المرجع الحكيم.. رحيل تاريخ!

الذي رحل اليوم، أكبر من سنوات وألقاب، رحل تاريخٌ لم يرو حق روايته، و رجل لم يُحكَ حق حكايته.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

قصرت في حقه ظروف أغض الطرف عنها ونحن في لحظة المصاب لا العتاب، ولكن عسى أن تجود الأيام بأقلامٍ أو إعلام، يفتح عيون الأجيال الصاعدة، على تلك القصة.

 رجل أثخنته الجراح مذ عاهد الحسين و ارتبط بروح كربلاء، وعجز الدهر أن يكسر شوكته بكل أنواع البلاء، رجل شب عوده بين قامتين، سيده الإمام الحكيم وشيخه الفقيه الحلي، فكان مستمسكاً بالفقه و توأماً للأصول.

كان يسمع ضجيج الشيوعيين يطبق على سماء العراق (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) متوعدين بسحل كل من يقف في وجوههم، وطالما سحلوا الشباب في الشوارع وقطعوهم الى أشلاء، فكان الحكيم الشاب يمشي على رؤوس الأفاعي مخترقاً أزقة النجف و معرضاً نفسه للخطر، ليوزع منشورات (جماعة العلماء) التي تهدم الفكر الشيوعي بالحجة والبرهان.

ومن بلاء الشيوعية الى بلاء البعث، وما تجرع بلاء البعث أحد مثله ومثل أسرته، فقد منعوه من السفر منذ يومهم الأول، وبقي يتوق لحج بيت الله ست سنوات، من 1968 الى 1974، ثم أعيد المنع مرة أخرى.

ومن منع السفر الى قطع الطريق، فما مرت ثلاث سنوات، حتى قام مرة أخرى معارضاً للسلطات، متحدياً منعها عن زيارة الحسين عليه السلام سنة 1977 وتخطى حواجزهم ودباباتهم، وزار جده الحسين.

 وبعد عودته من الزيارة كان غربان البعث ينتظرونه ليدفع ثمن عصيانه، فاختبأ في بيت مهجور هو و أولاده، وضلوا هناك مطاردين ولا يعرف مكانهم سوى زوجة السيد وأم أولاده، فكانت تسترق اللحظات لتفلت من عيون الأوباش، وتوصل الطعام الى عائلتها الحسينية المطاردة.

وجاء صدام بطغيانه، فأشعل الحرب مع إيران، ثم جلس ليشبع داء العظمة فيه، ويصور نفسه الزعيم الأوحد للأمة الإسلامية ، وأوعز الى علماء السوء أن يجتمعوا في مؤتمر التملق والنفاق ( مؤتمر علماء المسلمين )، معلنين دعمهم له في حربه ضد إيران (المجوسية الكافرة).

دقائق معدودة من حضور السادة آل الحكيم، كانت تكفي لإشباع غرور صدام، ريثما يلتقطون بعض الصور ليوجهوا بها رسالة للسيد الخميني: أنت تقف في المحافل العامة والى جوارك محمد باقر الحكيم نجل محسن الحكيم، حسناً، سنأتي بآل الحكيم، بدل الواحد عشرة، ويقفون بجوار زعيم العرب، وحامي البوابة الشرقية.

لم يصدق صدام ومدير أمنه ومفاوضوه، بوجود من يقول له ( لا )، لم يصدق أن ثمة في الناس من يردد ( هيهات منا الذلة ) بصدق وواقعية، ولم يستوعب أن هناك من هو مستعد للموت، وسبي النساء وزجها في السجون، وقتل الأولاد بأبشع الأساليب، لأجل كلمة واحدة فقط، لأجل موقف واحد فقط، موقف يشرف الحوزة الى الأبد، أو ينكس رأسها الى الأبد !!

وعندما أصر مدير أمن النجف (أبو مخلص التكريتي) على العائلة بالحضور الى المؤتمر، وإلا سنفعل وسنفعل، رد عليه الشهيد السيد محمد رضا الحكيم بكل هدوء (أبو مخلص أنت تطبخ حصو) أي لا فائدة من هذا التهديد.

وصب صدام انتقامه على الأسرة رجالاً ونساءً، والى هنا يتوقف القلم، فلا أحد يستطيع وصف ما جرى إلا آل الحكيم أنفسهم، وكل قلم يكتب عن ذلك سواهم فهو قلم متطفل.

لا أستطيع وصف شيء، وأنا أسمع السيد جعفر ابن الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، يقول (ماجرى يُدرك ولا يُوصف ).

 أما فقيد اليوم، فعندما دخل السجن عام 1983 قال مخاطباً من معه : سلموا أمركم لله.

دخل السجن شامخاً، وخرج منه شامخا، وكان شذاذ الآفاق من جنود صدام، كلما حان دور تعذيبه، ينتظرون أن تصدر منه صيحة واحدة أثناء التعذيب، ولكنه تركهم بحسرتها، وعجزوا عن انتزاع صرخة واحدة من هذا الرجل.

ثمان سنوات عجاف في الدنيا، عظيمات في المعاد، قضاها وأسرته بين مديرية الأمن العامة، والأقسام المغلقة في سجن ( أبو غريب ).

ورغم أن عقوبة الإعدام، هي المصير الحتمي لتدريس العلوم الدينية أو الكتابة عنها في السجن، ولكن الحكيم كان يدرس السجناء مستغلاً قلة حضور الحراس للأقسام المغلقة، بسبب انتشار مرض التدرن، فكان ظاهر الأقسام المغلقة التدرن، وباطنها التدين.

وكان يستغل أغلفة السجائر التي ترمى هنا وهناك على شحتها وصعوبة إدخالها الى السجن، ليكتب ويؤلف في المسائل العلمية، التي يحفظها على صفحة القلب، والكثير منها أتلف لصعوبة الحفاظ عليه.

وعندما خرج من السجن على عهد الولاء ذاته عام 1991 كان أول تحدٍ جديد يواجه به سلطة البعث مرة أخرى، أن يذهب الى زيارة الحسين عليه السلام رغم الوضع الأمني المكهرب، وكأن لسان حاله : أوفيت يبن رسول الله ؟!

والى هنا ألوي عنان القلم رغم أن للقصة بقية تنتظر من يحكيها، وأترك لهذا الجيل تذكر ما عايشه بنفسه وشاهده من تواضع السيد العظيم، وزهده وإيثاره على نفسه، وتقديمه للسيد السيستاني دام ظله ( وأعان الله قلبه في هذه الليلة ).

وغداً أيضاً، سيكون موعد الحكيم مع الحسين عليه السلام، وستكون الزيارة الأخيرة له محمولاً على الأكتاف، ثم الجوار الأبدي.وأنت المعزى ياسيدنا ياصاحب الزمان، صلى الله عليك وعجل الله فرجك الشريف.

الجمعة 25 / محرم الحرام / 1443 هـ

يوم وفاة الإمام السجاد عليه السلام

وحفيده السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم قدس سره.