مشاكل العراق: الشعائر الحسينية والعصفور (كش)!

الصورة: للسفير الصربي في العراق وهو يقبل يد المرجع الحكيم أحد مراجع النجف انتشرت بشكل واسع كان سببها كما قال السفير نفسه "أذهلني بكلامه عن علاقات الدول وتعاون الشعوب" 

 

الآراء الواردة في هذا المقال لا يتبنّاها «موقع الأئمة الاثني عشر»

في مضيفنا الريفي الذي يتوسط العشيرة، وعلى خلاف أغلب الأطفال، كنت أفارق أصدقائي ولعبة (الحيدة) وأجلس عند باب المضيف لأستمع الى قصص والدي حفظه الله، حيث تشدني تلك المجالس التي كانت (مدارس).

 كان ذلك في عصور ما قبل (التكنيك) أما الآن، تدخل المضيف فلا تسمع إلا أصوات اللايكات (بق، بق) وافتقدنا قصصنا التي تبدأ دوماً بعبارة (ذيچ السنة...).

 المهم، مرة قال الوالد (بدون تعديل على اللهجة):  "أكو فلاح غبش الصبح يباري الزرعات، أگبل من بعيد شاف العصافير والفخته صايره كور اعله السنبل، هبط وشال حجاره وگطفهن، وصاح كش كش كش.

فرت الطيور وحطت اعله النخلة وتناشدن بيناتهن:  بويه يالطيور ياهو بيكم اسمه كش؟ هذا الرجال ماله شغل بينه بس طلابته وي كش، خل كش يفرد روحه ويخلصنه نريد ناكل من رزگ الله.

الطيور كلمن يحلف الله وكيلكم موش آنه كش.

ونزلن للزرع مرة ثانية، وهم تولاهن الفلاح بالحجار وگام يصيح كش كش كش.

وردن أردود للنخلة وهم تناشدن: بويه سايمين الله عليكم ياهو كش؟ خل يكول آنه ويچفينا شره.

وكلمن يصيح وحگ علي بن ابي طالب موش آنه كش.

وهم ردن النوب، والفلاح تناوشله حجاره زينه وهفهن، وطاحت بعصفور مسكين وكسرت جناحه، صاحن الطيور چا ولك ليش ما تگول آنه كش؟ الله يغسلك ياكش، ضل هنا بالك تلحگنة بعد، وراحن لمچان ثاني، عود بناهن كش ضل وراهن.

 شاهدنه -والكلام لازال للوالد- الطيور تريد واحد تذب الصوچ بي وتگول هذا كش، بس الكش وياهن وين مايروحن، ومجتمعنه هم يريدله كش يذب الصوچ بي، ومايدري هو كله (كش).

 

 وقبل أن أعلق على قصة الوالد أطلب منك أن تعطيني ثلاث دقائق لمراجعة هذه الأرقام:  

 منذ سنة 1922 وهو عام تأسيس الدولة العراقية، الى سنة 2020 هذا العام، مرت علينا أشكال وأنواع الحكم خلال 98 سنة:  

 حكمنا (48 رئيس وزراء).

 تشكلت الحكومة في فترة الاحتلال البريطاني (12 مرة) وفي فترة الملكية (35 مرة) وفي فترة الجمهورية (19 مرة) وفي فترة الاحتلال الأمريكي (15 مرة).

 نسبة 97% من التشكيلات لم تكمل سنة ونصف من عمرها بين خلع واستبدال وإسقاط وانقلاب.

 من أصل (48 رئيس وزراء) هناك (17 منهم) أعيد تكليفهم أو انتخابهم، عبد الرحمن الكيلاني (2 مرة) عبد المحسن السعدون (4 مرات) جعفر العسكري (2 مرة) ياسين الهاشمي (2 مرة) توفيق السويدي (3 مرات) نوري سعيد (14 مرة) رشيد الگيلاني (3 مرات) جميل المدفعي (5 مرات) علي جودت الأيوبي (3 مرات) أرشد العمري (2 مرة) أحمد البكر (2 مرة) طاهر يحيى (2 مرة) صدام حسين (2 مرة) محمد بحر العلوم (2 مرة) إبراهيم الجعفري (2 مرة) أياد علاوي (2 مرة) نوري المالكي (2 مرة).

 أطول فترة في رئاسة الوزراء كانت لصدام حسين (21 سنة) يليه أحمد البكر (11 سنة) يليه نوري المالكي (8 سنة) يليه عبد الكريم قاسم وحيدر العبادي (4 سنة).

 تسنم المنصب (9 أشخاص) من خلفيات إسلامية، و (39 شخص) من خلفيات علمانية، و (14 شخص) مستقل سياسياً فترة حكمه، و (17 شخص) عسكري.

 وصل للمنصب (18 حزب) منها (15حزب) ليبرالي أو اشتراكي أو قومي أو وطني، و (3 أحزاب) إسلامية.

 الحزبين الوحيدين الذين حصلا على فترات دستورية كاملة هما حزب البعث الاشتراكي (7 دورات كاملة) بدون انتخابات، وحزب الدعوة الإسلامية (3 دورات كاملة) بانتخابات.

 أكثر حزب تسنم المنصب هو حزب البعث (7 مرات)

يليه حزب الاتحاد الدستوري، وحزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب الدعوة الإسلامية لكل منهم (5 مرات).

يليه حزب العهد، وحزب الأخوة لكل منهم (4 مرات).

يليه الحزب التقدمي وحركة الوفاق الوطني لكل منهم (2 مرة)

يليه حزب الشعب، والحزب الليبرالي، وحزب الأمة الاشتراكي، وحزب الجبهة الوطنية، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والمجلس الأعلى الإسلامي، ومجلس المستقلين الديموقراطيين، والحزب الإسلامي العراقي، والحزب الديموقراطي الكردستاني، والمؤتمر الوطني، لكل منهم (مرة واحدة).

 والآن أيها الإخوة دعونا نعود الى العصفور كش:  

لاشك أن الدولة العراقية لم تمر بأي استقرار سياسي منذ يوم تأسيسها، ومن يراجع الأرشيف الصحفي يرى الأزمات الاقتصادية وتردي الأوضاع الخدمية هو الحديث السائد على مدى عقود.

 وصدقني عندما أقول لك، أن ما تتابعه اليوم من منشورات وصفحات ممولة مليئة بالحديث عن سوء الأوضاع، هو نفسه ما كانت تنشره أشهر مجلة في الثلاثينات (حبزبوز) لصاحبها نوري ثابت، ثم جريدة الانقلاب لصاحبها الشاعر محمد مهدي الجواهري، ثم جريدة الفرات، ثم جريدة الرأي العام، ولم تتغير إلا الأشكال والتقنيات، والشكوى من حال البلد واحدة.

 ويخدعكم، ويخفي عليكم الكثير من التفاصيل التاريخية، من يقول لكم أن العراق مر بمرحلة ازدهار تتناسب مع خيراته وثرواته.

 كان العراق دوماً، مغبوناً مسروقاً مستباحاً لصراع الدول، كان كل طرف لديه جيشه الصحفي والإلكتروني.

ومن يقول لكم أن الحزب الفلاني كان جيداً، أو الفترة الكذائية كانت أفضل، فهو يتكلم بالقياس الى غيره من الأحزاب والفترات، لا أكثر.

 الأحزاب الإسلامية تسعى لتلميع صورتها بمقارنة الوضع مع حزب البعث وتقول أنه (كش).

وحزب البعث كان يكرر الحديث عن (منجزات الثورة) ويدخلها في المناهج الدراسية وأن ماقبله كان (كش).

وعبد الكريم قاسم كان يقارن إصلاحاته الزراعية بحكم الملكية والإقطاعيين ويقول بأنهم (كش).

والملكية كانت تتغنى بأنها حولت العراق الى دولة بعد أن كان مجرد ولاية عثمانية (كش).

هذا هو دستور الحكومات منذ خلقها الله في كل مكان وزمان (كلما دخلت أمة لعنت أختها) وقالت لها (كش).

ومن الطريف ما يحكى أن الحجاج بن يوسف الثقفي جزار العراق المعروف كان أيضاً يقول (لم يصبكم الطاعون منذ وليتكم) وتنسب الحكاية أيضاً للمنصور الدوانيقي في الشام، وأن رجلاً قام فقال: إن الله أكرم من أن يجمع علينا بليتين أنت والطاعون.

 وهكذا الكل يقول نحن أفضل ممن سبقنا ولكن الواقع أن الجميع لم ينجحوا في إدارة العراق، ولا أريد الخوض في الأسباب ومن كان الأفضل، فلست معنياً بذلك.

 أكرر أيها القارئ الكريم، وأرجوك ساعدني ببعض الانتباه لكي لا أحتاج للتوضيح بعد هذا المقال:

(إني وإن كنت بصراحة أرى بحسب مراجعتي أن أعظم البلايا كانت زمن صدام، ولكني لست معنياً من الأفضل، وماهي أسباب فشل كل واحد منهم، وهل كانت بتقصيره أو بظروف قاهرة) أنا فقط أقول أن الحصيلة هي (الكل لم يخدم العراق كما يستحق بل بعضهم دمره).

وأسباب ذلك كثيرة ومتداخلة يمكن جمعها في مثلث واحد (مجتمع لا يتقبل فكرة الدولة، حاكم ليس محروق القلب على الدولة، تدخلات خارجية) و هذا المثلث منذ 98 سنة حتى اليوم.

 والآن، بعد كل خرابات البصرة، تأتي بعض الأقلام والأصوات، لتضع اللوم في تردي أوضاع العراق كلها على عاتق الشعائر الحسينية والمرجعية الدينية!!

 ولست أدري، هل يستغل هؤلاء ضعف ذاكرة (الشياب) أم قلة اطلاع (الشباب) فيتجاهلون مصائب العراق المتراكمة، وتعقيداته الضاربة في عمق الجذور والتاريخ، ويتكلمون عن 17 سنة فقط، ليستنتجوا أن الخلل في الدين! وكأن العراق قبلها كان جنة!  ثم وضع لنفسه لحية وأمسك بالمسبحة وصار متديناً، (فتبهذلت) أحواله!

 والآن أستعرض ثلاثة تفسيرات يقدمها هؤلاء المتفلسفون الى الشباب غير المطلعين حول أسباب مشاكل العراق:

١. التفسير الأكثر سطحية (إحنه الشيعة بس نعرف نلطم) وأنا هنا اقف عاجزاً عن الرد على هذا الكلام السطحي!

وسأكتفي بتساؤلات:

• هل ضرب الصدور يوقف عملية التفكير؟

• هل باسم الكربلائي هو أفيون الشعوب والمنوم المغناطيسي لها؟

• هل عبد الخالق المحنة يقول في قصائده كما قال معروف الرصافي متهكماً؟

يا قـوم لا تتكلَّـموا إن الكــلام محـرَّمُ

ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ

وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا

• هل اقتربنا من صنع مركبة فضائية ثم جاءت أيام الحسين لتشغلنا باللطم وننسى مركبتنا؟

• هل كان العراق في العصر السابق الذي يسمونه بسبب التنورات فوق الركبة  (العصر الذهبي) قد وصل الى القمر، وعندما جاء اللطم أرجعه الى تحت المنبر؟

هل لطمنا من سحل عبد الكريم قاسم؟

هل لطمنا من علق رشيد عالي الگيلاني؟

هل لطمنا من أشعل حروب صدام؟

هل لطمنا هو من جمع الناس للتفرج على جريمة ساحة الوثبة؟

هل لطمنا من صبغ شوارع بغداد بدم المفخخات؟

هل لطمنا من جعل العراق من  1922 الى 1979 لا يسجل فترة حكومية مستقرة لأربع سنوات إلا مرة واحدة انتهت بانقلاب؟

تعساً لكم، يتصارعون بكل أصنافهم وتوجهاتهم لـ 98 عاماً ثم تتركونهم وتلقون اللوم على الشعائر الحسينية!

أم هي مشكلة الحسين نفسها لاتزال باقية (نقاتلك بغضاً لأبيك) ؟

أي سخافة هذه التي تريدون أن نناقشها؟! وأي ذاكرة مشوهة تقدمون للأجيال؟

بعد المستوى السطحي في التفسير الأول، يبرز إلينا البطل القعقاع ليقدم تفسيراً أكثر (عمقاً) عن سبب مشاكل العراق:

٢. مشكلة العراق في عقيدة (القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة) التي جعلت العراقيين يقبلون بالموت وسلب الحقوق ولا يفكرون بصناعة الحياة، فتدهور حال العراق.

وياله من تحليل مصيب مع تاء مربوطة، وماذا أقول عنك يا هذه العقيدة وهذه المقولة من الإمام زين العابدين غير (حسبنا الله)!

• حسبنا الله في الحشد الشعبي الذي اعتنق هذه المقولة وذهب الى القتال وحرر العراق من دنس عصابات (الموت) الدواعش.

• حسبنا الله في المواكب الحسينية التي نهضت بفتوى التكافل الاجتماعي لأجل (حياة) العوائل الفقيرة.

• حسبنا الله في المتظاهرين الشرفاء الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم وحياتهم قائلين (هيهات منا الذلة).

• حسبنا الله في المرجعية التي ساندتهم لأجل الحصول على دولة فيها (حياة كريمة).

• حسبنا الله في العتبات المقدسة التي بنت المستشفيات والمشاريع الزراعية ولم تفضل الموت على الحياة.

• لا، والمصيبة أن واحدة من هذه المستشفيات التي تحمي (الحياة) باسم الامام زين العابدين صاحب المقولة!

• حسبنا الله في شعب عاش تحت الدكتاتورية الخانقة لأربعة عقود ثم خرج بعدها بسنة واحدة ليمارس حقه الديمواقراطي بالانتخابات! أي شعب كاره للحياة هذا؟ وأي فلسفة عميقة فلسفة صاحب التفسير؟

 

٣. التفسير (الأعمق) يقول: إن سبب مشاكل العراق هو السياسيون (الشيعة) الذين برمجت عقولهم على اتباع رجال الدين وعدم التحالف مع الغرب (الكافر) لخوفهم من ردة فعل المرجع المتحجر الذي يرى الأمور بمنظار الحلال والحرام.

وحق الله يا صاحب هذا التفسير، أني حائر في جوابك، والتعليق على تفسيرك العظيم!

• تعال معي الى الجانب الآخر، من الصورة.

سوف أعيدك الى زمن (هولاكو) لعلك تفهم شيئاً عن تاريخ علماء الشيعة.

قال محمد بن علي بن طباطبا في الآداب السلطانية ص23: "ولما فتح هولاكو بغداد في سنة 656 ه‍ أمر أن يستفتي العلماء أيما أفضل السلطان الكافر العادل أو السلطان المسلم الجائر؟ فجمع العلماء بالمستنصرية لذلك، فلما وقفوا على المسألة أحجموا عن الجواب وكان رضى الدين علي بن الطاووس حاضر المجلس وكان مقدما محترما، فلما رأى احجامهم تناول الورقة وكتب بخطه: الكافر العادل أفضل من المسلم الجائر، فوضع العلماء خطوطهم معتمدين عليه).

• هل تعرف أن رضي الدين بن طاووس المذكور في القصة من أكابر فقهائنا؟

• هل تعرف أنك متأخر بـ740 سنة عن الحياة، لأن هذه القصة لم تصل مسامعك الكريمة حتى الان وأنت تطرح تنظيراتك العبقرية للشباب!

• هل تعرف أن مرجع اليوم السيد السيستاني يوصي بتحسين علاقات العراق مع محيطه الدولي؟

• هل تعرف أن صورةً للسفير الصربي في العراق وهو يقبل يد المرجع الحكيم أحد مراجع النجف، انتشرت بشكل واسع، كان سببها كما قال السفير نفسه (أذهلني بكلامه عن علاقات الدول وتعاون الشعوب)؟

• لماذا تتعمد الخلط بين أبي بكر البغدادي الذي يريد أن يذبح العالم كله، وبين مراجع الشيعة المنفتحين؟!

 

• ثم بالله عليك، عن أي سياسيين ملتزمين بكلام الفقهاء تتحدث؟ عن أي حكومة مقيدة بالمراجع تتكلم؟

• هل ترى السيستاني أغلق بابه عليهم من شدة طاعتهم أم من شدة عصيانهم؟

أم تغلق عينيك عن إغلاق بابه؟

• ألا ترى المناصب تباع وتشترى؟ والمسؤول منهم لا يجلس على كرسيه إلا بموافقة الدول الأخرى؟ فعن أي فقهاء تتحدث؟

ماذا أقول؟ وماذا أتكلم؟ أليست هذه أقلام الأحزاب (علمانيها وإسلاميها) لترمي اللوم على الشعائر والمرجعية، وتخرج من دائرة الاتهام بالفشل؟

أليست هذه المتاجرة والتفريط بأقدس مقدساتنا، دليل إفلاسهم الكامل؟.

هل الأمر مازال خافياً على الفطن ولا يعرف كيف تريد الأحزاب (أكرر علمانيها وإسلاميها) تحويل المرجعية الى (كش)؟ أم يكفينا قول غالب الشابندر جهاراً نهاراً أمام الكاميرات والملائكة الكاتبين (أنا وسامي العسكري دافنيها سوة، اتفقنا قبل دخولنا للعراق - كحزب دعوة -أن نكتب مقالات ضد المرجعية الدينية وتدخلها في الشأن السياسي)!!

وأختم بقول الروائي الانگليزي شكسبير (المايشوف بالمنخل عمه اليعميه).