الشعائر الحسينية.. موروث ثقافي أم رسالة عالمية؟

التفاعل الوجداني مع مصيبة الامام الحسين وأهل بيته، وما انتجه من تعبيرات مختلفة للمواساة، يمثل حقيقة اجتماعية أقرها العلماء والباحثون.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

أول دمعة على الإمام الحسين سقطت من عين رسول الله، ومن ثمّ، الصديقة الطاهرة وأمير المؤمنين، والأئمة الاطهار من بعدهم، كما أن أول مجلس عزاء نُصب في بيت رسول الله، ثم جاءت التوصيات والتأكيدات من الأئمة الأطهار على إقامة هذه المجالس وشحنها بالاستذكار والاستعبار، سرداً وشعراً.

فضاعة الخطب، وحرارة المصاب في قلوب المؤمنين التي كشف عنها رسول الله مبكراً، والحسين صغيراً في حجره ، دفعت بالمؤمنين خلال فترات تاريخية متلاحقة لأن يعبروا بأشكال مختلفة عن هذه الحرارة مع سعي دائم لتقديم الأفضل والأكثر لتحقيق المواساة مع أهل البيت، عليهم السلام.

تطور اشكال العزاء على الإمام الحسين كان مواكباً، بل جاء استجابة لتطور في فكر وثقافة الإنسان المسلم، ثم المجتمع والأمة في وجود رمز للإصلاح والتغيير والتقويم، وما أكمل وأعظم من مدرسة عاشوراء الإصلاحية لتحقيق هذه الاهداف الكبيرة للفرد والمجتمع على حد سواء، فتم فتح ملف جديد تحت عنوان "العِبرة" من عاشوراء في كل ما جرى وحصل قبل وبعد عاشوراء من أحداث ومواقف فردية واجتماعية؛ من تخاذل، وجُبن، ووفاء، وبطولة، وصبر.

فلكلور شعبي أم مسؤولية حضارية؟

حاول البعض في كتاباته وبحوثه في الآونة الأخيرة تحجيم الشعائر الحسينية في إطار الانفعالات النفسية الخاصة بالإنسان الفرد، فراحوا يطلقون صفات بعيدة عن المحتوى والأبعاد، منها، أنها مجرد "فلكلور شعبي"، علماً أن هذا المصطلح يتعلق بفعاليات ثقافية تعبر عن عادات وتقاليد وتراث الشعوب، يتم تناقلها بشكل شفاهي –كما ورد في التعريفات-، وإذن، فهي مظاهر جامدة وأطر جميلة مثل أي لوحة جذابة معلقة على الجدار، بينما مواكب اللطم، والزنجيل، والتشابيه، وحتى التطبير، صحيح أنها موروث شعبي، بيد أنه مفعم بالروح والمعنى، ومن مميزاته عن سائر الاستعراضات الأخرى في العالم، أن المشارك في الاستعراض والمشاهد من بعيد يشتركون معاً في التأثّر بهذه الروح (الحرارة) فتصدر منها ردود افعال، أو آثار نفسية واجتماعية تتجسد في تحولات جذرية غير متوقعة، وربما تكون مستحيلة قبل هذا، والامثلة عديدة ومستمرة مع الزمن لتحولات كبيرة في السلوك والعقيدة بفضل هذه الشعائر أيام عاشوراء وما بعدها.

وهذا لم يكن إلا عندما تحولت مختلف الاعمال التي يقوم بها الناس هذه الأيام إلى رموز مرتبطة مباشرة بالحدث العاشورائي لما قبل أربعة عشر قرناً من الزمن، بل ومرتبطة بشخص الإمام الحسين، عليه السلام، بدءاً من لبس السواد، وإقامة المجالس في البيوت والحسينيات والجوامع، وإقامة مختلف الفعاليات العاشورائية، لذا يدعو علماؤنا إلى الانتباه إلى التصرفات والسلوكيات الفردية خلال هذه الأيام، فمن يلبس السواد ويشارك في العزاء "عليه أن لا يكذب، ولا ينظر أو يستمع الى ما حرّم الله"، ربما يمكن القول بأن موسم العزاء على الإمام الحسين، أشبه ما يكون بفريضة الصوم في آثارها مع الفارق أن شهر رمضان فرصة للتغيير الذاتي بالدرجة الأولى، فيما يكون شهر محرم الحرام وصفر الخير معاً، فرصة للتغيير الذاتي والاجتماعي ايضاً.

فاذا عرفنا أننا نتعامل مع روح ومعنى ودروس حيّة مع الزمن، وليس طقوس وأعمال مبتكرة، فأننا أمام مسؤولية حضارية لاستثمار هذه الشعائر لما فيه خير الإنسان والمجتمع، وفي دائرة أوسع؛ إلى حيث المجتمعات والأمم المتعطشة للعدل والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، لاسيما وأن تقنية الاتصال والإعلام باتت اليوم تنقل تفاصيل ما يجري في أجوائنا العاشورائية إلى مختلف بقاع العالم، فيرى الياباني والصيني، والإفريقي والبرازيلي، ما يقوم به الشباب والأطفال من فعاليات مختلفة، فبمقدار الإيجابية في المشهد العاشورائية يكون التأثير الإيجابي السريع والواسع.

لا لاحتكار القضية

صحيح، أن الانفعال النفسي مع شيء ما يجعل صاحبه مندمجاً معه إلى حد الذوبان، فيكون هو ذاته وذاك الشيء أمر واحد من الصعب فصلهما عن بعض، فإذا كان ينزع إلى الاعتداد بالنفس والترفّع على النقد والملاحظة، فإن ذلك الشيء سيكون كذلك مهما شابه الخطأ او الانحراف، وهذا ما تبتلى به الثورات الجماهيرية على مر التاريخ، فالجميع يدعون وصلاً بالمطالب الحقّة، وأنهم مضطهدون ومظلومون، فيكون خطر الفوضى محدقاً في مثل هكذا أجواء وطريقة تفكير.

أما "ثورة" ونهضة الإمام الحسين فهي ليست كذلك مطلقاً، فهي بالأساس انطلقت للإصلاح، فهي القائد والمحرّك والمحفّز لمن يطلب التغيير، فمن غير المعقول السعي لاحتوائها بغية تحقيق مصالح خاصة، وربما يكون اسم "الحسينية" على مكان المأتم وإقامة العزاء يؤكد هذه الحقيقة، فهو قرينٌ للمسجد، مكان الصلاة والعبادة، فذاك لتعزيز العلاقة مع أولياء الله، ومن هم الوسيلة اليه، وهذا لتعزيز العلاقة به –سبحانه وتعالى-وأداء فرائضه وأحكامه، ففي المساجد نأخذ الخطوط العريضة للعقيدة والأحكام الدينية، أما في الحسينيات فنأخذ من الإمام الحسين، ومن أهل بيت رسول الله، الخطوط التفصيلية لنظام حياتنا، وهذا يكون عندما يستشعر كل إنسان يشعر بالحزن على مصاب الإمام الحسين، بأنه يسير مع تيار عريض من الناس المحزونين في ظاهرهم وباطنهم، وأن تفاعله وحرارة قلبه على المصاب، هو جزء من الحرارة التي تشع على قلوب الملايين.

وهنا ثمة التفاتة الى خطورة الكلمة وسط أداء الشعائر الحسينية التي تعبّر عن مشاعر الحزن، فيما تعبر الكلمة عن قناعات وافكار لها التأثير السلبي والإيجابي على هذه المشاعر، فربما كلمة تجرح هذه المشاعر، فيما كلمة أخرى تصدر من خطيب حسيني تصل الى مسامع رجل جالس في بيت مجاور للحسينية، وهو بعيد عن الإمام الحسين وعن الدين كله، فيتأثر وتتحول شخصيته بالكامل إلى الالتزام بالدين والأخلاق بفضل تلك الكلمة الصادقة والغنية بالمعاني والدلالات.

وفي دائرة أوسع يوصي العلماء برؤية عالمية للشعائر الحسينية وأن "ينظر أصحاب الهيئات والمواكب، وأهل القلم والمنبر، وذووا الخطابة والبيان، إلى قصة الإمام الحسين بنظرة أوسع، وأن يتعاملوا معها برحابة صدر أكبر، وأن يعلموا بأن الإمام الحسين، ليس حكراً على المسلمين فحسب، وفي البلاد الإسلامية فقط، وإنما هو خلف جده الرسول الأكرم، الذي بعثه الله تعالى إلى الناس كافة، وأرسله إلى العالم كله، وكذلك يكون الإمام الحسين إماماً للناس كافة وعلى العالم جميعاً".

إن الشعائر الحسينية التي يقيمها المؤمنون في كل مكان بالعالم، فضلاً عما يجري في كربلاء المقدسة، أشبه ما تكون بقاعة امتحان يضع الإنسان عصارة مشاعره وأفكاره وجهوده لتكون النتيجة متطابقة مع المنهج الحسيني فيحقق النجاح في تغيير واقعه الفردي والاجتماعي في ضوء مبادئ وقيم النهضة الحسينية.