ينادون بالتحرر منها: أحكامنا وفقه أئمتنا مادة للفكاهة!!

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لـ «موقع الأئمة الاثني عشر».

نتعرض الى ثلاثة أمور مهمة في هذا المقال:

الأول:

ربما يتصور الكثيرون أن الاستهزاء بالأحكام الشرعية ظاهرة جديدة من مخلفات العلمانية أو الغزو الثقافي أو نحو ذلك، ولكن الحقيقة أن هذه الحالة موجودة منذ زمن طويل. وسيأتي الشاهد على ذلك.

 علينا ان نفهم ان الاحكام الشرعية تكليف، والتكليف يعني تحمل الكلفة، التي تارة تكون كلفة مادية بالتطبيق وأخرى تكون معنوية بتقبل الحكم والخضوع لإرادة المشرع.

 وفي سلم الخضوع للأحكام تفاوت كبير بين الناس:

١- فمنهم من تجده في أعلى درجات التسليم والقبول -ليس بمعنى إلغاء عقله كما يتوهم البعض- بل لثقته بالمشرع الإسلامي كما سنبين.

 وبصرف النظر عن سند الرواية الآتية ولكنها ترسم صورة جميلة لهذا الصنف من الناس الذي لا يشكك بحكمة المشرع:

فقد روي عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: والله لو فلقت رمانة بنصفين فقلت هذا حرام وهذا حلال، لشهدتُ أن الذي قلت حلال حلال، وأن الذي قلت حرام حرام.

فقال عليه السلام: رحمك الله رحمك الله.

 وكذلك نجد الإمام عليه السلام يترحم بنفس الطريقة على شخص من الصنف ذاته:

فقد روي عن زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن عندنا رجلاً يقال له كليب لا يجئ عنكم شيء إلا قال: أنا أُسلم، فسميناه (كليب تسليم).

قال: فترحم عليه - الإمام - ثم قال: أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا.

فقال: هو والله الاخبات، قول الله عز وجل: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ". الكافي ج ١ ص ٣٩١

 لاحظوا أيها الأحبة كيف ربط الإمام عليه السلام بين الوثوق بأحكام الشرع والتسليم لها وبين الإخبات، فالاخبات بمعناه اللغوي هو الخشوع والتواضع وهذا التواضع ما كان ليتحقق لولا ثقته بأهل البيت وحكمة تبليغهم للتشريعات السماوية.

٢- وصنف آخر من الناس على عكس الأول، يتمردون على الأحكام ويحتجون عليها ويستهزؤون بها والعياذ بالله، فقد روي عن جابر، أن رجلاً جاء الى مولانا أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟

قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله.

فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها!!

قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: "إنك لم تستخف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك" وسائل الشيعة ج١ ص ٢٠٦

والقلوب بين هاتين الدرجتين على منازل، بين من يتأثر بمجرد برنامج هزلي، وبين من لاتهزه ألف شبهة.

الثاني:

 لا تتعبوا نفسكم مع أي شخص تجدون في قلبه تمرداً على الأحكام الشرعية، بل قوموا بشرح هذا التفصيل البسيط له، فإن قبله فقد هدى الله قلبه، وإن أنكره فهو الداء الذي لادواء له.

 الناس في تعاملها مع أحكام الدين على ثلاثة أصناف:

١- صنف وقع في التفريط، فعطل عقله عن العمل تماما، بحيث وصل الى مرحلة القبول بالمتناقضات بدعوى أن الدين يريد ذلك ويأمرنا أن لا نناقش، على طريقة (سيدنا رضي الله عنه قتل سيدنا رضي الله عنه).

٢- صنف وقع في الإفراط، فأراد لعقله أن يصل الى جميع غايات الأحكام الشرعية ومقاصدها الخفية، بل وأخضعها للعلوم التجريبية!!

وليت الشعارات الجميلة التي يحملها هؤلاء كتحرر العقل وطلب الدليل، يقابلها جهد حقيقي في دراسة مباني الدين قبل نقدها.

٣- صنف ثالث لزم النمرقة الوسطى، فهو يطير بجناحين لفهم الدين:

 الجناح الأول: (ملازمة حكم الشرع للحسن والقبح الذاتيين في الأشياء)

بمعنى أن العقل يؤمن ويعرف بحكمة الدين وأنه لا يأمر بشيء إلا لمصلحة ذاتية فيه، ولا ينهى عن شيء إلا لمفسدة ذاتية فيه.

وهذا المبدأ الأصولي والكلامي، الذي تقول به الشيعة، يطلق عنان العقل للتأمل والتفكير والبحث المستمر في مقاصد الشريعة وأسرار أحكامها ليكتشف هذه المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء.

 الجناح الثاني: (التعبد)

وهو يعني أن العقل إذا وصل الى نتيجة من البحث فهو خير، ولكن إذا لم يصل فعليه أن لا يفقد ثقته بالمشرع، فالطريق لازال طويلاً والأسرار تنكشف على مراحل، وما بقي منها مصوناً في أستار الغيب فلحكمة خالقه سبحانه وتعالى.

 وبعبارة أخرى أن المؤمن بين دفع ومنع في آيتين من كتاب الله:

 (وقل رب زدني علما) تدفعه الى إظهار طاقته العقلية في البحث والسؤال والمناقشة.

 (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) تمنعه من اقتحام ما لا يدركه وما يفتقد آليات فهمه.

 ونختم هذا الأمر الثاني برواية مباركة عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، فما ورد عليكم من حديث آل محمد صلى الله عليه وآله فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه، وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمد، وإنما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله، فيقول: "والله ما كان هذا والله ما كان هذا" والانكار هو الكفر". الكافي ج ١ ص ٤٠١

 وخلاصة الامر أن هذا الاستهزاء انما هو من الامور الخطيرة لأنه لا يدل على مجرد اعتراض بل على اختلال هذه المنظومة برمتها، وقد نقل أنه في وحدة الاستخبارات الامريكية لا يسمون المشكك بالأوامر المتردد في تنفيذها بانه لا يثق بالقوانين بل يسمونه (لا يؤمن بأمريكا).

الثالث:

والآن دعونا في هذا الأمر الثالث نستعرض كيفية تعامل هؤلاء المعترضين مع أحكام الدين في نقاط سريعة ونترك الحكم للقارئ الكريم:

١- قبل أن يستهزئ هؤلاء هل هم واثقون من دقة نقلهم؟ فبالنسبة لنا نتفاجأ كثيراً بأحكام يحتجون بها علينا ولا نقول بها أساساً!!

٢- إذا كان هؤلاء واثقون من دقة نقلهم فهل هم واثقون من تفسيرنا ليعترضوا عليه؟؟ فالنسبة لنا نسمع أحكاماً يحتجون علينا بعد أن يفسروها بمزاجهم تفسيراً لا نقبله!!

٣- وإذا كان هؤلاء واثقون من نقلهم وتفسيرهم، فهل هم واثقون من كيفية تطبيقنا للأحكام ومتى وأين؟؟ فكثيراً ما نسمع منهم اعتراضات على أحكام كالرجم والقصاص وغيرها، وكأننا نعلق المشانق وننصب المنصات، ويغضون الطرف عن شروط تطبيق هذه الأحكام وحالاتها النادرة.

٤- ثم ألستم تقولون بفصل الدين عن الدولة؟؟ نحن كذلك نطالبكم بفصل الدين عن الشعر والخطابيات والإنشائيات، فالتسليم للدين عندكم (تحجر) والتمرد عليه (تحرر) والالتزام بالحكم الشرعي عندكم (انغلاق) والانفلات منه (انعتاق) والناهي عن المنكر عندكم (متطرف) والعامل به (متثقف) وهكذا صار الدين عندكم حرب كلامية، يخدع بها السذج من الناس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)٢٠٤- البقرة.

 نقول لهؤلاء: إذا كنتم تشاهدون الضجة التي يلقاها الأزهر من الليبراليين، بسبب مناهجه التعليمية أو ما تتضمنه صحاح السنة من أحاديث لا يريدون الاعتراف بضعفها أو يعجزون عن تفسيرها، ثم ترغبون في نقل التجربة الى العراق، فأنتم واهمون.

 في مذهبنا لا مكان لكتاب مقدس عن النقاش والتمحيص، أو رواية تأخذ بأعناقنا الى حيث التنافي مع العقل والقرآن.

 في مذهبنا لا مكان للتناقض المستحكم، ولا احتكار للحقيقة.

 في مذهبنا لا مكان لتعصب الكنيسة وأحكامها التعسفية، ولا لجمود هيئة كبار العلماء ومنعهم من الحوار، بل نحن أصحاب الدليل وحوزة البحث العلمي، ولكن بشرط أن نرى ونجالس أهل الميدان وأرباب البحث، وليس فقهاء الفيسبوك.

 في مذهبنا، هناك (البحث الخارج) وهو ساحة المنازلة العلمية بين الفقيه ومن يجلس تحت منبره، البحث الخارج عن حدود التحجر والإقصاء والخوف من الحقيقية، بشرط أن تخرج أنت عن التندر والتهكم واللاموضوعية.

 في مذهبنا، تصنع هذه الحوزة رجالاً للدين مستقلين عن الدولة يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ويصورهم الإعلام أباطرة من التجمل، ليسوا عالة على الدولة ينفقون من ميزانيتها ويخضعون لحاكمها، وتتحكم بهم الرواتب والمناصب، ليأتي ناقم أو حاقد أو جائع فيصب جام غضبه على وعاظ السلطان وكهنة المعبد.

 في مذهبنا رجال للدين صنعتهم حكمة أمير المؤمنين، فهم أول الحاضرين في ميدان النزال العلمي، حتى تنحني الرؤوس لعبقرية محمد باقر الصدر، وتذعن النفوس لفقه أبي القاسم الخوئي، وتخشع الأصوات لفلسفة محمد حسين الطباطبائي.

 في مذهبنا رجال للدين شهداء، صنعتهم نهضة الحسين، فهم أول الحاضرين في ميدان النزال الدامي، لتسقى بعروقهم شجرة الإسلام، وتهتز الأرض لمشتاق الزيدي، وتنمو الثمار بلقمان البدران.

 فطلبوا الفكاهة والتهكم في غير مذهبنا، فنحن الاستثناء الوحيد ياعباد الموظات، وغيرنا لا يحرص على دينه لأنه ما جاء بتعب، فلطالما كان مع السلاطين، أما نحن فبالدماء بنيناه، وما بني بالدم، لا تهدمه فكاهة المفلسين.

 قال علي عليه السلام: " أما والله ما قاتلت إلا مخافة أن ينزو فيها تيس من بني أمية فيتلاعب بدين الله".

 هؤلاء المساكين ينادون بالتحرر من أحكام الدين، بينما لا يجرؤون على التحرر من أحكام الموظة وما يراه مصمم الأزياء من حكمة في تمزيق البنطلون أو تركه يتدلى مثل الحفاظة أو يوماً عريض ويوماً ضيق ويوماً قصير ويوماً طويل او غير ذلك!!.

 هؤلاء المساكين ينادون بعدم الخضوع للمشرع الإسلامي رغم أنه صاحب اختصاص في مجاله، بينما تخضع رؤوسهم لساعات تحت رحمة الكوافير (الاختصاص) وما يراه مناسباً من قصات الشعر التي تشبه منطقة محررة بعد القصف!

 وعلى كل حال أحبتي، فهذا الاختبار هين وبسيط قياسا بما ينتظر الناس من هزات عنيفة، وهي دعوة للمبلغين الكرام لشحذ همتهم واحتضان الجيل فالشباب أصبحوا اليوم (لمن سبق)

 عن الإمام الصادق عليه السلام: " بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة ".

(كُتبت هذه المقالة بتاريخ ٢٠١٦/٤/٢٥ على أثر استهزاء بعض الاعلاميين بمقطع فيديو يظهر أحد رجال الدين يشرح حكماً شرعياً)