منبر الجمعة: ما هي أسباب تدني مستوى التعليم في العراق؟

أيّها الإخوة والأخوات موضوعُنا في الخطبة الثانية هو عن التدنّي والانخفاض في مستوى التعليم في العراق، ما هي أسبابه؟ وما هو العلاجُ المُمكن لهذه الظاهرة؟، أيّها الإخوة والأخوات لعلّكم اطّلعتم من خلال وسائل الإعلام على ما تناقلته وما أعلنته وزارةُ التربية من معدّلات النجاح في الصفوف المتوسّطة في الامتحانات الوزاريّة للصف الثالث المتوسّط، وممّا أعلنته بأنّ نسبة النجاح هي أربعةٌ وثلاثون وسبعة عشر بالمائة، وبملاحظة نسب النجاح الأخرى المنخفضة في مراحل تعليميّة أخرى في التعليم في العراق، يُمكن أن تكشف هذه الأرقام عن تدنّي وانخفاض -على مستوى العموم والإجمال- بنسب النجاح في العراق، وهذه ظاهرةٌ مؤلمة تدعو الى القلق والسرعة لتشخيص الأسباب ووضع العلاجات المناسبة لها، نعم.. نحن لا ننكر ولا نتجاهل أنّ هناك نسباً من النجاح العالية لبعض الطلبة الذين حقّقوا معدّلات عالية -جزاهم الله تعالى خيراً-، ولكن بملاحظة على نحو العموم والإجمال لهذه المرحلة الوزاريّة في الصفّ الثالث والنسبة التي أُعلنت، وأيضاً النسبة لعددٍ من المراحل يكشف ذلك عن ظاهرة خطيرة في المجال التعليميّ، وهو انخفاض وتدنّي في مستوى التعليم.

إخواني نلتفت لماذا هذه الظاهرة تُقلق، أوّلاً إذا لاحظنا الطلبة في هذه المراحل هم يمثّلون القاعدة الطلّابية المستقبليّة للمرحلة الجامعيّة، وأيضاً يمثّلون القاعدة للكوادر التعليميّة والوظيفيّة التي تتصدّى للمسؤوليّات في مستقبل البلد، فهم بعد سنين سيصلون الى الجامعات وبعد الجامعات سيكونون في الوظائف المهمّة والكثيرة والمتشعّبة في مؤسّسات الدولة، وبالتالي هذا الانخفاض قد يؤشّر انخفاضاً في العطاء والأداء مستقبلاً هذا أوّلاً.

الشيء الثاني أنّ هذا الانخفاض له انعكاسات نفسيّة سلبيّة على الطلبة وعلى أولياء الأمور وعلى الكوادر التعليميّة وعلى مؤسّسات الدولة وعلى الوضع النفسيّ العامّ للبلد، لماذا؟ لأنّه سيولّد حالةً من الإحباط النفسيّ، وضعفَ الثقة بالنفس، وضعفَ الثقة بالقدرة التعليميّة والتدريسيّة والتربويّة في العراق على النهوض بهذا الجيل، لكي يكون هناك تطوّر وازدهار في البلد، هذه الحالة النفسيّة التي تحصل ستُنذر بمزيدٍ من الانحدار والتدنّي مستقبلاً ممّا يهدّد موقع العراق التعليميّ والتربويّ الإقليميّ والدوليّ، وحتّى يؤثّر على مستقبل العراق حضاريّاً وفي مجالات الحياة المختلفة، لذلك من هنا إخواني لابُدّ أن يكون هناك اهتمامٌ وعناية كافية توازي هذا التدنّي والانخفاض في مستوى التعليم ووَضْع العلاج السريع، وهنا قبل أن نذكر الأسباب إخواني ونذكر ما هي العلاجات، نقول: مَنْ يتحمّل المسؤوليّة في ذلك؟ نحن هنا لابُدّ أن نشخّص بالنسبة الى العمليّة التربويّة هي منظومة متكاملة، مرتبطٌ بعضها بالبعض الآخر ارتباطاً وثيقاً، العمليّة التعليميّة نتاجُ منظومة وسأبيّن ماهي عناصر هذه المنظومة التي هي نتاج منظومةٍ متكاملة ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، هذه المنظومة بعناصرها المتعدّدة إن فشلت فشلت العمليّة التعليميّة وإن نجحت بتمامها نجحت العمليّة التربويّة.

نبتدئ أوّلاً بهذه المقوّمات الثلاثة، الأفراد (الطالب، الكوادر التعليميّة، كوادر إدارات المدارس، كوادر المؤسّسات التربويّة) هذا أوّلاً، ثانياً المؤسّسات التعليميّة (الأسرة -أوّل شيء كأسرة- دعنا عن أولياء الأمور كأسرة، كإدارة مدرسة، كإدارة مديريّة تربية، كإدارة وزارة التربية، السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة التي تتعلّق مهامّها ووظائفها بالعمليّة التربويّة)، ثالثاً المنهج التعليميّ الذي يُتّبع وله مواصفات خاصّة، هذه المقوّمات الثلاثة عبارة عن منظومة مترابطة بعضها ببعض، أيّ فشلٍ أو إخفاق في واحدٍ من هذه المقوّمات يؤدّي الى الفشل في العمليّة التعليميّة.

نأتي الآن -إخواني- الى ذكر بعض الأسباب التي ذُكرت في هذا المجال ونبيّنها، من الأسباب التي ذُكرت وتحتاج الى العلاج هو عدم تطوّر القدرة التعليميّة للكوادر التعليميّة والتدريسيّة أي أنّها بقيت جامدة على حالها، قدرة المعلّم وقدرة المدرّس في أن يوصل المادّة العلميّة الى ذهن الطالب، والطلبة مختلفون في مستوياتهم الذهنيّة والعقليّة وفي الأجواء الاجتماعيّة التي يعيشونها، قدرة هذه الكوادر لم تتطوّر ولم ترتقِ، الكثير من دول العالم طوّرت من القدرات التعليميّة لمعلّميها ومدرّسيها بحيث استطاعوا أن ينهضوا بالمناهج التعليميّة الجديدة، نحن لم تتطوّر لدينا هذه القدرات التعليميّة، المعلّم بحاجة الى دوراتٍ لتطوير هذه القدرة حتّى يستطيع أن يوصل المادّة العلميّة الى الطلبة، وإلّا إذا بقي الوضعُ على هذا الحال لا يُمكن أن ترتقي العمليّة التربويّة والتعليميّة.

الأمر الثاني هو عدم استقرار المناهج الدراسيّة والتغيير المستمرّ لها، بل صعوبة بعض هذه المناهج للطالب، نحن مع تطوير المناهج التعليميّة ولكن لابُدّ أن يُلاحظ فيها أنّ هذا المنهج التعليميّ للصفّ الكذائي يُناسب المستوى الذهنيّ والعقليّ للطالب، ثانياً لابُدّ أن تُهيَّأ المستلزمات حتّى يستطيع الطالب أن يستوعب هذا المنهج الدراسيّ الجديد، وإلّا فإنّ هذا التغيير المستمرّ من دون أن يتناسب مع قدرات المعلّمين والمدرّسين قد لا يستطيع المعلّم والمدرّس أن يوصل هذا المنهج الدراسيّ الجديد الى ذهن الطالب، وبالتالي تحصل الكثير من الإخفاقات، من هنا لابُدّ أن تكون هناك كوادر تدرس قدرات الطالب في المرحلة والأوضاع التي يعيشها الطالب، ثمّ تضع المناهج التعليميّة التي تُناسب مستويات الطلبة.

أيضاً من الأمور الأخرى المهمّة هي الأساليب التعليميّة المتّبعة والوسائل المتّبعة، أيّها الإخوة والأخوات ما زلنا نتّبع أسلوب التلقين، والطالب تعوّد على ما يُعرف بـ(الدرخ) للمادّة العلميّة، الآن في واقع الدول المتطوّرة هناك أسلوب التحفيز الذهنيّ أو ما يسمّيه أهل الاختصاص (العصف الذهنيّ)، هذا الأسلوب أيضاً يُتّبع في الدراسة الحوزويّة، كيف نعوّد الطالب على أن يستخدم عقله وقدرته الفكريّة في أن يفكّر وأن يحلّل وأن يستنتج، هذه مسألةٌ مهمّة، نستطيع أن نصنع طالباً ناجحاً إذا ابتعدنا عن هذا الأسلوب التقليديّ في أن نلقّن الطالب المادّة العلميّة دون أن نعطيه القدرة على أن يفكّر من ذاته في المادة العلميّة، فيحلّلها ويستنتج من هذا التحليل المعلومات المطلوبة للوصول الى النتائج.. هذا في الواقع الإخوة الكثيرون الآن المطّلعون يعرفون أنّ الكثير من دول العالم التي تطوّرت وارتقت، لأنّ أسلوب التعليم تغيّر لديهم إضافةً الى الوسائل، ونحن ما زلنا في هذه الوسائل التقليديّة المتعارفة.. مع أنّ هناك وسائل حديثة تسهّل على الطالب الوصول الى فهم المادّة العلميّة.

من الأمور المهمّة أيضاً هي مسألة عدم احترام الكوادر التعليميّة والتدريسيّة وانتهاك حرمة التعليم من قِبل بعض الشرائح.. إخواني نلتفت الى هذه القضيّة، فهي لا تعني فقط المؤسّسات التعليميّة بل تعنينا نحن جميعاً، لاحظوا إخواني نحن جميعنا كنّا طلبة، سابقاً كنّا نحترم المعلّم والمدرّس والأستاذ لذاته.. سواءً كان غنيّاً أو فقيراً.. لديه وجاهة اجتماعيّة أو لا يملك وجاهة اجتماعيّة.. لكونه معلّماً نحترم العلم.. ونقدّس العلم.. هذا المعلّم والمدرّس والأستاذ نحترمه مع قطع النظر عن هذه الأمور العارضة، الآن في كثيرٍ من الأحيان ربّما من قبل بعض الطلبة أو المجتمع -بعض فئات المجتمع- ليس هناك احترام وتقديس للمعلّم لذاته، قد يُحترم المعلّم والمدرّس لأمورٍ تتعلّق بمستواه المعيشيّ والاجتماعيّ والغنى وغيرها من الأمور، يُحترم من أجل ذلك، وقد يمتازُ معلّم بقدراته لكنّه لا يُحترم لكونه فقيراً وليست له وجاهة ومكانة ومنزلة، سابقاً لم يكن الأمر كذلك.. نحن أيّها الإخوة والأخوات بحاجة الى أن نشعر بقيمة العلم في حياتنا ونحترم المعلّم والمدرّس، حتّى وصل الأمر أن يُعتدى على المعلّم والمدرّس والكادر التعليميّ في داخل المدرسة لأسبابٍ غير مقبولة.. لذلك إخواني هذا الى ماذا سيؤدّي؟!! سيؤدّي الى أنّ المعلّم والمدرّس لا يشعر بقيمة العلم ولا يشعر بقيمة القضيّة التعليميّة والمهنة التعليميّة، فيصبح لا يحترم العلم ولا يكترث للقضيّة التعليميّة، لذلك هذه تُعدّ من الأسباب والأمور التي نحتاج نحن كمجتمع أن نتحرّك من أجل أن نُعطي للعمليّة التعليميّة وللمعلّم احترامه، حتّى هو يهتمّ بهذه العمليّة.

أيضاً من الأمور المهمّة هي قلّة الأبنية المدرسيّة واكتظاظ المدارس بالطلبة، وسبق أن تحدّثنا عن ذلك حتّى أنّ بعض المدارس دوامها ثلاثيّ يصل دوام الطالب فيها الى ساعتين أو ساعتين ونصف، كما أنّ بعض الأبنية المدرسيّة الأجواء التي فيها لا تتناسب مع الأجواء الصحيّة والطبيعيّة المطلوبة، من أجل أن يتعلّم الطالب ويصل الى المستوى التعليميّ المطلوب، لذلك فالمأمول من المسؤولين المعنيّين أن يعطوا اهتماماً وتخصيصاتٍ ماليّة الى هذه الأبنية، لكي تكون هناك كفاية في الأبنية والأجواء الصالحة المطلوبة، من أجل أن يستطيع الطالب أن يصل الى المستويات المطلوبة.

أيضاً هناك توجّه من قِبل الكثير من المعلّمين والمدرّسين نحو التعليم والتدريس الخصوصيّ، وهذه من المشاكل الخطيرة كثيراً طمعاً لتحصيل المزيد من المال وعلى حساب ما يُعطى للطالب من استحقاقه التعليميّ في المدرسة، هذا أيضاً أثّر على العمليّة التربويّة والتعليميّة، لذلك نوجّه خطابنا الى الإخوة المعنيّين في العمليّة التعليميّة أن يستشعروا أنّ العمليّة التعليميّة أمانةٌ إلهيّة في أعناقهم، وأنّ الطالب أمانةٌ إلهيّة في أعناقهم، أمانةٌ من أُسرهم والعلم أمانةٌ في رقابهم.. لابُدّ أن يُعطوا للعلم وللطالب والتعليم حقّه.

من الأسباب الأخرى -إخواني- ما يتعلّق بالأسرة، لا نجد اهتماماً كافياً من أولياء الأمور بالمستوى الدراسيّ لأبنائهم، ولا يهتمّون بتحصينهم وحفظهم من الأمور التي تضرّ مستوياتهم الدراسيّة، ومن الأمور الشائعة في الوقت الحاضر التي لم تكن موجودة سابقاً هي كثرة انشغال الطلبة بالوسائل الإلكترونيّة الحديثة والألعاب التي قتلت وقتهم وطاقاتهم العقليّة والنفسيّة، نلتفت الى هذه القضيّة فنحن لسنا ضدّ هذه الوسائل بالعكس.. هذه الوسائل فيها الكثير من القابليّات والاستعدادات التي تنفع الإنسان لو أحسَنَ استخدامها، ولكن في نفس الوقت فيها الكثير من الأمور الجاذبة والمثيرة والمغرية والضارّة للطالب في عقله وتفكيره وعاداته وأخلاقه وسلوكه، إن لم يكن هناك تحصين لهذا الطالب فسوف يستنزف هذا الطالب الكثير من وقته وجهده وعقله وتفكيره في أمورٍ ضارّة ولا نفع لها.. من واجب الأسرة هنا أن تهذّب هذا الاستعمال وتعلّمه حسن الاستعمال، ومن المُمكن أن تُستعمل أيضاً في وسائل التعليم الحديثة.

الأمر الآخر أيّها الإخوة والأخوات الذي أثّر كثيراً هو الإحباط النفسيّ لدى كثيرٍ من الطلبة، في أنّه حينما يتخرّج وبعد جهد سنين طوال من التعب والسهر والتحصيل الدراسيّ، لا يجد فرصة عملٍ بعد أن يتخرّج من الجامعة تتناسب مع تعليمه الاختصاصيّ وما بذله من جهود، فهو مصيره إمّا الى البطالة والمشاكل الكثيرة التي تصاحبها أو مصيره الى مهنةٍ وضيعة تهدر كرامته وموقعه الاجتماعيّ.. ماذا سيُصبح من شعورٍ لدى الطالب؟ أنّه لا جدوى من الدراسة طالما أنّني في المستقبل حينما أتخرّج من الجامعة لا أجد فرصة عملٍ تتناسب مع جهدي العلميّ ومع اختصاصيّ العلميّ، وهذه النقطة صحيحة إخواني.

فالمأمول من الجهات المعنيّة وسبق أن خاطبنا الجهات المعنيّة.. من الضروريّ الاهتمام الكبير في المجال الصناعيّ وفي المجال الإنتاجيّ، إعطاء فرصة وافية وكافية للقطّاع الخاصّ لكي يُساهم في النهوض بالخدمات ويوفّر فرص عملٍ كبيرة لهؤلاء الخرّيجين، وأيضاً في نفس الوقت هو خطابٌ لكم -إخواني- علينا أن ننظر الى جنبة الشهادة الجامعيّة والدراسة بنظرين، نظر أنّه يوفّر لنا فرصة عمل جيّدة وتناسب الإنسان وتليق به، من الأمر المهمّ أن ننظر أنّ العلم بذاته ودراسة الطالب بذاتها وحصوله على العلم نورٌ في الطريق.. يوفّر له وسيلة تفكير في الحياة أفضل ويرتقي بأسلوب حياته، لذلك إخواني حثّوا أبناءكم على أن يواصلوا الدراسة ويجتهدوا في دراستهم، حتّى لو افترضنا أنّهم لم يحصلوا على فرصة عمل فهذه الشهادة وحدها تمثّل نوراً في الطريق ونوراً في الحياة، لابُد أن نعلّم أبناءنا قيمة هذا العلم الذي نحصل عليه.

الوصيّة الأخيرة التي أتقدّم بها الى أبنائنا الطلبة جميعاً بعد الذي ذكرناه، أنّ الأمل معقودٌ بكم يا أبناءنا الطلبة، أن تعطوا التعليم حقّه في الحياة فإنّكم أملنا ونظرتنا المستقبليّة، وقلوبنا جميعاً تتطلّع الى ذلك اليوم الذي نراكم فيه قد ارتقيتم مدارج العلم والتربية لتكونوا أملنا في التغيير الذي ننشده، فالله الله يا أبناءنا الطلبة في علمكم ومستقبلكم وبلدكم وأُسركم، عسى أن تقرّوا عيوننا بمستقبلٍ يداوي جراحنا ويرفع آلامنا ويُحقّق آمالنا.

نسأل الله التوفيق والسداد إنّه سميعٌ مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

*النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة (15 ذي ال قعدة1440هـ) الموافق لـ(19 تمّوز 2019م)، والتي أُقيمت في الصحن الحسينيّ الطاهر بإمامة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائيّ (دام عزّه)