من الذي صنع السيستاني؟

وأتاحت لي الفرصة الزمنية أن وافق مقتبل عمري .. بدايات فترة المرجعية العليا للسيد دام ظله .. فتابعت كل الأحداث التي جرت في عصر مرجعيته .. وشاركت من حجمي وموقعي الصغير في الكثير منها كما شارك غيري من مقلديه .. وكان السؤال دائماً .. من الذي صنع حنكة وخبرة السيستاني؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

عندما قرأت سيرة السيد السيستاني دام ظله .. أعني المنشورة في الموقع الرسمي

ثم قرأت سيرته في عدة كتب (خصوصاً ما كتبه الدكتور محمد حسين الصغير والدكتور صالح الظالمي)

ثم تشرفت بالإنصات إلى وصاياه المباركة في عدة زيارات خلال ٢٥ سنة.

وجدت أن هناك عنصراً متكرراً دائماً في كل هذا .. كتاب يلهج به .. ويوصي بحفظه وليس فقط مطالعته ..

إنه نهج البلاغة .. الذي كان دوماً حاضراً في كلامه وتصرفاته وحياته..

وكلما تكرر الحديث عن نهج البلاغة .. وكلما قرأت حديثاً للإمام عليه السلام من النهج .. كنت أكتشف التقارب بين مضامين الحديث وطريقة السيد.

لا أبالغ إن قلت .. بأن كل حديث قرأته .. وجدت السيد قد جسده.. مع الأصدقاء والأعداء .. مع الخصوم والغرباء .. مع المهاجمين والمحبين .. لكل شخص ولكل جماعة ولكل حزب .. كان للسيستاني موقفاً .. لو درسته ستجد أصوله في ذلك الكتاب .. الذي صنع السيستاني.

لقد جاد علينا الزمان بدرس عملي في نهج البلاغة .. ربما لا يتوفر في أزمنة أخرى .. يظن بها بالرجال .. أو بالظروف التي تظهر معادنهم.

أنني هناك أصور الشاب الذي هاجر من مشهد إلى قم للدراسة .. وكيف كان يحفظ خطب ومقولات الإمام في الطريق .. ثم من قم إلى النجف ..

أتساءل عن ذلك الشاب .. كم بذل من جهد لترسيخ هذه الكلمات العلوية في عقله ثم تركها تنزل إلى قلبه وتعيد صياغة كيانه كله ؟!!

فليس كل من حفظ كلمة عمل بها وصارت جزءاً من كيانه .. خصوصاً عندما يتعرض للضغوط ويذهل عن محفوظاته .. فما بالك بجبال الضغوط التي تعرض لها السيستاني في أكثر من منعطف .. وكانت الملايين تنتظر منه موقفاً أو غضبة أو انفعلاً أو تصريحاً في أكثر من موقف .. ومن ذلك كله .. تعرف إلى أي حد أثر به نهج البلاغة .. بحيث صار جزءاً من تركيبته ووجوده.

دعني أضرب لك مثالين سريعين:

المثال الاول:

هذه الرواية المختصرة عن الإمام : (( لَا تُفْسِدْ مَا يَعْنِيكَ صَلَاحُهُ ))

تعني أن عليك تحديد خارطة علاقاتك قبل أن تقوم بأي ردة فعل

إذا كان هناك شخصية أو مجموعة يهمك أمرها وترغب بإصلاح وضعها

فإياك أن تكسرها علانية وتقطع عليها طريق العودة .. ربما لا يثمر صبرك ولا تعود لرشدها .. لكن على الأقل .. إعمل بوصية الإمام واحصل على نتائج ولو جزئية.

فالمرجع الأعلى للطائفة أكثر الناس حرصاً على صلاح أبناء الطائفة .. واستصلاح خصوم الطائفة حفظاً للطائفة.

لذا تجده مهما تكاثرت عليه السهام .. لا يكسر المقابل مادام هناك أمل ولو قليل أن يستصلحه .. ولا تجده يكسر وينهر ويزجر .. إلا من أيقن أن حبال العلاقة معه قطعت إلى الأبد .. ولم يعد أمره يعني السيستاني.

في يوم من سنة 2018 تشرفت بالحديث مع سماحة السيد أحمد الصافي دام عزه بعد نهاية درسه في مكتب الشيخ الفياض دام ظله، وكنت منفعلاً من بعض المقالات الكاذبة التي يطلقها المدعو سليم الحسني وكانت كالعادة .. تستبطن الإساءة إلى مكتب سماحة السيد دام ظله .. وولده السيد محمد رضا دامت بركاته.. ووكيليه الصافي والكربلائي.

وقلت للسيد إن جيلاً كاملاً قد يكبر على الكذب إن لم يسمع للصدق رواية أخرى .. فلماذا السكوت ؟

وذكر لي السيد عدة مبررات حتى أقنعني وسكنت نفسي .. وكان من ضمن ما ذكره قوله :

( إن منهج سماحة السيد دام ظله، هو توقع الكثير من القيل والقال في هذه الظروف المعقدة والمتداخلة، لذا من الطبيعي أن تصدر إساءة من هنا أو هناك لأشخاص مشتبهين أو مغرر بهم أو يحملون الكراهية .. وبكل الأحوال لو رد السيد على هؤلاء وكسرهم أمام الجميع وقطع عليهم طريق التراجع عن كلامهم .. فقد حكم عليهم بالبقاء خصوماً للمرجعية إلى الأبد .. بينما هو يتوقع أن بعضهم على الأقل .. قد يعود إلى رشده عندما تهدأ النفوس وتتضح الحقائق)

أليس هذا تجسيداً لقول أمير المؤمنين عليه السلام  (( لَا تُفْسِدْ مَا يَعْنِيكَ صَلَاحُهُ ))

أليس هذا حجة على بعض الخبثاء من المدونين (من كل الأطراف) الذين يدفعون شباب الشيعة إلى جرح بعضهم وتحطيم العلاقة بينهم وكأنهم سيبقون أعداء للأبد؟

وقد شهدت خلال هذه الفترة عودة الكثير منهم .. ولعلك أيها القارئ تعرف بعضهم ايضاً.

المثال الثاني :

قال الإمام عليه السلام : (( تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير))

بمعنى أن هناك الكثير من المشاكل والمهام .. يجب تركها للزمن ومقاديره وظروفه .. فهو الكفيل بحلها وتذليل صعوبتها .. إلى درجة أن المبادرة لحلها وهي في قوتها قد تأتي بنتائج عكسية .. وتكون حتفاً وهلاكاً لمن يدبر هذا الحل.

ومن الواضح عندك وأنت القارئ العاقل الحصيف ..

أن هذا لا يعني ترك كل شيء للزمن والتقاعس عن القيام بالمسؤولية .. بل إن بعض الأمور لا تحتمل التأخير لساعات ولابد من حسمها باسرع وقت .. مثل فتوى الدفاع الكفائي .. التي قال عنها سماحة السيد دام ظله أكثر من مرة ( لو تأخرت لساعات لسقطت بغداد ولما أمكن بعدها تدارك الأمر)

ولكن الحديث الشريف يتكلم عن ظواهر وحالات تكون بطبيعتها من النوع الذي إن تركته للزمن .. فإنه سيختفي ويتلاشى .. ولا مبرر له للبقاء والاستمرار إلا بمعارضته (وقوده غضب خصومه).

وفي هذا الباب لدي الكثير جداً من الشواهد أعجز عن كتابتها .. لأننا نحن الجيل العشريني الذي تلقى أول صدمة من التغيير وما رافقها من أمور عجيبة وغريبة .. فعندما سقط نظام صدام وكنا شباباً في فورة الانفعال .. ونريد أن يتم تصحيح كل شيء بفتوى أو بيان .. كنا كل يوم نذهب ونتساءل ونقول لماذا لا يوقف السيد هذه الظاهرة .. ولماذا لا يصرح حول تلك الحالة..!

وفي أكثر من مرة كنت أسمع جواب بعض أركان مكتبه الشريف وهم يقولون : الخطر ليس من هنا .. إنه قادم من مكان آخر.

واليوم بعد ربع قرن من التجربة .. استذكر الأحداث التي ثارت ثائرتنا لأجلها وشغلت كل وقتنا .. كيف تلاشت واختفت .. والأحداث التي صعدت وأصبحت أمراً واقعاً يشكل خطراً .. كيف نشأت من العدم .. في وقت لم نكن منتبهين أو مستعدين لها .. وكنا مشغولين بغيرها.

هذه كلمات أحببت مشاركتكم بها حول رؤيتي .. لمن صنع السيستاني.