ذكريات مشّاي: جلاوزة صدام ينتظرون الزوار لاعتقالهم!

من مواقف الأربعين (٢):

في تسعينيات القرن الميلادي المنصرم كنا نمشي من النجف إلى كربلاء في الطريق المحاذي لنهر الفرات المسمى بطريق العلماء.

وقبل أواخره نمرّ بمنطقة الشبانات، وهي أرض جرداء صبخة يشقها بزل ماء، سكنها المهجرون من الأهوار، بعد أن جففت، وبنوا فيها مضايفهم من القصب، وحملوا إليها أسبابهم وجاموسهم وزوارقهم، ولم يتركوا ضيافة الزوار لوقوعهم في طريق المشاية.

وقبل الوصول إلى الشبانات نمرّ بالمرقد المنسوب إلى السيد إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، ثمّ يأتي بعده شارع عرضي رأسه من شارع النجف - كربلاء، وآخره يؤدي إلى الإبراهيمية.

وكانت سيارات الجلاوزة تنتظر عبور الزوار من هذا الشارع للقبض عليهم، فكان العبور منه على حذر وترقب، والوقت الجيد لعبوره وقت السحر، حتى نصل لكربلاء صباحاً بعد ساعتين.

وصبخة أرض الشبانات يعجب منها المرء، وليس فيها زرع ولا بركة، والحديث يتداول أنّ سبب ذلك هو أنها موضع دفن جماعة عمر بن سعد، ولا دليل عليه.

وصلنا ظهراً إلى أحد مضايف الشبانات، وكان مبنيٌ من القصب، وأعجبني فن ريازته، وكان فيه رجل شيبة جالس على يمين الداخل، وشاب وسيم مليح يقوم بخدمتنا.

وجماعتي جلسوا عند الشيبة، وأنا في آخر المضيف عند الشاب، فأخذت أسأله عن المضيف وعاداتهم وعن مخاطرة خدمة الزوار، وعن الأهوار وهجرتهم، وهو يصغي لي ولايتكلّم، فمللت من ذلك وسأمته، وسكت، فخرجنا بعد وطر الراحة.

وشايعنا الشاب إلى خارج المضيف، فهمس في أذني قائلاً: إنني أعتذر منك كثيراً، كنت أود التحدث معك، ولكن من عادتنا هنا أن لا نتحدث وفي المضيف من هو أكبر منّا، والشيبة يكون جدّي ولم أحب مخالفة الأدب بمحضره، فاعتذر منك كثيراً.

فتعجبت لهذا الأدب، وللالتزام به، ولآداب المضايف السامية.

وهذه الحكاية من مواقف الأربعين التي أحببت تدوينها للفائدة.

الصورة زوّدني بها الأخ الأستاذ محسن باقر الإبراهيمي، فشكرا له.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام