لا إكراه في الدين.. هل تتعارض هذه الآية مع ’الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر’؟!

لا تعارض بين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فكل مسألة تتحرك في دائرة مختلفة عن الأخرى، حيث نجد تفسير عدم الإكراه في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

مما يعني أن أساس الدين هو الايمان النابع عن اليقين والاقتناع، وهذا يتعارض بالضرورة مع إكراه واجبار المخالفين للدين، فلا يجوز حملهم بالقوة على الإيمان به، ومن هنا كان الأصل والمبدأ العام في التعامل مع من لا يؤمن بالدين هو دعوته بالتي هي أحسن، وهذا يختلف عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يستهدف هذا المبدأ استقامة المجتمع الإسلامي، أي أنه يتحرك داخل دائرة المؤمنين، وأساس ذلك قد نجده في قوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أدوات التذكير داخل المجتمع الإسلامي، فبما أن المسلمين قد توافقوا على ما هو معروف وما هو منكر، فمن الطبيعي حينها أن يكون هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر حتى يستقيم المجتمع على التعاليم والآداب التي تواطؤا عليها.

 ومع أهمية هذا المبدأ في المجتمع المؤمن إلا أنه يراعي المبدأ العام القائم على أهمية توفر اليقين والقناعة، ولذا اشترط الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استجابة من يتم أمره ونهيه، أي أن يكون أمره ونهيه مؤثراً وله انعكاس حقيقي على الواقع العملي، وإلا يتحول إلى سبب للتنازع والتخاصم وتشتيت والمجتمع المؤمن، ومن هنا نص الفقهاء على سقوط الوجوب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن مؤثراً فيمن يتوجه له الأمر والنهي.

جاء في الموسوعة الفقهية التابعة لمؤسسة دائرة المعارف للفقه الإسلامي، ج17، ص  199 ما نصه: (يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يحتمل الآمر أو الناهي تأثير أمره ونهيه في المأمور أو المنهي، فلو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب وتسقط وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نفى المحقّق النجفي الخلاف عنه، بل في ظاهر كلمات العلّامة الحلّي الإجماع عليه؛ لأنّ الغرض من إيجاب‌ الأمر والنهي وقوع المعروف وارتفاع المنكر، فمع العلم بعدم حصولهما فالأمر والنهي لغو، فكأنّ ذلك بمثابة مقيّد لبّي لإطلاقات النصوص يستفاد من مناسبات الحكم والموضوع.

بل قد يستفاد من قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى‌ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فإنّها تشير إلى كفاية احتمال التقوى والاتّعاظ مع قلّته لوجود المؤشّرات على نزول العذاب عليهم.

واستدلّ له أيضاً بالروايات: منها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلًا...).

قال مسعدة: وسمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: وسُئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر)، ما معناه؟ قال: (هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلّا فلا).

وتقريب الاستدلال بها بثلاث عبارات: الاولى: قوله‌ عليه السلام: (إنّما هو على القويّ المطاع)، فإنّ (إنّما) أداة حصر تدلّ على انحصار الوجوب بالمطاع، الدالّة بالمفهوم على انتفائه عند انتفاء المطاعية، والمطاعية تعبير آخر عن حصول التأثير.

الثانية: قوله عليه السلام: (هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه)، فإنّها بمفهوم الشرط تدلّ على أنّه لو كان لا يقبل أمره فلا وجوب.

الثالثة: قوله عليه السلام: (وإلّا فلا)، فإنّه صرّح بانتفاء وجوب الأمر لو انتفت المعرفة.

ومنها: خبر يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: (إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا).

فإنّه مع حصر وجوب الأمر والنهي بالمؤمن والجاهل مرتّباً الغرض من أمرهما ونهيهما على الاتّعاظ والتعلّم الدالّ بإطلاقه على عدم ترتّب غرض آخر غيرهما فيما يخصّ المؤمن والجاهل، ومع عدم مأمور غيرهما يعلم انحصار الأمر والنهي بتحقّق الغرضين المذكورين، فمع انتفائهما لا يجب أمر ولا نهي)

وهناك تفصيل فقهي واسع حول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيدنا في المقام هو نفي التعارض بينه وبين عدم الإكراه في الدين، وهذا قد تبين من خلال ما قدمنا.