المذهب الاقتصادي في الإسلام

آية الله السيد منير الخباز
زيارات:1737
مشاركة
A+ A A-

بسم الله الرحمن الرحيم

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)

 

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في ثلاثة محاور:

تعريف المذهب الاقتصادي الإسلامي.

قراءة الرؤية الكونية والاجتماعية للمذهب الاقتصادي الإسلامي.

معالم المذهب الاقتصادي في العهد العلوي.

المحور الأول: تعريف المذهب الاقتصادي الإسلامي.

هناك فرق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي:

علم الاقتصاد: علم نشأ منذ بداية العصر الرأسمالي أي منذ أربعة قرون تقريبا وهو علم يتكئ ويعتمد على علمي السياسة والتاريخ، وهو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وظواهرها وربطها بالعوامل المتحكمة فيها.

المذهب الاقتصادي: هو المنهج الذي يتخذه كل مجتمع لتنظيم حياته الاقتصادية ولحل المشكلات العملية.

كل مجتمع على الأرض يعيش اقتصاد لأن كل مجتمع على الأرض يعيش إنتاج وتوزيع، إذن هو محتاج إلى طريقة ومنهج ينظم به حياته الاقتصادية ويقوم على أساسه بحل مشاكله العملية، ولكننا عندما نريد أن ندرس أي مذهب اقتصادي لابد أن ندرس الرصيد الفكري وراء هذا المذهب، كل مذهب اقتصادي يعتمد على رصيد فكري خلفه، هو الذي أنتج هذا المذهب الاقتصادي، قد يكون الرصيد الفكري تاريخيا، وقد يكون فلسفيا، وقد يكون قيميا، بالنتيجة وراء المذهب الاقتصادي رصيد فكري أنتجه وأمده.

عندما نريد أن نقارن بين المذهب الاقتصادي الرأسمالي والمذهب الاقتصادي الإسلامي فإن المذهب الاقتصادي الرأسمالي يتيح للإنسان الفائدة الربوية، من حق الإنسان أن ينمي أمواله عن طريق الفائدة الربوية، بينما المذهب الاقتصادي الإسلامي يمنع التنمية عبر الفائدة، لأن هناك اختلاف بين الرصيدين الفكريين لكل من المذهبين، المذهب الاقتصادي الرأسمالي رصيده الفكري يرى أن المركزية والمحورية في الحياة الاجتماعية للإنسان، وبما أن المركزية والمحورية للإنسان إذن باب الحرية مفتوح للإنسان، ومن حرية الإنسان حريته في تنمية ثرواته فبإمكانه أن ينمي ثرواته عبر الفوائد الربوية، هذا من متفرعات حريته، وحريته مما يتفرع على محوريته ومركزيته، بينما المذهب الاقتصادي الإسلامي لايرى المحورية للإنسان، المحورية في الحياة لخالق الإنسان، والإنسان مجرد خليفة ونائب (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) والخليفة يسير على ضوء قوانين المستخلف، ومن قوانين المستخلف (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) أن الثروة لاتقتنص إلا بعمل وهذا قانون في المذهب الاقتصادي الإسلامي، هذا القانون ناشئ عن نفس الرؤية، لايمكن تحصيل الثروة إلا بعمل، إما بعمل مباشر وإما بعمل مختزن، فمثلا لو استأجرت سائق للسيارة تعطيه أجرة، جزء من الثروة لأنه قام بعمل، وهذا عمل مباشر، وفي حالة أخرى هو يعطيك سيارته يقول لك استأجر سيارتي، هو أعطاك عمل لكن عمل مختزن ضمن الطاقة، طاقة السيارة، فإما أن يكون العمل مباشر كأن يكون هو سائق أو عمل مختزن كأن يسلمك السيارة باعتبار أن السيارة عمل مختزن، الأجر والثروة تقتنص عن طريق عمل إما مباشر أو مختزن.

إذن كسب الفائدة الربوية تحصيل للثروة من دون عمل، لاعمل مباشر ولا عمل مختزن لذلك منع المذهب الاقتصادي الإسلامي منها وإن فتح الباب المذهب الاقتصادي الرأسمالي لاختلاف الرؤيتين بمعنى اختلاف الرصيد الفكري بين هاذين المذهبين.

بعض الفقهاء يجوز هذا، لو فرضنا أن البنك يقرضك 100 ألف دولار لمدى خمس سنوات، سعر الدولار اليوم يساوي 3.75 ريال وبعد خمس سنوات ينخفض هذا السعر يصبح 3.5 فالمقرض سيخسر لأنك ستعيد إليه 100 ألف دولار ولكن ستعيد دولارا بقيمة أقل من قيمته حين أقرضك، هنا بعض الفقهاء يجوز شرط التدارك، لايكون هذا فائدة بل يكون تدارك للخسارة وليس فائدة ربوية، يعطيك 100 ألف يشترط عليك فارق قيمة الدولار حين تسليمه إليه هذا اشتراط لتدارك الخسارة وليس اشتراطا لفائدة ربوية.

المذهب الاقتصادي الإسلامي هو المنهج الذي وضعه الإسلام لتنظيم الحياة الاقتصادية وحل مشاكلها العملية استنادا إلى الرصيد الفكري الديني، سواء كان رصيدا قيميا أو رصيدا مفاهميا كمفهوم الإسلام عن الإنسان والحياة والكون، أو رصيدا تحليليا لحركة التاريخ.

المحور الثاني: قراءة الرؤية الكونية والاجتماعية للمذهب الاقتصادي الإسلامي.

نلخص هنا في بنود أربعة لهذه الرؤية الكونية:

البند الأول: عندما نتأمل في هذه الآية المباركة: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) نستنتج منها أن إنسانية الإنسان مرتبطة بالطبيعة، بمعنى أن هذا المخلوق لو عاش في طبيعة أخرى لن يصبح إنسانا، الإنسان مستخلص من هذه الطبيعة،

لولا مجيئه من هذه الطبيعة لما صار إنسانا، (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) بما أن إنسانية الإنسان تعتمد على الطبيعة في ابتدائها إذن لابد أن تعتمد على الطبيعة في كمالها، كما أن مبدأ إنسانية الإنسان جاء من الطبيعة فكمال إنسانية الإنسان بإعمار الطبيعة، إذا لم يعمر الطبيعة ولم ينتج فليست له إنسانية كاملة، إنسانيته جاءت من الطبيعة وكمال إنسانيته بإعمار الطبيعة (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) بدون إنتاج لايعتبر إنسان متكامل، ”قيمة كل امرء مايحسنه“.

البند الثاني: لايمكن أن يعمر الإنسان الطبيعة بدون نظام، يحتاج إلى نظام يحفظ استقرار الحياة الاجتماعية، لولا استقرار الحياة الاجتماعية ووجود حاضنة آمنة مااستطاع الإنسان أن ينتج، مااستطاع أن يعمر الأرض، إعمار الأرض يحتاج إلى نظام يحفظ استقرار الحياة الاجتماعية ويحفظ الأمن حتى يكون هناك مجال للإنتاج والإبداع والعطاء، القرآن الكريم يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) الله يريد حفظ الحياة الاجتماعية.

البند الثالث: ركائز حفظ النظام

الركيزة الأولى: كرامة الإنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) لولا كرامة الإنسان مااستطاع الإنسان أن ينتج ولا أن يعطي، هذا عنصر أساس.

الركيزة الثانية: تلاقح التجارب، عندما نقرأ الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) لتعارفوا أي تعارف التجارب والطاقات، أتعرف على طاقتك وخبرتك وتتعرف على طاقتي وخبرتي، الحضارة الشرقية لايمكن أن تنهض من دون تلاقح مع طاقات الحضارة الغربية، والحضارة الغربية لايمكن أن تنتج من دون تلاقح مع طاقات الحضارة الشرقية، الحضارات عندما تتلاقح طاقاتها، وتتلاقح تجاربها يتحقق هذا العنصر وهذه الركيزة (لِتَعَارَفُوا).

الركيزة الثالثة: التعاون، مجرد تلاقح الطاقات والتجارب لاينفع مالم يكن هناك تعاون فعلي (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

الركيزة الرابعة: التراحم، الحضارة الإسلامية تختلف عن الحضارات الأخرى في أن من أسسها التراحم، هناك بعض الباحثين اللغويين يقول هناك علاقة وثيقة بين عنوان الأرحام وعنوان الرحمة، لماذا يسمى الأقرباء الذين ينحدرون من صلب واحد أرحام؟ هذا مشتق من الرحمة، الله تبارك وتعالى هو الرحمة (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) رحمته تعالى صاغ بها الإنسان فجاء الإنسان وهو يعيش قيمة وخلق الرحمة (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) الإنسان ولد وفي قلبه وميض ونبع الرحمة،

هنا يوصي الإسلام على أن يفيض نبع الرحمة من قلب الإنسان على كل أقربائه الذين ينحدرون من صلب واحد ويعبر عنهم بالأرحام، الرحمة وتعاطف البشر، انقاذ بعضهم لبعض ودفاع بعضهم عن بعض أساس من أسس الحضارة الإسلامية (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

البند الرابع: قاعدة النظام الذي يحفظ الاستقرار ويوفر الأمن هي العدالة وتعني نوعين من القوانين: قوانين ثابتة وهي التي لاتتغير بتغير الظروف ”من أحيا أرضا مواتا فهي له“ قانون ثابت، وقوانين متحركة هي القوانين المواكبة للظروف المتغيرة، فمثلا: عندما تريد أن تبيع ذهبا وتكون قد اشتريت هذه القطعة بعشرة آلاف ريال وتريد بيعها قبل أن تستلمها، وأردت بيعها بمبلغ 12 ألف فهذا لايجوز شرعا، لايجوز بيع الموزون أو المكيل بربح قبل قبضه، أن تبيعه بنفس قيمته فهذا لا اشكال فيه ولكن بيعه بربح قبل قبضه فلايجوز.

المحور الثالث: معالم المذهب الاقتصادي في العهد العلوي.

عهد الإمام علي لمالك الأشتر، نحن نفخر بهذا العهد لأن المنصفين من الباحثين منهم الإمام محمد عبده المصري وغيره ركزوا على أنه لاتوجد لدينا وثيقة تعرض لنا رؤية اقتصادية إسلامية متكاملة إلا العهد العلوي، القرآن فيه آيات متفرقة، والنبي له أحاديث متفرقة حسب الأزمنة والظروف،

أما وثيقة تعكس رؤية اقتصادية متكاملة وتعكس المذهب الاقتصادي الإسلامي ليس لدينا وثيقة إلا هذا العهد وهو عهد الإمام علي لمالك الأشتر، لذلك عدة من الباحثين سلطوا الضوء على هذا العهد منهم الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه «اقتصادنا»، منهم الدكتور طالب فارس في بحثه حول ملامح الاقتصاد في عهد الإمام علي لمالك الأشتر، عدة باحثين ركزوا على هذا العهد.

نذكر مجموعة من معالم المذهب الاقتصادي الإسلامي في العهد العلوي:

المعلَم الأول: المنطلقات.

ذكر العهد ثلاثة منطلقات: العدالة والإنصاف والوسطية، قال : ”أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية“

هنا عناوين ثلاثة: عدل وإنصاف ووسطية مالفرق بينها؟ هي منطلقات للمذهب الاقتصادي.

العنوان الأول: العدل، وهو عبارة عن وضع الأشياء في مواضعها ويتفرع عليه إعطاء كل ذي حق حقه، فمثلا: هناك بحث اقتصادي حول تحديد القيمة التبادلية للسلعة، كيف تتم؟

لو كان لديك قلادة ذهب حتى تصبح قلادة كم عاملا تحتاج؟ تحتاج إلى مادة وهذه المادة تبلور إلى أن تصبح ذهب وتحتاج إلى آلات تصنعها كقلادة وتحتاج إلى خبرة وتحتاج إلى طاقة ثم تحتاج إلى عمل، يعني أن هناك عدة عوامل تدخلت حتى صارت قلادة، عندما نحدد قيمة هذه القلادة بعشرة آلاف هل نعطيها للعامل الذي أنتجها أم توزع على جميع العوامل التي تدخلت في إنتاجها، من العوامل: المادة، والآلة التي صنعتها، والخبرة التي ملكها العامل المنتج، ونفس الجهد الذي بذله المنتج، هل توزع القيمة التبادلية للسلعة على العوامل المتنوعة أم تعطى جاهزة للعامل المنتج؟ هذه عدالة، العدالة تبرز هنا، كيف تضع الأشياء في مواضعها، فلو افترضنا أن كل شخص يمتلك شيء، شخص يمتلك المادة، والآخر يمتلك الآلة، وآخر يمتلك الخبرة، وآخر قام بالعمل، هل ستوزع القيمة على هؤلاء الأربعة أم أنها ستعطى للعامل المنتج.

العنوان الثاني: الإنصاف، الفرق بين الإنصاف والعدالة هو أن العدالة ملكة قلبية، والإنصاف سلوك عملي، الإنصاف تجسيد للعدالة، العدالة هي توازن روحي داخلي والإنصاف تجسيد لذلك التوازن في علاقتك مع الله أو علاقتك مع نفسك أو علاقتك مع الطبيعة كما ورد عن الرسول محمد : ”إن لربك عليك حق ولجسمك عليك حق ولأهلك عليك حق فأعط كل ذي حق حقه“.

العنوان الثالث: الوسطية وهي عبارة عن القوانين المتحركة المنطلقة من قاعدة العدالة المواكبة للظروف المتغيرة، وذكرنا أمثلة سابقا للقانون المتحرك.

المعلَم الثاني: المفردات المدونة في العهد العلوي التي تعكس بمجموعها صورة المذهب الاقتصادي.

نقتصر هنا على مفردتين:

المفردة الأولى: التجارة، نلاحظ النص الوارد عن الإمام علي : ”ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح“ ماذا يعني لنا هذا النص؟ مالفرق بين الإنتاج والتداول؟

الإنتاج هو تطوير المادة الخام بصورة تلبي حاجة المستهلك، تصنع من الحديد سيارة، ومن البلاستيك جهاز معين، تطوير المادة بصورة تخدم حاجة المستهلك، أما التداول فهو نقل السلعة من المنتج إلى المستهلك، إما نقل عامودي كأن يخرجها من الأرض، أو أفقي كأن يطرحها في السوق.

التجارة هل هي إنتاج أم تداول؟ بحسب المذاهب الاقتصادية الأخرى فالتجارة ليست إنتاج، التاجر وسيط يلعب دور الوسيط بين المنتج والمستهلك، بينما في المذهب الاقتصادي العلوي التجارة إنتاج، سيد الصدر يقول: هذا التعبير ”فإنهم مواد المنافع“ التجارة مادة للإنتاج، فالتجارة عبارة عن رأس المال والخبرة والعمل، مجموع هذه العناصر التي تتلخص في التجارة، تسهم في خلق توافق بين المنافع الاستعمالية وبين المنافع التبادلية، لذلك تعتبر التجارة إنتاج.

المفردة الثانية: المنع من الاحتكار، قال : ”واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله منع منه وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لاتجحف بالفريقين

“ الاحتكار أنواع: الاحتكار في الثروة، من بيده الثروة يحتكرها على شركات الإنتاج فلا يسلمها إياهم إلا بأسعار مجحفة وبالطبيعي أن شركات الإنتاج إذا استلمت المادة بأسعار مجحفة سوف ترفع من قيمة السلعة، يعني أن الانحراف في المسار الأول سوف ينعكس في المسار الثاني، أو أن تكون السلعة موجودة في السوق لكن تصطنع ندرة لها، تسمى ندرة مصطنعة حتى يصبح الطلب أكثر من العرض فترتفع قيمتها، أو احتكار للنقد، جمع النقد في مؤسسة معينة حتى ترتفع قيمة فائدة القروض، الاحتكار بصوره ممنوع ”باب مضرة للعامة“ باعتبار أن في قانون منع الاحتكار حفاظا على سلامة شكل المذهب الاقتصادي في توازنه بين الإنتاج والتوزيع.

المعلَم الثالث: دور السلطة في المذهب الاقتصادي الإسلامي

هنا عدة بنود تعرض لها الإمام في العهد العلوي لشرح دور السلطة في تجسيد هذا المذهب الاقتصادي الإسلامي:

البند الأول: إدارة الموارد الطبيعية والمالية بتوازن، هذا النص الذهبي عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”هذا ماأمر به عبد الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين مالك ابن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصرا، جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها

“ أربعة عناصر يقوم عليها الاقتصاد: الإنتاج: عمارة بلادها، استصلاح أهلها: توفير الأيدي العاملة المنتجة، جهاد عدوها: حماية الثروات والحقوق، التوزيع: جباية خراجها، أربعة عناصر: إنتاج، وتوفير الأيدي، وحماية الثروات، والتوزيع،

هذه العناصر الأربعة يعرضها الإمام في عرض واحد، يريد أن يقول لابد من إدارة هذه العناصر الأربعة بتوازن بحيث لايطغى الإنتاج على التوزيع، لايكون الإنتاج على حساب التوزيع بل لابد من التوازن بينهما، مثلا: ”من أحيا أرضا مواتا فهي له“ هذا إنتاج، لو أتى شخص وأحيا مئة كيلو متر أو مليون كيلو متر هذا على حساب التوزيع لأنه هنا أنتج أكثر من حاجته على حساب نصيب غيره من الثروة المنتجة، لابد أن يكون هناك توازن بين الإنتاج والتوزيع.

عندما يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”واستصلاح أهلها“ يعني توفير الأيادي الصالحة بإعدادها وتأهيلها ورعايتها حتى تكون أيادي صالحة للعمل، لم يقل الإمام استجلاب بل قال استصلاح، فالاستصلاح يختلف عن الاستجلاب وعن الاستعمال، الاستصلاح يعني توفير أيدي صالحة، فالصلاح يحتاج إلى تأهيل وإعداد، إذن دور الدولة استصلاح بمعنى توفير أيدي مع إعداد وتأهيل لأن تكون ايدي منتجة.

هنا نشير إلى نقطة: جائحة كورونا كما تقول التقارير أسرعت بالتحول الرقمي، نحن كنا سنصل إلى هذا التحول الرقمي بعد خمس سنوات أو سبع سنوات ولكن هي أسرعت به بحيث صار الاعتماد على الطاقة، على الانترنت لا على الطاقة البشرية، هذه الجائحة أسرعت بذلك وهذا خدم شركات كثيرة لكنها أيضا خلفت كوارث بشرية، فالكثير من الشركات العالمية العملاقة تسرح الكثير من الموظفين، مدام يمكن العمل والإنتاج عبر الطاقة، عبر الإنترنت فما هي الحاجة للطاقة البشرية الهائلة، اليوم مكاتب كبيرة تغلق، لاحاجة لها، فهي تحتاج إلى عمال تنظيف وعمال صيانة وعمال تعقيم وعمال مواصلات وكل هؤلاء يحتاجون إلى أجور ويحتاجون إلى رعاية وهذا يستدعي نفقة ومصروفا كبيرا يثقل كاهل الشركة،

بينما إذا اعتمدت الشركة على الآلة في التعقيم والتنظيف والتأهيل فلا تحتاج إلى هذه الطاقة البشرية، ولأنها لاتحتاج إلى الطاقة البشرية إذن هي مضطرة إلى أن تسرح أعداد هائلة من الموظفين، ونتيجة تسريح هذه الأعداد الهائلة ازدياد حجم البطالة، لازدياد كمية اليد العاملة بدون فرصة عمل،

وهذه كوارث، وستأتي وتزداد، وحتى التجار، أنت الآن صرت تعتمد على الطلب الإلكتروني فالتاجر لايحتاج إلى فتح محلات تجارية تكلفه أموال ومصارف وعمال، فالطلب الإلكتروني يوفر لك الحاجة والسلعة التي تريدها، ونحن نستقبل أيضا كارثة أعظم وهي الثورة الصناعية الرابعة،

مرت على البشرية أربع ثورات:

الثورة الأولى: في القرن الثامن عشر عندما اخترع الإنسان المحرك البخاري وأدار به الحياة الزراعية من دون الحاجة للاعتماد على الحيوانات والإنسان.

الثورة الثانية: عندما اخترع الإنسان الكهرباء، عندما استطاع الإنسان أن يجعل البترول مصدرا للطاقة.

الثورة الثالثة: عندما طغت الرقمنة وطغى الاعتماد على الكمبيوتر استغنى أيضا عن طاقات بشرية هائلة.

الثورة الرابعة التي تستقبلنا هي: ماأعلن عنها عام 2016 في دافوس في سويسرا، أعلن أن البشرية مقبلة على ثورة صناعية كبرى وهي عبارة عن القدرة الهائلة على الاختراقات لهذه التكنلوجيا الإنترنتية إن صح التعبير، فتصبح المركبة تقود نفسها بنفسها، ستجد الآلة «الروبوت» تعمل في كل مكان، يغني عن الطاقة البشرية في كثير من المواطن.

إذن بالنتيجة لابد من تفكير كيف نعد اليد العاملة ونؤهلها إذا كنا سنستقبل استغناءا عن الطاقة البشرية، فهل فكر الخبراء الاقتصاديون في تأهيل اليد العاملة بحيث تواكب هذه الثورة الصناعية العملاقة من دون أن تحدث لنا بطالة ولا مزيد من اليد العاملة بدون فرص للعمل.

البند الثاني: فرض الضرائب، لايوجد دولة بدون ضرائب، فالضرائب جزء من روافد ازدياد ميزانية الدولة كل دولة تعتمد على ضرائب في الحفاظ على حجم ميزانيتها، على مفتاح الإنفاق العام، الإمام أمير المؤمنين فرض ضرائب، الزكاة ليست واجبة في الخيل، الإمام أمير المؤمنين فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البراذين دعما لميزانية الدولة وخزينة بيت المال في زمانه.

البند الثالث: رعاية القطاع العام، الإمام علي يعبر عن هذا الأمر تعبير دقيق:

”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج فإن ذلك لايدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد“

هناك فرق بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والإعمار، الإمام يركز على الإعمار، النمو الاقتصادي هو عبارة عن ظاهرة الإنتاج، أن ترى الإنتاج لهذه الدولة ظاهرا، أن ترى ارتفاع في معدل الناتج المحلي الإجمالي، وهناك تنمية اقتصادية وهي عبارة عن إجراءات يتخذها صناع القرار عبر خطط تطويرية تسهم في ارتفاع مستوى المعيشة وتحدث تغيرات كمية أو نوعية في رأس المال البشري والتنافس الإقليمي وفي مجال الصحة والتعليم والأمن،

وهناك الإعمار ”وليكن نظرك في عمارة الأرض“ الإعمار هو العلاقة الوطيدة بين حجم الإنتاج وحجم ميزانية الدولة الذي يقوم عليه الإنفاق العام، هنا الإمام يركز على رعاية القطاع العام ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“ كل دولة أمامها مسؤولية تنمية الإنتاج، في تنمية الإنتاج إما بالتدخل المباشر بأن تنفق على السياحة والتجارة والصناعة والموانئ، أو تدخل غير مباشر بأن تدعم القطاع الخاص في مجال الاستثمار في الموارد الطبيعية، عندما تقوم أي دولة بهذه الصورة حققت رعاية القطاع العام.

نورد هنا مثالين من واقعنا حتى يتضح المقصود:

المثال الأول: الإمام علي عندما يقول: ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“ يؤسس قاعدة عامة ولكن هذه القاعدة لاتنطبق على كل الظروف أو على كل بلد ومجتمع، لماذا؟ الآن في الأزمات الاقتصادية الخانقة مثل انخفاض سعر البترول، الخبراء الاقتصاديون يدرسون هل أن الأولوية لخفض الإنفاق ومزيد من الضرائب أم أن الأولوية لمزيد من الإنفاق وخفض الضرائب ولو بالاستثمار عن طريق الاقتراض من أجل المحافظة على نمو اقتصاد الدولة، تحديد أيهما أولى في الخروج من الأزمة الاقتصادية، يعتمد على خبراء اقتصاديين وهذا مانسميه بالقوانين المرنة، القوانين المتحركة، فمثلا مؤسسة النقد الفدرالي الأمريكية بين فترة وأخرى تصدر التقارير ماهو الأولى زيادة كمية الفائدة أو نقصها، ماهو الأولى زيادة كمية النقد أو تخفيضه من أجل المحافظة على النقد الموجود فرارا من العجز والتضخم، اختيار الأولى في الخروج من الأزمة الاقتصادية هذا من القوانين المتحركة، الإمام يطرح قانون ثابت لكن يحتاج هذا القانون إلى ضميمة القانون المتحرك عندما يقول: ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“.

المثال الثاني: رعاية المنتج الوطني تدخل تحت قوله : ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخرا

“ فمثلا الصين الغول العملاق تضخ أموال هائلة على شركات الإنتاج بقروض ميسرة لكي تسهم في الإنتاج بشكل أوسع وتغرق السوق العالمية بسلعها ومنتجاتها، بسعر أقل وبجودة أفضل، لذلك الكثير من الشركات الأمريكية عجزت عن منافسة هذا الغول، وطرحت قوانين صارمة تحد من سيطرة هذا الغول الصيني على السوق،

بالنتيجة أنت الآن في الخليج عموما شركات سوبرماركت طغت وسيطرت، وفي المستقبل قد تسيطر بشكل أكبر، هذا الناتج المحلي والشركات والإنتاج المحلي يضعف بمرور الوقت لأن هذه الشركات عملاقة لديها أموال ضخمة تخفض سعر المنتج وتيسر وصوله للمستهلك، بالتالي تجلب اليها المستهلك، وبالتالي هذا يؤثر على الناتج المحلي بحيث تصبح الشركات المحلية مجرد أجراء وعمال لدى الشركات العملاقة الكبرى، دعم الإنتاج المحلي بفرض قوانين وضرائب صارمة على الشركات الكبرى يدخل ضمن ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“.

البند الرابع: الحفاظ على القيمة التبادلية، القيمة التبادلية للسلعة تنشأ من عاملين: ندرة المادة وجودة العمل، تحدد قيمة السلعة طبقا لهذين العاملين، لكن أحيانا هناك من يلعب في السوق في قوانين العرض والطلب حتى يختلق ندرة من أجلها ترتفع قيمة السلعة هنا تتدخل الدولة، تتدخل السلطة لأنها تراقب النشاط التبادلي في السوق لتحافظ على القيمة التبادلية العادلة للسلعة، الإمام علي يقول:

”وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لاتجحف الطرفين“ التعبير بكلمة سمح تعبير لطيف يشير إلى جانب اقتصادي وجانب خلقي، يعني أن يكون السعر مقبول اقتصاديا وناشئ عن سماحة وقناعة من النفس بما رزقها الله تبارك وتعالى.

البند الخامس: الضمان الاجتماعي، يقول الإمام : ”الله الله بالطبقة السفلى من الذين لاحيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا فاجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وتعهد ذوي اليتم منهم وذوي الرقة في السن ممن لاحيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه“ كل دولة لديها ضمان اجتماعي بمقدار قوة اقتصادها، دور العجزة، مؤسسات رعاية الأيتام وكفالاتهم، الجمعيات الخيرية، الجمعيات التعاونية، حساب المواطن كل هذا يدخل ضمن الضمان الاجتماعي، الضمان الاجتماعي يسد باب الجريمة، ويمنع تحول الفقر إلى كفر

كما ورد عن الإمام علي : ”مادخل الفقر بلدا إلا وقال للكفر خذني معك“ الضمان الاجتماعي ضرورة لاستقرار الحياة الاجتماعية وتوفير الأمن فيها،

اليوم نحن مقبلون على فصل دراسي ربما فصل دراسي كامل تعليم عبر الإنترنت، فالطالب يحتاج لتوفر الإنترنت وقدرة على التواصل مع المدرس عبر الإنترنت والاستفادة منه، كما نوفر عبر الضمان الاجتماعي الملابس والأغذية والأدوية أيضا نوفر عبر الضمان الاجتماعي لهؤلاء الفقراء والمحتاجين وسائل التواصل عبر الإنترنت ليستطيعوا من خلاله التواصل مع دروسهم وأساتذتهم ومواصلة تعليمهم كل ذلك يدخل ضمن الضمان الاجتماعي،

إذن علي ابن أبي طالب عكس لنا صورة انسانية حيوية من خلال هذه المبادئ التي سجلها في عهده العلوي المبارك لمالك الأشتر.


المصدر: شبكة المنير

مواضيع مختارة