هل نجح صاحب الفتوى في إدارة المعركة؟

القائد المحنك، أو التاريخي، ليس هو القائد الذي يحسن إصدار الاوامر فقط، ثم يجلس لينتظر النتائج والصدف، القائد التاريخي، هو الذي يتابع القرار يرعى الانتصار كما يرعى الأب ولده الصغير حتى يكبر، ويشتد، ويكون قادراً على البقاء.

فهل اكتفى السيد السيستاني بمجرد فتوى أصدرها ثم بقي جليس داره، أم نهض بكل أعبائها وتبعاتها الثقيلة، التي عجزت عن حملها حتى الحكومة (رغم الجهود المشكورة للكثيرين)، فكان الشيخ المسن نزيل بيت الايجار، يعمل بقوة دولة!!

ولكيلا نطيل التوصيف العام، دعونا ندخل في عشرة تفاصيل تخص إدارة الصراعات، ونقرأ: كيف يكون القائد ناجحاً من خلالها، وهل للسيستاني باع وخبرة في قيادة العمل الجهادي، وهل تبين أنه كان (مفاجأة) لكل من درسه بشكل منقوص، وراهن على التنبؤ بقراراته وتفسير نمطيته؟!!

1- وضوح الرؤية:

 في زمن التحولات المتسارعة والمفاجآت، قد تفشل أقوى أجهزة المخابرات في التنبؤ بما ستؤول إليه الأحداث وقد تحتاج بعض الوقت لتفسير ودراسة ما يجري قبل أن تتخذ القرار المناسب. وتضم حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي أرشيفاً ضخماً من هذه القصص والتجارب.

 ولكن اللافت هو سرعة ودقة توقيت السيستاني وحزمه في إصدار فتواه، رغم أنه لم يكن سهلاً بالمرة لأن رجلاً قضى عمره في الزهد والتنسك ورفض أدنى مظاهر العنف وكان من حقه أن يقلق أو يتردد في إصدار فتواه ويحسب كل احتمالات التدخل الخارجي أو الانزلاق الى حرب أهلية او تحشيد طائفي أو فوضى سلاح مدمرة، ولكنه تصرف كمن يقرأ الأحداث بكل تفاصيلها براحة كفه، بدون أن يقع تحت تأثير الصدمة، أو يفقد قدرته على التركيز، وما أظهره الرجل من قدرة على التحكم برغم الجو الملتهب حينها سيضل موضع تعجب وإعجاب.

٢- التعبئة المعنوية:

 مصطلح (القائد الملهم) الذي يلهب صدور الجماهير بالحماس، يفترض ان يتجسد في قائد يقف على منصات الخطابة ويرفع صوته عالياً بالخطب الحماسية، على الأقل هذا ما عرفناه عن فيدل كاسترو أو حسن نصر الله او نيلسون منديلا أو غيرهم من القادة التحرريين، ولكن بالنسبة لرجل كالسيستاني اختار إطفاء أضواء الكاميرات من حوله واعتزال المنصات الحماسية حتى في أوج فورة الناس الملبية لندائه، وقرر المشي بكل هدوء في طريق مختلف لا يرتكز على ضجيج الإعلام في تضخيم إنجازاته أو ترجمتها للناس، فكيف له تعبئة جنود الفتوى بالحماس وهو يعيش هذه القطيعة مع الإعلام؟!!

 لقد أعتمد أسلوب المواقف العاطفية التي تخرج كقصص يومية من غرفته الصغيرة الى قلوب محبيه على السواتر من دون أن تتصدر نشرات الأخبار، بل ينقلها المجاهدون أنفسهم وعوائل الشهداء بدموعهم الصادقة، يقوم رغم ضعفه لشيخ مجاهد دخل عليه ببدلته العسكرية ويقول له شكر الله سعيك يا شيخ، يخاطب مجاهداً قطعت يده ويقول له: يدك سبقتك الى الجنة، أو يغمر العوائل بعطفه ويواسيهم بأن أولادهم مع أنصار الحسين عليه السلام، او يرسل السلام تلو السلام الى جنوده الأوفياء وهم يستقبلون سلامه بالدموع الحارة، أو يكتب لهم مشاعره الصادقة ليسمعوها عبر منبر الجمعة في الصحن الحسيني وهو يناديهم (يامن ليس لنا ما نفتخر به غيركم،. يا ليتنا كنا معكم، فسلام عليكم من شعب اذهل العالم) الى آخرها من النداءات الابوية.

٣- الأمن المعلوماتي:

في الوقت الذي يعتبر نصف النجاح في الحرب مرهون بمدى قدرتك على التنبؤ بحركة العدو، فإن النصف الآخر من النجاح مرهون بقدرتك على إيهام العدو وتشويش الصورة لديه حول قراراتك ونواياك وطريقتك تفكيرك.

فالنجاح يقاس بمنعك العدو من قراءة خطواتك، كما يقاس بقدرتك على قراءة خطوات العدو.

وربما لن نجد شخصاً فاق جميع التوقعات في هذا الأمر كما عليه مرجع النجف!!

لمرتين متتاليتين، 2003 / 2014 عجزت الدولة العظمى أمريكا عن التنبؤ بموقف هذا الشيخ الكبير المسالم، الذي لا يتدخل بالسياسة ولا يميل للعنف، وليس طرفاً في أي صراع إقليمي، وكان المقدر له أن يستسلم للأمر الواقع عند دخول داعش ويستغيث بالأمم المتحدة و (بان كي مون) لإنقاذ العراق، وعندما يبدأ بان كي مون بالقلق، سيكون العراق في خبر كان، ولا يبقى أي أمل لنجاة العراقيين سوى بعودة أمريكا الى العراق، بعنوان التحالف الدولي ولكن الأمن المعلوماتي الذي يوفره السيستاني لنفسه، ولا يتكلم كثيراً ويكشف عن دواخل تفكيره، جعل رياح الفتوى تأخذ السفينة الى اتجاه آخر، هذا بالرغم من الضغط الشديد الذي تحمله ممن يريدون مواقف انفعالية وتصريحات ساخنة تنفس عن معاناة العراقيين.

وهذا التقييم ليس مبنياً على مبالغة أو إفراط في تقدير حكمة الرجل، يكفي فقط أن تسترجع أرشيف التصريحات الأمريكية، من الرئيس، الى وزير الدفاع، الى رئيس هيئة الأركان المشتركة، وتلاحظ حجم التخبط والتناقض في تصريحاتهم حول هذه الفتوى، لتعرف هل كانت في حساباتهم أم لا.

٤ - التراصف الاجتماعي:

 حجر الزاوية، في كل حرب لها طابع شعبي وقوامها أفراد المجتمع، هو السلم الاجتماعي والتراصف، الذي أشار اليه القرآن الكريم كشرط قبل أن يكون وصفاً (صفاً كأنهم بنيان مرصوص).

 وسيذكر التاريخ، أن هذا الرجل تحمل من الضغوط والألم، مالم يتحمله أحد في هذه المرحلة الحرجة، ولكنه تجاوز كل ذلك بهدوء وصبر مر، فقط للحفاظ على النسيج الاجتماعي ولتعبر سفينة المجتمع المسكين بدون المزيد من الاحتقان والتشرذم.

وخير لي أن ألوي عنان القلم عن هذا المقام، وأترك الحديث عن مواقف الكثيرين ممن استغلوا موقعه الابوي وسكوته عن التجاوزات رعاية للمصلحة العامة، لتتطاول ألسنتهم بالتهريج والتسقيط الإعلامي، فلم يحفظوا مقامه، ولم يوقروا شيبته، ولم يقدروا انشغاله بهموم الدفاع عن اعراضهم ومقدساتهم.

 وإذا كان الدفاع عن الحقيقة قد ألجأ المرجعية لإسكات بعض الأبواق وتشخيص مستواهم بأنه (الكذب المحض) فلازال هناك الكثيرون، مما لا يرعون الله فيما يقولون ويفعلون، على حساب ذلك السلم الاجتماعي الذي لازال السيستاني مصمماً على حمايته.

٥- الدعم اللوجستي:

الحرب تحرق الأموال كما تحرق العتاد، وتنهك اقتصاد البلدان ومجتمعاتها، ولكن ذلك لم يثن مرجع النجف عن الإدارة والتخطيط الناجح لمتطلبات المعركة، بمعونة الاهالي والخيرين، الذين لهم مواقف مشرفة في هذا المجال.

 وإذا كانت طريقة هذا الجهاز المرجعي هي العمل في الظل كما ذكرنا، فبالتأكيد أنك لم تسمع عن أي من غرف العمليات المتمثلة بطلاب العلوم الدينية، والمواكب الحسينية التي تدير الدعم اللوجستي للمقاتلين، وترعى احتياجاتهم بدعم مباشر من المرجعية، وصل في ليلة عصيبة، الى حد شراء بعض القطع الاحتياطية للطائرات التي كانت خارج المعركة في وقت الحاجة لها، عندما لم يكن هناك وقت لانتظار الحكومة!!

٦- الغطاء السياسي:

كان العراق على حافة الهاوية، وكاد أن يكون مستباحاً للكل، بحجة دخول داعش، والقراءة السياسية كانت تقول بأن كل الاحتمالات مفتوحة، مما يعني ان تحركاً شعبيا مسلحاً يحمل غالبية شيعية باتجاه مناطق السنة، وبفتوى ودعم رسمي من المرجع الأعلى للطائفة، أقل ما يقال عنه انه كارثة، تكفي ليضج العالم، ويمضي مجلس الأمن في ساعات موقفاً مناهضاً لهذا التحرك.

 ولكن حكمة السيستاني وطريقة دعوته للناس، وارتكازه على تاريخه السلمي الطويل، ومجموعة خطوات وتعليمات ذكية رافقت إعلان الفتوى لأجل صيانتا من الترويج المضاد، هو ما أغلق أفواه الجميع، ومنع أي محاولة لتقديم صورة مغايرة عن الوضع في العراق.

 السيستاني لم يكن ليقدم خيرة الشباب من أتباعه المخلصين طعماً لحرب دولية تتصارع فيها المصالح الكبرى، ولم يكن ليسمح بأي تحرك يضع هذه الثلة من شباب العراق في ساحة صراع مكشوفه سياسياً ودولياً من دون أن يوفر هذا الغطاء السياسي الذي يحميهم من أي مواجهة عسكرية مع ماكنة الحرب العالمية.

٧- الغطاء الإعلامي:

 من الغريب أن تجد شخصاً يزهد كل هذا الزهد بالإعلام على المستوى الشخصي، ويحرص عليه أشد الحرص على المستوى الجماهيري.

وإذا كان للقائد كلمة مطاعة في أوساط المجتمع، فقد كرر في مرات كثيرة ومن خلال عدة مناسبات حرصه وتأكيده على التغطية الإعلامية السليمة للمعارك ليرى العالم مدى بطولة العراقيين، ومدى إنسانيتهم وأخلاقهم في الحرب، وفي سبيل ذلك لم يكن السيستاني وجهازه الحوزوي يفوت فرصة واحدة سواء في خطب الجمعة أو اللقاءات أو غيرها في حث الإعلام للنهوض بمسووليته.

نعم، نقطة مفارقة غريبة، أن تجد كل هذا الحرص على تشجيع الإعلام، من رجل لم يتكلم عبر التلفاز ولو لمرة واحدة في حياته.

8- الرعاية الأبوية:

 من العناصر البارزة في الدين الاسلامي ثقافة رعاية ايتام الشهداء وعوائلهم، والحروب التي خاضها الامام علي عليه السلام خلفت أفواجاً من الأيتام والأرامل في بيوت أصحابه، ويحدثنا التاريخ أن علياً ع كان لا يكتفي بالرعاية المادية لهؤلاء الأيتام بل يشملهم بالعطف الأبوي الذي فقدوه، وكانت دموعه الغزيرة تنزل عند رؤيتهم واحتضانهم، ويصبح ذلك البطل الأسطوري الذي كان يزلزل الميدان، كشمعة تكاد تذوب حزناً وعطفا.

 والسيستاني لم يكتف بمليارات الدنانير التي تنفقها مؤسساته ومعتمدو مكتبه على تلك العوائل، بل كان يشملهم بعطفه الأبوي بشكل منقطع النظير، وأكتفي هنا بنقل مقطوعة صغيرة عن حاله مع ايتام الشهداء كان يضع يده على رأس أحد الأيتام ويمسك بيده الأخرى يد اليتيم الاخر ويقول: أنتم أولادي، بل أنتم أعز من أولادي لا تشعروا بالانكسار لأنكم أصبحتم أيتام هل تعلمون يا أولادي ان المجرمين أرادوا هتك حرمات المقدسات والنساء ولكن الفحول مثل أبيكم منعوهم من ذلك ولم يخافوا من الموت أنتم اليوم أريدكم مثل أبيكم تنشغلون بالدراسة والمعرفة ولا تقضون وقتكم في أمور لا تنفعكم وليكن كلامكم قليل ولا تقولوا غير الصدق، إن شاء الله أبوكم مع الشهداء الصالحين وأنصار الحسين عليه السلام

وإن شاء الله أنا أدعو لكم دوماً، لا تقولو مات أبونا وتحزنون ولكن عليكم بالفخر والاعتزاز أن أبوكم ومن مثله حموا مقدساتكم وبلادكم، عليكم بالاهتمام بمستقبلكم، ونحن هنا بخدمتكم في كل ما تحتاجونه، وفقكم الله يا أولادي بتاريخ ٢٦ / ٧ / ٢٠١٥

٩- المدد الغيبي:

عندما نتكلم عن صنف خاص من القادة وهم (القادة الإلهيون) فإن فرقهم عن سواهم هو أنهم بالإضافة الى كل التدابير العسكرية والأمنية وغيرها، يبقى اهم عنصر لديهم هو الاعتماد على الله تعالى.

وطبيعة التربية الدينية لهؤلاء القادة وما عرفوه من وعد الله بالنصر (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) تجعل من الجانب الغيبي مهماً عندهم الى حد كبير.

 ولذا فمن المعروف ان السيستاني رجل الزهد والعبادة، كثير التوسل والدعاء، وأنه يرسل مع كل سلام للمجاهدين كلمة لتكون درساً لهم بأنه يدعو لهم ليلاً نهاراً بالنصر والظفر ويخصص ساعة بعد صلاة الفجر فقط للدعاء للمجاهدين والشعب العراقي.

 ومن المعروف أنه أحد علماء الحوزة سأله: سيدنا كيف لك أن تتحمل هذه المشاكل والهموم والتحديات كلها، فأجابه: إذا اشتدت الأزمات وشعرت بحاجتي للعون من الله أخذت سجادتي وصعدت للسطح للتوسل والدعاء بجاه جدتي الزهراء عليها السلام.

 بعد ذلك فليس من المستغرب ما تناقله المقربون أنه يقول: هذه الفتوى الكفائية لم تصدر مني بل من جهة أعلى مشيراً الى حرم أمير المؤمنين عليه السلام، بمعنى أن المدد الإلهي والغيبي حاضر في هذه المعركة، فالناس بحاجة لسماع هذا الكلام لتعرف أن يد الله معها، ومثل السيستاني لا يحرمهم من الزخم المعنوي.

١٠- صيانة التاريخ:

ليست المرة الاولى، ولن تكون الأخيرة، التي يتعرض فيها تاريخ الحروب والمواجهات الى التزييف والتلاعب، وتحاول كل جهة صبغ الواقع بالصبغة التي تناسبها، ولذلك فأشد المغبونين تاريخياً في هذه الحالة، من بذل الحصة الأكبر من التضحية، ونال السهم الأقل من تبجيل التاريخ، لأن المشغول بالحرب لا وقت لديه للحديث، والمتحدث لا إنصاف لديه ليعترف بأفضلية غيره، ويبدو أن المثال الابرز لهذا الأمر هو علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم شيعته من بعده.

 والسيستاني الحريص على تضحيات شعبه وأتباعه، ويريد لها أن تكون مدرسة للجيل القادم، متصلة بمدرسة كربلاء، حريص، بل مصمم على عدم السماح لأصابع التلاعب ان تنال من حقيقة ما جرى في العام 2014، وقد بدأت مرحلة التوثيق التي لازال مرجع النجف ينادي في كل مناسبة بضرورة انخراط الجميع فيها جرداً وعداً وتثبيتا.

 وكعادته، لا يهتم بالأمور الشخصية، وليس من المهم لديه الدخول في نزاع إعلامي ليخرس من يقول (انا أول من أسست الحشد الشعبي) فهذه الأمور خارج حساباته، ولكن المهم لديه هو تضحيات وآلام هذا الشعب العاشق للفداء، وحفظ ذكريات الفخر، وماذا قدم المتطوعون.

وأيضا كعادته، لا ينتظر الحكومة الضعيفة لتنهض بالأمور المصيرية، فينهض هو بها بقدر طاقته، وقد باشر جهازه المرجعي الممتد على مدى العراق، بأول هذه الخطوات.

ختاماً: ليس السيستاني أول مرجع ديني يخوض نوعين من الصراع (السلمي ثم الجهادي) فالعلماء من الشيرازي الى الآخوند الخراساني الى اليزدي الى الحكيم وصولا للخميني والخوئي، كلهم قارعوا أنواع المخاطر، ولكن يبقى تعقيد المشهد الذي خاضه السيستاني، وتداخل صراعات العالم في محور المنطقة، وما أبداه رجل العراق من كياسة في أحلك الظروف، هو الاستثناء.