلاً يمكن اسقاطه بصفعة واحدة، نفس هذا السيد القوي كان يسمع منه أنين ونحيب بالغ المرارة في صلاة الليل وهو يتوسل الى الله تعالى والأئمة المعصومين عليهم السلام كطفل صغير يطلب العون والمدد.  

 ويذكر الشيخ الكوراني أنه سأل سماحة السيد السيستاني دام ظله عن قوته وصلابته وكيف يتحمل هذه الظروف المعقدة من كل النواحي، فأجابه السيد جواباً مفاجئاً لم يكن يتوقعه لأن السيد عادة لا يتحدث عن مثل هذه الأمور، فقال: عندما تضيق وتشتد الأزمات آخذ سجادتي وأصعد الى سطح الدار وأتوسل بالله تعالى بجدتي الزهراء عليها السلام أن تعينني.

 وقد سمعت من بعض الطلبة الكرام في حوزة النجف الاشرف أنه في يوم تفجير قبة الامامين العسكريين عليهما السلام عندما حصل اجتماع المراجع في منزل السيد السيستاني دام ظله كان سماحته يجلس بهدوء وثبات حتى تم ترتيب الامور وتقرير الخطوة المطلوبة، ولكن بعدها في اليوم التالي أو ما بعده -والتردد مني - كان محتاجاً لفحص دوري لقلبه المتعب.  

 

 نعم، أمانة ثقيلة تحتاج لرعاية من ولي العصر عليه السلام وسيرة علمائنا حافلة بالشواهد على هذه الرعاية الشريفة، من المفيد، الى الحلي، الى الأردبيلي، الى بحر العلوم، الى ما شاء الله من رعايته وتأييده للأمناء الورثة.  

 ولهذا، فإن القرار لدى القيادة الشيعية لا يكون خالياً من عنصر التوكل على الله والثقة بنصره الغيبي ما داموا ينتظرون منه هذا العون، (إِنَّا لَنَنْصُرُرُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١ غافر)[1].

يتبع في الحلقة الثالثة.

[1] (كُتبت هذه المقالة بتاريخ:  ٢٠١٥/١٢/١٧)