تزويق المعاصي وإثارة الشبهات.. ماذا تعرفون عن الغشّ في الدين؟!

عن الإمام عليِّ أمير المؤمنين (ع) قال: "من غشَّ الناسَ في دينِهم فهو معاندٌ للهِ ولرسولِه (ص)"(1).

كيف يتحققُ غشُّ الناسِ في دينِهم؟

نسبة ما ليس من الدين إلى الدين مكايدةً:

يتحقَّقُ ذلك بأنْ يحتالَ عليهم ويخدعهم فيقدِّم لهم ما ليس من الدين على أنَّه من الدين، فالغشُ يعني الخديعة والاحتيال والتمويه والتلبيس والتدليس وهو في كلِّ شيء بحسبه، فالغشُّ في البيع مثلاً يكونُ بنحوِ إظهار المبيع الرديء في صورة الجيِّد أو إظهار المبيع على خلافِ حقيقته وواقعِه كإظهار معدن الحديد في صورة الذهبٌ أو الفضَّة وذلك بمثل تمويهه وتغليفه.

كذلك هو غشُّ الناس في دينِهم فإنَّه يكونُ بمثل نسبة شيءٍ إلى الدين وهو ليس من الدين واقعاً، ويسعى لإقناعهم بذلك من طريق تزويقِ مغالطةٍ وصياغتها في صورةِ برهان فيستدلُّ بها على دعواه من نسبة شيءٍ إلى الدين وهو ليس من الدين واقعاً.

وقد يُقنعُهم بذلك من طريق الفِرية والكذب فيختلقُ حديثاً متضمِّناً لدعواه وينسبُه للرسول الكريم (ص) أو ينسبُه كذباً لمَن يثقُ الناس بصدقِهم وتثبتهم. أو يُحيلُهم -مثلاً- على مصادرَ معتمدةٍ لدى الناس والحال أنَّها خاليةٌ من مزاعمِه ويعتمد في ذلك على أنَّ الناس لن يُراجعوا تلك المصادر أو أنَّهم لن يفهموا لو اتَّفق لهم أن راجعوها. وقد يعتمد في إقناعهم -بما نَسَبَه زوراً إلى الدين- على ثقةِ الناس بصدقِه وعلمِه وتثبُّته.

وقد يعتمدُ في إقناعهم بمزاعمِه على مثل طريق الشعوذة أو السحر أو التعاطي للعلوم الغريبة فيلبِّس عليهم ويخدعُهم ويُوهمهم أنَّه من أصحاب الكرامات وأنَّ الله تعالى يُجري المعجزات وخوارقَ العادات على يديه فيكون ذلك سبباً في تصديق الناس لمزاعمِه. فكلُّ ذلك وشبهه يكون من غشِّ الناس في دينهم.

 

وكذلك فإنَّ من غشِّ الناس في دينهم تفسير آيات القرآن المجيد بالرأي وبالأهواء وتقديمُ ذلك للناس على أنَّه من مُرادات القرآن ومقاصده، ومن ذلك تأويل آيات القرآن وصرفها عن مدلولها الذي يقتضيه ظهورُها العرفي وتقتضيه قواعدُ اللغة دون الاستناد في ذلك إلى ما ثبت عن النبيِّ الكريم (ص) والأئمة المعصومين(ع) يفعل ذلك في مقام الخصومة أو للانتصار لرأيه أو مذهبه.

يقول أمير المؤمنين (ع) كما في نهج البلاغة: ".. وآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً ولَيْسَ بِه، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ، ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِه، وعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِه .. فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ، لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَه، ولَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْه، وذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ"(2).

إثارة الشبهات والتشكيكات بطرقٍ ماكرة:

ومن الغشِّ في الدّيِن إثارة الشبهات حول بعض القضايا الدينيَّة، فيأتي لما هو ثابتٌ من الدين بالضرورة أو هو ثابت بالأدلَّة المعتبرة فيُثيرُ حولَه الشبهات والتشكيكات دون التصدِّي لمعالجتها وتفنيدها فيكون ذلك سبباً في زعزعة ثقة الناس بدينِهم أو ببعض قضاياه، فذلك من أجلى مصاديق غشِّ الناس في دينهم. فمثلُ هؤلاء أضرُّ على الناس من جيش يزيد كما ورد ذلك في الاحتجاج عن الإمام العسكري (ع) قال: في صِفَةِ عُلَماءِ السَّوءِ-: ".. هُم أضَرُّ عَلى ضُعَفاءِ شيعَتِنا مِن جَيشِ يَزيدَ عَلَى الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ (ع) وأصحابِهِ .. وهؤُلاءِ عُلَماءُ السَّوءِ النّاصِبونَ المُتَشَبِّهونَ بِأَنَّهُم لَنا مُوالونَ، ولأعدائِنا مُعادونَ، يُدخِلونَ الشَّكَّ والشُّبهَةَ عَلى ضُعَفاءِ شيعَتِنا فَيُضِلّونَهُم ويَمنَعونَهُم عَن قَصدِ الحَقِّ المُصيبِ .."(3).

السخرية والاستهزاء بالقضايا الدينيَّة وحمَلَة الدين:

ومن الغشِّ في الدين السخرية والاستهزاء ببعض القضايا الدينيَّة أو الأحكام الشرعيَّة أو السخرية والاستهزاء بحمَلَة الدين فيكون مآل ذلك إضعاف تمسُّك الناس بدينهم، وقد حذَّر القرآنُ المجيد من ذلك في أكثر من موضع.

فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾(4).

ومنها: قوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ / وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ / لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾(5).

الإغراء بالمعصية بتزيينها أو تهوينها والتشجيع عليها:

ومن الغشِّ في الدين الإغراء بالمعصية وذلك من طريق تزيينها لعوام الناس أو تهوينها وتصغيرها أو التشجيع عليها بوسائل ماكرة فيأخذ من يفعل ذلك دور الشيطان الذي أخبر القرآن عنه بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(6) وقوله: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ .. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾(7).

قال تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾(8). فهم إنَّما يأمرون بالمنكر بعد أن يُلبسونَه لباسَ المعروف ويُضفون عليه بمكرِهم ما يُوجبُ تزيينه وتحسينه والإغراءَ به، وكذلك فهم حين ينهونَ عن المعروف فإنَّهم يعملون على التنفير منه والتزهيد في مزاولته وذلك من طريق التخويف من عواقبه الموهومة أو إظهاره في صورة الفعل المنافي -بزعمهم- لمقتضيات التعقل والحكمة، أو القول بأنَّ الظروف والأحوال قد تغيرت فلم يعُد هذا الفعل معروفاً كما كان عليه قبل تجدُّد الظروف والأحوال وبهذه الوسائل الماكرة وشبهها يزيِّنونَ للناس ما هو قبيح ويدفعونهم لمقارفته ويصرفون الناس عن فعل ما هو حسَن وذلك بالتنفير منه والتزهيد فيه. وقد وصف الإمامُ عليٌّ(ع) في نهج البلاغة مثل هؤلاء بقوله: "ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ .. يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ ويُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وفِيهَا وَقَعَ، ويَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ، لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَه - ولَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْه وذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ"(9).

وخلاصة القول: إنَّ غشَّ الناس في دينهم يكونُ بمثل التلبيس على الناس بنسبة شيءٍ إلى الدين وهو ليس من الدين واقعاً كما هو شأن المبتدعة ويكون بمثل إثارة الشبهات والتشكيكات حول القضايا الدينيَّة كما يفعل ذلك أهل الرِيَب، ويكون بمثل السخرية والاستهزاء ببعض القضايا الدينيَّة أو الأحكام الشرعيَّة أو السخرية والاستهزاء بحملَة الدين ويكون بمثل الإغراء بالمعصية من طريق تزيينها لعوام الناس أو تهوينها وتصغيرها أو التشجيع عليها بوسائل ماكرة. ويفعل ذلك والذي سبقه المنافقون والمنافقات كما نصَّ على ذلك القرآن المجيد.

الهوامش:

1- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص462.

2- نهج البلاغة الإمام علي (ع) -تحقيق صبحي الصالح- ص118.

3- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص264.

4- سورة النساء / 140

5- سورة التوبة / 64-66.

6- سورة الحجر/ 39.

 7- سورة النساء / 119-120.

8- سورة التوبة / 67.

9- نهج البلاغة الإمام علي (ع) -تحقيق صبحي الصالح- ص118.