تاريخ
هل أنجبت زليخا الأولاد بعد زوجها من النبي يوسف (ع)؟

تعد قصة النبي يوسف عليه السلام من أجمل القصص القرآنية التي تحمل في طياتها العديد من العبر. ومن المحطات المهمة في هذه القصة علاقته بزليخا، زوجة عزيز مصر، التي تحولت من قصة مراودة إلى قصة وإيمان.

[اشترك]

وقد أثار زواج يوسف من زليخا بعد توبتها تساؤلات عديدة، ومن أبرزها مسألة إنجابهما للأولاد، فهل أنجبت زليخا الأولاد بعد زوجها من النبي يوسف (ع)؟

الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

روي انَّ زليخا امرأة العزيز تزوجها يوسف (ع) بعد موت زوجها وأنجبت له ولدين وهما أفرائيم وميشا، وقيل انَّها أنجبت له بنتًا أيضًا اسمها رحمة وهي زوجة نبيِّ الله أيوب (ع) وقيل انَّ رحمة زوجة أيوب (ع) كانت بنتًا لأفرائيم بن يوسف، فهي حفيدة ليوسف وليست بنتًا له وروي انَّ زوجة أيوب كانت من بنات ميشا بن يوسف، فهي حفيدة ليوسف (ع) بناءً على هذا القول أيضًا.

وأما انَّ زليخا كانت جدة لأنبياء فقد روي انَّ يوشع بن نون وصيِّ موسى (ع) كان جده أفرائيم بن يوسف وابن زليخا فتكون زليخا جدةً ليوشع النبي وصيُّ موسى (ع).

وروي عن ابن عباس انَّ ثمة ولدًا لأفرائيم كان اسمه يوسف وكان نبيًا فيكون يوسف هذا حفيدًا ليوسف الصديق (ع) ولزليخا.

2025/01/20

ما رأيت إلا جميلاً.. زينب تهزم الألم بـ «الصبر»!

معروف أنّ المرأة تمتاز برقّة المشاعر ، وشفافيّة العواطف ، ممّا يساعدها على القيام بدور الأمومة الحانية ؛ لذلك يكون تأثيرها العاطفي أسرع وأعمق من الرجل غالباً.

[اشترك]

وإذا كانت تلك الحالة تمثّل الاستعداد الأَوّلي في نفس المرأة ، فلا يعني ذلك أنّها تأسُر المرأة وتَقعد بها عن درجات الصمود والصبر العالية ، فبإمكان المرأة حينما تمتلك قوّة الإرادة ونفاذ الوعي وسموّ الهدف ، أنْ تضرب أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة أمام المواقف الصعبة القاسية.

وهذا ما أثبتته السيّدة زينب في مواجهتها للآلام والأحداث العنيفة التي صدمتها في باكر حياتها وكانت هي الختم لسنوات عمرها ، لقد أبدت السيّدة زينب تجلّداً وصبراً قياسيّاً في واقعة كربلاء وما أعقبها من مصائب ، وإلّا فكيف استطاعت أن تنظر إلى أخيها الحسين ممزّق الأشلاء يسبح في بُرْكة من الدماء ، وحوله بقيّة رجالات وشباب أسرتها من أخوتها وأبناء إخوتها وأبناء عمومتها وأبنائها ، ثمّ تحتفظ بكامل السيطرة على أعصابها وعواطفها ، لتقول كلمة لا يقولها الإنسان إلّا في حالة التأنّي والثبات والاطمئنان ، وهي قولها : « اللّهمّ تَقَبَّل مِنَّا هَذَا القليل من القربان » (۱).

وأكثر من ذلك فهي تصبّر ابن أخيها الإمام زين العابدين حينما رأتْه مضطرباً بالغ التأثّر عند مروره على جثث القتلى ـ كما مرّ علينا سابقاً ـ.

ويعبّر الشيخ النقدي عن فظيع مصائب السيّدة زينب وعظيم تحمّلها لها بقوله :

 

وبالجملة فإنّ مصائب هذه الحرّة الطاهرة زادت على مصائب أخيها الحسين الشهيد أضعافاً مضاعفة ، فإنّها شاركته في جميع مصائبه ، وانفردت عنه عليها السلام بالمصائب التي رأتها بعد قتله من النَهْب والسَلب والضرب وحرق الخيام ، والأَسْر ، وشَمَاتة الأعداء.

أمّا القتل فإنّ الحسين قُتل ومضى شهيداً إلى روح وريحان ، وجنّة ورضوان ، وكانت زينب في كلّ لحظة من لحظاتها تُقْتَل قَتْلاً معنويّاً بين أولئك الظالمين ، وتذري دماء القلب من جفونها القريحة (۲).

وأيّ مستوى من الصبر عند السيّدة زينب حينما تصف ما رأته من مصائب بأنّه شيء جميل : « والله ما رأيتُ إلّا جميلاً » ردّاً على سؤال ابن زياد لها : كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيك ؟

الهوامش

۱. زينب الكبرى : النقدي : ص ٧٥.

۲. زينب الكبرى : النقدي : ص ٩٧.

مقتبس من كتاب : [ المرأة العظيمة السيّدة زينب ] / الصفحة : ۲٦۹ ـ ۲۷۰

2025/01/16

لماذا ولد علي في الكعبة؟!

هناك سؤال يقول: كيف نفسر اختصاص أمير المؤمنين «عليه السلام» ، بكرامة الولادة في الكعبة ، دون رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

[اشترك]

الجواب: ونقول في جوابه ما يلي :

فأما بالنسبة للنبوة والنبي «صلى الله عليه وآله» ، فإن أدنى شك أو شبهة بها ، وكذلك أدنى ريب في الرسول «صلى الله عليه وآله» يوجب الكفر والخروج من الدين ، كما أن بغض الرسول «صلى الله عليه وآله» بأي مرتبة كان ، يخرج الإنسان من الإسلام واقعاً ، ويلحقه بالكفر ، وتترتب عليه أحكامه في مرحلة الظاهر ، فيحكم عليه بالنجاسة ، وبأنه لا يرث من المسلم ، وبأن زوجته تبين منه ، وتعتد ، وبغير ذلك . .

وأما الإمامة والإمام «عليه السلام» ، فإن الحكمة ، والرحمة الإلهية ، وحب الله تعالى للناس ، ورفقه بهم ، قد اقتضى : أن لا تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة ، أو شك فيها ، أو في الإمام «عليه السلام» ، أو قصر في حبه . . ولكن بشرطين . .

أحدهما : أن يكون ذلك الإنكار ، أو الشك ، أو التقصير ناشئاً عن شبهة ، إذ مع اليقين بثبوت النص وفي دلالته ، يكون المنكر أو الشاك مكذباً لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، راداً على الله سبحانه ، ومن كان كذلك فهو كافر جزماً . .

الثاني : أن لا يكون معلناً ببغض الإمام ، ناصباً العداء له ، لأن الناصب حكمه حكم الكافر أيضاً . .

النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقتل أحداً ؛ لماذا؟

وبعدما تقدم نقول :

لا ريب في أن قيام الإسلام وحفظه يحتاج إلى جهاد وتضحيات ، وأن في الجهاد قتلاً ويتماً ، ومصائب ومصاعب ، ولم يكن يمكن لرسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يتولى بنفسه كسر شوكة الشرك ، وقتل فراعنته وصناديده . . لأن ذلك يوجب أن ينصب الحقد عليه ، وأن تمتلئ نفوس ذوي القتلى ومحبيهم ، ومن يرون أنفسهم في موقع المهزوم ، بغضاً له ، وحنقاً عليه . .

وهذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف بالإسلام ، وسيؤثر ذلك على تمكّن بنيهم ، وسائر ذويهم ومحبيهم من ذلك أيضاً . . فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم من هو كنفس الرسول «صلى الله عليه وآله» ، الذي يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، ألا وهو أمير المؤمنين «عليه السلام» . .

واقتضت هذه الرحمة أيضاً رفع بعض الأحكام الظاهرية ـ دون الواقعية ـ المرتبطة بحبه وبغضه ، وبأمر إمامته «عليه السلام» ، تسهيلاً من الله على الناس ، ورفقاً بهم ـ رفعها ـ عن منكر إمامته «عليه السلام» ، وعن المقصر في حبه ، ولكن بالشرطين المتقدمين وهما : وجود الشبهة وعدم نصب العداء له ، لأنه مع عدم الشبهة يكون من قبيل تعمد تكذيب الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ومع نصب العداء يتحقق التمرد والرد على الله سبحانه ، كما قلنا . .

معالجة قضايا الروح والنفس :

ثم إن معالجة قضايا الحب والبغض ، والرضا والغضب ، والإنفعالات النفسية ، تحتاج إلى اتصال بالروح ، وبالوجدان ، وإلى إيقاظ الضمير ، وإثارة العاطفة ، بالإضافة إلى زيادة البصيرة في الدين ، وترسيخ اليقين بحقائقه . .

وهذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة الإلهية ، في معالجة الأحقاد التي علم الله سبحانه أنها سوف تنشأ ، وقد نشأت بالفعل ، كنتيجة لجهاد الإمام علي «عليه السلام» ، في سبيل هذا الدين . .

ونحن نعتقد : أن قضية ولادة الإمام علي «عليه السلام» في جوف الكعبة ، واحدة من مفردات هذه السياسة الربانية ، الحكيمة ، والرائعة . .

ولادة علي عليه السلام في الكعبة صنع الله :

ويمكن توضيح ذلك بأن نقول :

إن ولادته «عليه السلام» ، في الكعبة المشرفة ، أمر صنعه الله تعالى له ، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة ، وسبباً من أسباب هدايتها . . وهي ليست أمراً صنعه الإمام علي «عليه السلام» لنفسه ، ولا هي مما سعى إليه الآخرون ، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به ، أو اتهامهم بالسعي لتأييد مفهوم اعتقادي ، أو لواقع سياسي ، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه ، في صراع ديني ، أو اجتماعي ، أو غيره . .

ويلاحظ : أن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته «عليه السلام» حين دخلت ، وحين خرجت ، بعد أن وضعته في جوف الكعبة الشريفة . .

وقد جرى هذا الصنع الإلهي له «عليه السلام» حيث كان لايزال في طور الخلق والنشوء في هذا العالم الجديد . . ليدل دلالة واضحة على اصطفائه تعالى له ، وعنايته به . .

وذلك من شأنه أن يجعل أمر الإهتداء إلى نور ولايته أيسر ، ويكون الإنسان في إمامته أبصر . .

ويتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذين سوف تترك لمسات ذباب سيفه «ذي الفقار» آثارها في أعناق المستكبرين والطغاة من إخوانهم ، وآبائهم ، وعشائرهم ، أو من لهم بهم صلة أو رابطة من أي نوع . .

الرصيد الوجداني آثار وسمات:

ثم إن هذا الرصيد الوجداني ، قد هيأه الله لهم ليختزنوه في قلوبهم وعقولهم من خلال النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد فضل علي «عليه السلام» وإمامته ، ثم جاء الواقع العملي ليعطيها المزيد من الرسوخ والتجذر في قلوبهم وعقولهم من خلال مشاهداتهم ، ووقوفهم على ما حباه الله به من ألطاف إلهية ، وإحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد مبارك ، وبأنه من صفوة خلق الله ، ومن عباده المخلصين .

وذلك سيجعلهم يدركون : أنه «عليه السلام» ، لا يريد بما بذله من جهد وجهاد في مسيرة الإسلام ، إلا رضا الله سبحانه ، وإلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية ، على حالة السلامة ، وفي خط الاعتدال . . لأنها مسيرة سيكون جميع الناس ـ بدون استثناء ـ عناصر فاعلة ومؤثرة فيها ، ومتأثرة بها . .

وبذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له «عليه السلام» ، أو المؤلب عليه ، أمام صراع مع النفس ومع الوجدان ، والضمير ، وسيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون الله ورسوله . . ويسعون في هدم ما شيده للدين من أركان ، وما أقامه من أجل سعادتهم ، وسلامة حياتهم ، من بنيان . .

ولادة علي عليه السلام في الكعبة لطف بالأمة:

فولادة الإمام علي «عليه السلام» ، في الكعبة المشرفة ، لطف إلهي ، بالأمة بأسرها ، حتى بأولئك الذين وترهم الإسلام ، وهو سبيل هداية لهم ولها ، وسبب انضباط وجداني ، ومعدن خير وصلاح ، ينتج الإيمان ، والعمل الصالح ، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان ، عن الإمعان في الطغيان ، والعدوان ، وعن الإنسياق وراء الأهواء ، والعواطف ، من دون تأمل وتدبر . .

وغني عن البيان ، أن مقام الإمام علي «عليه السلام» وفضله ، أعظم وأجل من أن تكون ولادته «عليه السلام» ، في الكعبة سبباً أو منشأً لإعطاء المقام والشرف له . . بل الكعبة هي التي تعتز ، وتزيد قداستها ، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه عليه . .

وأما رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فإن معجزته الظاهرة التي تهدي الناس إلى الله تعالى ، وإلى صفاته ، وإلى النبوة ، وتدلهم على النبي ، وتؤكد صدقه ، وتلزم الناس كلهم بالإيمان به ، وتأخذ بيدهم إلى التسليم باليوم الآخر ـ إن هذه المعجزة ـ هي هذا القرآن العظيم ، الذي يهدي إلى الرشد من أراده ، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب والعقول أولاً ، من باب الاستدلال ، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق . . من دون تأثر بالعاطفة ، وبعيداً عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى مهما كانت . .

إذ إن القضية هي قضية إيمان وكفر ، وحق وباطل ، لا بد لإدراكهما من الكون على حالة من الصفاء والنقاء ، وتفريغ القلب من أي داع آخر ، قد يكون سبباً في التساهل في رصد الحقيقة ، أو في التعامل مع وسائل الحصول عليها ، والوصول إليها . .

فالله لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة ، سبباً في إعاقة العقل عن دوره الأصيل في إدراك الحق ، وفي تحديد حدوده ، وتَلَمُّس دقائقه ، وحقائقه والتبيُّن لها إلى حد تصير معه أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس . .

ولذلك فإن الله تعالى لم يصنع لرسوله «صلى الله عليه وآله» ، ما يدعوهم إلى تقديسه كشخص ، ولا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه ، لا بد لهم من الخضوع والبخوع له ، وتمجيد مقامه ، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب الأمثل ، ولا الطريقة الفضلى ، في سياسية الهداية الإلهية إلى الأمور الإعتقادية ، التي هي أساس الدين ، والتي تحتاج إلى تفريغ النفس ، وإعطاء الدور ، كل الدور ، للدليل وللبرهان ، وللآيات والبينات ، وإلى أن يكون التعاطي مع الآيات والدلائل بسلامة تامة ، وبوعي كامل ، وتأمل عميق ، وملاحظة دقيقة . .

وهذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا الإيمان الكبرى ، خصوصاً تلك التي نزلت في الفترة المكية للدعوة . فإنها إثارات جاءت بالغة الدقة ، رائعة في دلالاتها وبياناتها ، التي تضع العقل والفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز عنه ، إلا بتعطيل دورهما ، وإسقاط سلطانهما ، لمصلحة سلطان الهوى ، ونزوات الشهوات ، والغرائز . .

وهذا الذي قلناه ، لا ينسحب ولا يشمل إظهار المعجزات والآيات الدالة على الرسولية ، وعلى النبوة ، فإنها آيات يستطيع العقل أن يتخذ منها وسائل وأدوات ترشده إلى الحق ، وتوصله إليه . . وتضع يده عليه . . وليست هي فوق العقل ، ولا هي من موجبات تعطيله ، أو إضعافه 1 .

المصدر: الصحيح من سيرة الإمام علي عليه السلام أو (المرتضى من سيرة المرتضى) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، 1429هـ . ـ 2009م . الطبعة الأولى ، الجزء الأول .

2025/01/14

ولادة الإمام علي في جوف الكعبة.. لماذا لم تهزّ قريش هذه الكرامة؟!

إذا كان عليٌّ (ع) قد وُلد في جوف الكعبة وأنَّ جدارها قد انشقَّ لأمِّه فدخلت منه ووضعت في جوف الكعبة عليَّاً (ع) فلماذا لم يُحدِثْ ذلك ثورة وعي وصحوة عند قريش وهم يُشاهدون هذه الكرامة؟

[اشترك]

لقد ظهرت عند ولادة النبيِّ الكريم (ص) وبعده وحين مبعثه وبعده كرامات هي أبلغ من ولادة الإمام عليٍّ (ع) في جوف الكعبة الشريفة ورغم ذلك فإنَّها لم تُحدِث ثورةَ وعيٍ وصحوة عند قريش، ذلك لأنَّهم قد غرقوا في العصبية والجهل وأعماهم الكبرياء والتغطرس عن رؤية الحقِّ أو الاعتراف به.

وعلى أيِّ حال فقد شاع وذاع أمرُ ولادة عليٍّ (ع) في جوف الكعبة ولم يتنكَّر لهذا الحدث من أحدٍ إلا بعد أنْ نشأت المذاهب العقائدية والتي كان يعزُّ على الكثير منها أنْ تُذاع منقبةٌ لعليٍّ (ع) فجهدوا في إخفاء الكثير منها إمعاناً في إضعاف موقعه الديني ومحاولةً منهم لإبراز مَن كان في تلميعه مصلحةٌ لهم، فقد حذَّر معاوية بن أبي سفيان كلَّ مَن يذكر لعليٍّ (ع) منقبة: و"كتب معاوية نسخةً واحدة إلى عمَّاله بعد عام الجماعة أنْ برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلِّ كورة، وعلى كلِّ منبر يلعنون عليًا ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته .."(1) وكتب إلى عمَّاله في وقتٍ آخر "ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقضٍ له في الصحابة مفتعلة فإنَّ هذا أحب إليَّ، وأقرُّ لعيني، وأدحضُ لحجَّة أبي تراب وشيعته .."(2) كما تذكر ذلك النصوص التأريخية، وقد أجاد الفراهيدي حين قال: إنَّ عليَّ بن أبي طالب "كتم أحباؤه فضائله خوفاً وأعداؤه حسداً، وظهر بين الكتمانين ما ملأ الخافقين"(3).

ولابأس في المقام مِن ذكر بعض ما ورد من أنَّ عليَّاً (ع) وُلد في جوف الكعبة:

فمن ذلك: ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده عن أبي عبدالله الصادق (ع) عن آبائه (ع): قال: "كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى، بإزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت اسد بن هاشم أمُّ أمير المؤمنين(ع)، وكانت حاملةً بأمير المومنين (ع) .. فوقفت بازاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، فرمتْ بطرفها نحو السماء، ودعت .. لمَّا تكلمت فاطمة بيت أسد ودعتْ .. رأينا البيت قد انفتح من ظهره، ودخلت فاطمةُ فيه، وغابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة والتزقت باذن الله .. وبقيتْ فاطمة في البيت ثلاثة ايام. قال: وأهل مكة يتحدَّثون بذلك في أفواه السكك، وتتحدَّث المخدرات في خدورهنَّ. قال: فلمَّا كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيتُ من الموضع الذي كانت دخلتْ فيه، فخرجت فاطمةُ وعليٌ (ع) على يديها"(4).

وأورد صاحب البحار عن الفتال النيسابوري في "روضة الواعظين" خبراً مختصراً عن عليِّ بن الحسين (ع) قال: "إنَّ فاطمة بنت اسد رضي الله عنها ضربها الطلق، وهي في الطواف، فدخلت الكعبة، فولدت أمير المؤمنين (ع) فيها"(5) قال: وفي آخر خبر موسى بن جعفر (ع) قال: "فولدتْ عليَّاً في الكعبة، طاهراً مطهراً لم يكن فيه كثافة، ووُلد مختوناً مقطوع السرة، ووجهه يضئ كالشمس، فسمَّاه أبو طالب عليَّاً، وحمله النبيُّ (ص) وأتى به إلى البيت"(6).

هذا نزرٌ يسيرٌ ممَّا ورد في مصادرنا، وأمَّا ما ورد في مصادر العامَّة:

فمن ذلك: ما أفاده الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين قال: فقد تواترت الأخبار أنَّ فاطمة بنت أسد ولدتْ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب في جوف الكعبة"(7).

ومنه: مأفاده ابن الصبَّاغ المالكي في الفصول المهمَّة قال: وُلد عليٌّ (ع) بمكة المشرفة بداخل البيت الحرام .. ولم يُولد في البيت الحرام قبله أحدٌ سواه، وهي فضيلة خصَّه الله تعالى بها إجلالاً له وإعلاء لمرتبته وإظهارا لتكرمته"(8)

 

ولولا خشية الإطالة لنقلت الكثير من النصوص التي أوردوه في مصنَّفاتهم، إلا أنه يمكنكم للوقوف على المزيد من مصادر العامَّة التى أوردت هذه المنقبة لعليِّ بن أبي طالب (ع) يمكنكم مراجعة كتاب الغدير للعلامة الأميني (رحمه الله)، فقد ذكر ما يفوق الستة عشر مصنَّفاً من مصنَّفات الحفَّاظ والمحدِّثين من أبناء العامة في الجزء السادس، وكذلك يُمكنكم مراجعة كتاب شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي (رحمه الله) فقد أورد الكثير من كلمات محدِّثي العامَّة ومؤرِّخيهم المعبِّرة عن التسيلم بوقوع هذه الفضيلة لعليٍّ (ع)(9).

الهوامش:

1- شرح نهج البلاغة -لإبن أبي الحديد- ج11 / ص44.

2- شرح نهج البلاغة -لإبن أبي الحديد- ج11 / ص45.

3- شرح إحقاق الحق -السيد المرعشي- ج4 / ص2.

4- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص707.

5- روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص81.

6- الفصول المهمة -ابن الصباغ- ص14.

7- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص483.

8- الفصول المهمة في معرفة الأئمة -ابن الصباغ- ج1 / ص171.

9- إحقاق الحق ج17 / ص364.

2025/01/13

لايمكن لأبي طالب إلا أن يكون مؤمنا!

الطاعن في إيمان سيد البطحاء أبي طالب (رض) بادعائه أنه رضوان الله عليه مات مشركا ولم يؤمن. يدعي، قبالة ذلك، الإيمان الثابت لشخص هو أبو سفيان بن حرب.

[اشترك]

مما يدلل بشكل واضح على الأمر لايعتمد البحث العلمي الذي يتوخى الباحث من ورائه الحقيقة.

 بل هو ادعاء له ماله من خلفيات مغرضة. حيث أن الفارق بين الرجلين في مدار الإيمان والشرك كبير جدا. فيكفي أبا سفيان أنه كان القائد الأعلى لجبهة الشرك المحاربة للاسلام على امتداد الدعوة النبوية الشريفة. ويكفي أبا طالب أنه ما إن توفي (رض) حتى هاجر النبي محمد ص من مكة إذ لم يعد معينا ولاحماية. بمعنى أن الإسلام طوال الفترة المكية كان بحماية ابي طالب (رض).

وبالنسبة إلى إيمان أبي سفيان، فإذا مادققنا النظر في مفاصل التاريخ سننتهي إلى مالا يقبل الشك من أنه محض ادعاء لاواقع له..

إن مشركي قريش ومنهم أبو سفيان، ومنذ بدء الدعوة، أدركوا صدق النبي محمد ص من أنه رسول من عند الله بشواهد كثيرة منها

أن الوليد بن المغيرة حين سمع من النبي الأكرم ص شيئا من القرآن، رجع إلى قومه ووصفه بقوله "والله، إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"  فقالوا مانفعل واتفقوا على ان يقولوا هو سحر. أي أنهم أقروا بمعجزة القرآن وأنه ليس من صنع النبي ص ولابد انه من الله ثم قالوا مانفعل أي كيف نعالج هذا الامر الحق الذي أضر بمصالحنا وهدد مكانتنا. وعليه يكون السؤال

مالذي جدّ على أبي سفيان عند فتح مكة ليكون الإسلام الذي ادعاه ايمانا حقا؟!

وهو قد أدرك صدق النبي ص منذ البدء ثم قاد الحرب تلو الحرب للقضاء على الإسلام!

وأما إيمان أبي طالب (رض) فعليها من الشواهد الكثير ومنها:

ـ مساعيه الكبيرة وتحمله الجهد في سبيل نصرة الإسلام وحماية النبي ص

ـ ماكتبه الإمام علي ع لمعاوية في رسالة لمعاوية وفيها:

(ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق)

        ولندع كل هذا فيما يخص ايمان ابي طالب (رض) الى نقطة فاصلة يستحيل معها الا أن يكون أبو طالب (رض) مؤمنا..

المدعى أن أبا طالب مات على الشرك..

بمعنى أنه كان يعبد الوثن ويقدسه

الثابت ان أبا طالب استمات في الدفاع عن دعوة النبي محمد ص ووفر له الحماية القصوى

دعوة النبي محمد ص قائمة في ركيزتها الأساس على انكار الوثن و تحقيره والانتقاص منه كونه صخرة لايضر ولاينفع.

وعليه فلايمكن لأبي طالب (رض) أن يجمع عبادة الوثن بما تتضمن من تقديس له ومعاونة الدعوة الرامية الى تحقيره والقضاء عليه. حيث لايمكن للأحد أن يقدس ويحقّر في نفس الوقت..

وإذا ماقيل أن أبا طالب نصر النبي ص لحمية الدم والقرابة التي كانت لها فعاليتها الكبيرة في المجتمع الجاهلي. فإن هذا لايضر بالنتيجة المنطقية التي وصلنا اليها في انه لايمكن الجمع بين التحقير والتقديس..

فالجاهلي الذي كان يؤمن أكثر مايؤمن برابطة الدم والعشيرة. لايمكن ان يعين أحدا من افراد عشيرته على الطعن بالعشيرة ورابطة الدم.

 

2025/01/06

كشف المستور: من قتل الإمام الهادي (ع)؟!

كانت شهادة الإمام الهادي (ع) بيد الخليفة العباسي المعتز. وقد نسبت روايةٌ سُمَّهُ الى المعتمد ، ولعل ذلك بسبب أن المعتمد نَفَّذَ أمر أخيه المعتز ، أو جاء إسمه تصحيفاً. والمعتز هو الزبير بن المتوكل ، ويعرف بابن قبيحة. والمعتمد أخوه أحمد بن المتوكل ، ويعرف بابن فتيان ، إسم أمه أيضاً.

[اشترك]

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٨٤ » : « كانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد في خلافة المعتز بالله ، وذلك في يوم الإثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين ، وهوابن أربعين سنة ، وقيل ابن اثنتين وأربعين سنة ، وقيل أكثر من ذلك ، وسمع في جنازته جارية تقول : ما ذا لقينا في يوم الإثنين قديماً وحديثاً ! وصلى عليه أحمد بن المتوكل « المعتمد » على الله ، في شارع أبي أحمد ، وفي داره بسامرا ، ودفن هناك ».

وفي تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٥٠٠ » : « وتوفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، بسر من رأى ، يوم الأربعاء لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ٢٥٤ ، وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكل ، فصلى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد ، فلما كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجتهم ، فرُدَّ النعشُ إلى داره فدفن فيها ، وسنهُ أربعون سنة ، وخلَّفَ من الولد الذكور اثنين : الحسن ، وجعفر ».

وفي دلائل الإمامة / ٤٠٩ : « كانت سِنُوُّ إمامته بقية ملك الواثق ، ثم ملك المتوكل ، ثم أحمد المستعين ، ثم ملك المعتز ، وفي آخر ملكه استشهد ولي الله ، وقد كمل عمره أربعون سنة ، وذلك في يوم الإثنين لثلاث خلون من رجب سنة خمسين ومائتين من الهجرة ، مسموماً ، ويقال إنه قبض الإثنين لثلاث خلون من شهر رجب سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة. ويقال يوم الإثنين لخمس ليال خلون من جمادى سنة أربع وخمسين ومائتين. ودفن بسر من رأى في داره ».

وفي إعلام الورى « ٢ / ١٠٩ » : « وكانت في أيام إمامته (ع) بقية ملك المعتصم ، ثم ملك الواثق خمس سنين وسبعة أشهر ، ثم ملك المتوكل أربع عشرة سنة ، ثم ملك ابنه المنتصر ستة أشهر ، ثم ملك المستعين وهوأحمد بن محمد بن المعتصم ، سنتين وتسعة أشهر ، ثم ملك المعتز وهوالزبير بن المتوكل ثماني سنين وستة أشهر وفي آخر ملكه استشهد ولي الله علي بن محمد (ع) ودفن في داره بسر من رأى ».

وقال ابن الجوزي في تذكرة الخواص « ١ / ٣٢٤ » : « وكان سنه يوم مات أربعين سنة. وكانت وفاته في أيام المعتز بالله ، ودفن بسر من رأى ، وقيل إنه مات مسموماً ».

وقال الخطيب في تاريخ بغداد « ١٢ / ٥٦ » : « أشخصه جعفر المتوكل على الله من مدينة رسول الله (ص) الى بغداد ، ثم الى سر من رأى ، فقدمها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر ، الى أن توفي ودفن بها في أيام المعتز بالله ».

٤٣٨

وقال ابن شهر آشوب « ٣ / ٥٠٥ » : « وألقابه : النجيب ، المرتضى ، الهادي ، النقي ، العالم ، الفقيه ، الأمين ، المؤتمن ، الطيب ، المتوكل ، العسكري.

ويقال له : أبوالحسن الثالث ، والفقيه العسكري. وكان أطيب الناس بهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمت علته هيبة الوقار ، وإذا تكلم سماه البهاء ، وهومن بيت الرسالة والإمامة ، ومقر الوصية والخلافة ، شعبة من دوحة النبوة منتضاةٌ مرتضاهْ. وثمرةٌ من شجرة الرسالة مجتناةٌ مجتباهْ. ولد بصرياء من المدينة للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين .. وقبض بسر من رأى الثالث من رجب سنة أربع وخمسين ومائتين .. وليس عنده إلا ابنه أبومحمد ، وله يومئذ أربعون سنة ، وقيل واحد وأربعون وسبعة أشهر. ومدة مقامه بسر من رأى عشرون سنة ، وتوفي فيها. وقبره في داره. وكان في سني إمامته بقية ملك المعتصم ، ثم الواثق ، والمتوكل ، والمنتصر ، والمستعين ، والمعتز. وفي آخر ملك المعتز استشهد مسموماً ..

وأولاده : الحسن الإمام ، والحسين ، ومحمد ، وجعفر الكذاب ، وابنته علية. بوابه : محمد بن عثمان العمري. ومن ثقاته : أحمد بن حمزة بن اليسع ، وصالح بن محمد الهمداني ، ومحمد بن جزك الجمال ، ويعقوب بن يزيد الكاتب ، وأبوالحسين بن هلال ، وإبراهيم بن إسحاق ، وخيران الخادم ، والنضر بن محمد الهمداني. ومن وكلائه : جعفر بن سهيل الصيقل. ومن أصحابه : داود بن زيد ، وأبوسليم زنكان ، والحسين بن محمد المدائني ، وأحمد بن إسماعيل بن يقطين ، وبشر بن بشار النيسابوري الشاذاني ، وسليمان بن جعفر المروزي ، والفتح بن يزيد الجرجاني ، ومحمد بن سعيد بن كلثوم وكان متكلماً ، ومعاوية بن حكيم الكوفي ، وعلي بن معد بن محمد البغدادي ، وأبوالحسن بن رجا العبرتائي.

ورواة النص عليه جماعة منهم : إسماعيل بن مهران ، وأبوجعفر الأشعري ، والخيراني. والدليل على إمامته : إجماع الإمامية على ذلك ، وطريق النصوص والعصمة ، والطريقان المختلفان من العامة والخاصة ، من نص النبي (ص) على إمامة الاثني عشر ، وطريق الشيعة النصوص على إمامته عن آبائه (ع) ».

مراسم جنازة الإمام (ع)

في الهداية الكبرى / ٢٤٨ : « الحسين بن حمدان قال : حدثني أبوالحسين بن يحيى الخرقي ، وأبومحمد جعفر بن إسماعيل الحسني ، والعباس بن أحمد ، وأحمد بن سندولا ، وأحمد بن صالح ، ومحمد بن منصور الخراساني ، والحسن بن مسعود الفزاري ، وعيسى بن مهدي الجوهري الجنبلاني ، والحسين بن غياث الجنبلاني ، وأحمد بن حسان العجلي الفزاري ، وعبد الحميد بن محمد السراج ، جميعاً في مجالس شتى : أنهم حضروا وقت وفاة أبي الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق صلوات الله عليهم ، والصلاة بسر من رأى ، فإن السلطان لما عرف خبر وفاته أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته ، وأن يحمل إلى دار السلطان حتى يصلي عليه ، وحضرت الشيعة وتكلموا وقال علماؤهم : اليوم يَبِينُ فضل سيدنا أبي محمد الحسن بن علي على أخيه جعفر ، ونرى خروجهما مع النعش. قالوا جميعاً : فلما خرج النعش وعليه أبو الحسن ، خرج أبومحمد حافي القدم مكشوف الرأس ، محلل الإزرار خلف النعش ، مشقوق الجيب مُخْضَلَّ اللحية بدموع على عينيه ، يمشي راجلاً خلف النعش ، مرةً عن يمين النعش ومرةً عن شمال النعش ، ولا يتقدم النعش.

وخرج جعفر أخوه خلف النعش بدراريع يسحب ذيولها ، معتمٌّ محبتكُ الإزار ، طلق الوجه ، على حمار يماني ، يتقدم النعش. فلما نظر إليه أهل الدولة وكبراء الناس والشيعة ، ورأوا زي أبي محمد وفعله ، ترجل الناس وخلعوا أخفافهم ، وكشفوا عمائمهم ، ومنهم من شق جيبه ، وحل إزاره ، ولم يمش بالخفاف من الأمراء وأولياء السلطان أحد ، فأكثروا اللعن والسب لجعفر الكذاب ، وركوبه وخلافه على أخيه ...

لما تلا النعش إلى دار السلطان سبق بالخبر إليه ، فأمر بأن يوضع على ساحة الدار على مصطبة عالية كانت على باب الديوان ، وأمر أحمد بن فتيان وهو المعتمد بالخروج إليه والصلاة عليه ، وأقام السلطان في داره للصلاة عليه إلى صلاة العامة ، وأمر السلطان بالإعلان والتكبير ، وخرج المعتمد بخف وعمامة ودراريع فصلى عليه خمس تكبيرات ، وصلى السلطان بصلاتهم ..

وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب ، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء ، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح ، ويشرب الشربات. وجعفر بغير هذه الصفة ، ويفعل ما يقبح ذكره من الأفعال.

قالوا جميعاً : وسمعنا الناس يقولون : هكذا كنا نحن جميعاً نعلم ما عند سيدنا أبي محمد الحسن من شق جيبه. قالوا جميعاً : فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة. بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية : يعقوب على يوسف حزناً. قال : يا أسفي على يوسف ، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

وفي الهداية الكبرى / ٣٨٣ : « حدثني أبو الحسن علي بن بلال وجماعة من إخواننا : أنه لما كان في اليوم الرابع من زيارة سيدنا أبي الحسن (ع) أمر المعتز بأن ينفذ إلى أبي محمد من يستركبه إلى المعتز ليعزيه ويسليه ، فركب أبو محمد إلى المعتز ، فلما دخل عليه رحب به وعزاه وأمر فرتب بمرتبة أبيه (ع) وأثبت له رزقه وزاد فيه ، فكان الذي يراه لا يشك إلا أنه في صورة أبيه (ع) ، واجتمعت الشيعة كلها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه ، إلا أصحاب فارس بن ماهَوَيْه ، فإنهم قالوا بإمامة جعفر بن علي العسكري (ع) ».

وفي إثبات الوصية للمسعودى « ١ / ٢٤٢ » : « واعتل أبوالحسن علته التي مضى فيها صلى الله عليه في سنة أربع وخمسين ومائتين ، فأحضر أبا محمد ابنه (ع) فسلم إليه النور والحكمة ومواريث الأنبياء (ع) والسلاح ، وأوصى إليه ، ومضى صلى الله عليه ، وَسِنُّه أربعون سنة.

وكان مولده في رجب سنة أربع عشرة ومائتين من الهجرة ، فأقام مع أبيه (ع) نحو سبع سنين ، وأقام منفرداً بالإمامة ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً.

وحدثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنه دخل الدار ، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين ، واجتمع خلق من الشيعة ، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد (ع) ولا عرف خبره إلا الثقات الذين نص أبوالحسن عندهم عليه ، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيرة ، فهم في ذلك إذْ خرج من الدار الداخلة خادمٌ فصاح بخادم آخر : يا رَيَّاشُ خذ هذه الرقعة وامض بها الى دار أمير المؤمنين وأعطها الى فلان وقل له : هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف الناس لذلك ، ثم فتح من صدر الرواق بابٌ وخرج خادمٌ أسود ، ثم خرج بعده أبومحمد (ع) حاسراً مكشوف الرأس ، مشقوق الثياب ، وعليه مبطنة بيضاء ، وكان وجهه وجه أبيه (ع) لا يخطئ منه شيئاً ، وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود ، فلم يبق أحد إلا قام على رجله ، ووثب إليه أبومحمد الموفق فقصده أبومحمد (ع) فعانقه ثم قال له : مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق ، والناس كلهم بين يديه.

وكانت الدار كالسوق بالأحاديث ، فلما خرج وجلس أمسك الناس ، فما كنا نسمع شيئاً إلا العطسة والسعلة ، وخرجت جارية تندب أبا الحسن (ع) فقال أبومحمد : ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة؟ فبادر الشيعة إليها ، فدخلت الدار ، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد (ع) فنهض صلى الله عليه وأخرجت الجنازة ، وخرج يمشي حتى أخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار موسى بن بقا ، وقد كان أبومحمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس ، وصلى عليه لما أخرج المعتمد ، ثم دفن في دار من دوره.

واشتد الحر على أبي محمد (ع) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فصار في طريقه الى دكان بقال رآه مرشوشاً « مصطبة » فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس ، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شابٌّ حسن الوجه نظيف الكسوة ، على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض ، قد نزل عنه فسأله أن يركبه ، فركب حتى أتى الدار ونزل.

وخرج في تلك العشية الى الناس ، ما كان يَخْرِمُ عن أبي الحسن (ع) حتى لم يفقدوا منه إلا الشخص. وتكلمت الشيعة في شق ثيابه وقال بعضهم : هل رأيتم أحداً من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال ؟ فوقَّعَ الى من قال ذلك : يا أحمق ما يدريك ما هذا ، قد شق موسى على هرون. وقام أبومحمد الحسن بن علي مقام أبيه (ع) ».

ملاحظات على شهادة الإمام (ع) ومراسم جنازته

١. شاء الله عز وجل أن يحفظ الإمام الهادي (ع) من المتوكل ، وأفشل محاولاته لقتل الإمام (ع). وأن يُقِرَّ عين وليه الإمام الهادي (ع) فيريه نهاية عدوه المتوكل فسلط عليه غلمانه الأتراك ، فقتلوه وهو سكران ذاهب العقل !

كما شاء عز وجل أن تكون شهادة الإمام (ع) بيد المعتز ، وهو الزبير بن المتوكل وكانت أمه جميلة جداً فسماها المتوكل قبيحة لإبعاد الحسد عنها ، وقد جمعت ثروةً طائلة لكنها بخلت أن تنقذ ابنها من القتل ! وقد صح الحديث بأنه لايقتل الأنبياء والأوصياء (ع) إلا أولاد الحرام ، فقد سئل الصادق (ع) عن قوله تعالى : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ .. فقيل له : من كان يمنعه ؟ قال : منعه أنه كان لرَشْدَةٍ ، لأن الأنبياء والحجج لايقتلهم إلا أولاد زنا ! « كامل الزيارات / ١٦٣ ».

٢. كانت شهادة الإمام (ع) بعد حرب استمرت سنة بين سامراء وبغداد ، من محرم ٢٥١ الى ٢٥٢ ، بين خليفتين هما : المعتز والمستعين « الطبري : ٧ / ٤٤٥ » وحكم المعتز بعدها نحو ثلاث سنين الى سنة ٢٥٥ ، وأقدم على قتل الإمام (ع) في رجب في سنة ٢٥٤ ، ثم ثار عليه الأتراك وقتلوه في السنة التالية ٢٥٥ ، ونصبوا المهتدي.

فمن هو المستفيد من قتل الإمام الهادي (ع) ، ومن الذي خطط لقتله ؟

الأمر المرجح أن المخطِّط والمنفِّذ هو المعتز ، فقد قتل المستعين مع أنه خلع نفسه وبايعه ، ولعله كان يخاف من تفاقم الثورات العلوية ، وأن يرفع ثائر منها إسم الإمام (ع) فينجذب الناس الى بيعته ويبايعوه !

٣. أمر المعتز أخاه المعتمد أن يقيم للإمام (ع) تشييعاً كبيراً ، وأن تحمل جنازته الى دار الخلافة ليصلي عليها ، قال في الهداية / ٢٤٨ : « فإن السلطان لما عرف خبر وفاته ، أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته ، وأن يُحمل إلى دار السلطان حتى يصلي عليه ». فصلوا عليه في دار الخليفة ، ثم صلوا عليه في شارع كبير ، ثم صلوا عليه في داره ودفنوه حيث أوصى. « مروج الذهب : ٤ / ٨٤ ، واليعقوبي : ٢ / ٥٠٠ ».

٤. كانت سياسة السلطة القرشية دائماً المبالغة في تشييع الإمام من العترة الطاهرة (ع) ، ولهم في ذلك أغراض ، أولها أن يبعدوا عن أنفسهم جريمة قتله !

بل كانوا يحرصون على الكشف الطبي على جنازته ، وإشهاد كبار القضاة والشهود بأن بدنه سالمٌ وأنه مات حتف أنفه ! حتى لايطالب بنو هاشم بدمه.

واستعملوا هذا الأسلوب مع خلفائهم الذين قتلوهم ، فكانوا يقتلون الخليفة بالتعذيب أو عصر خصيتيه ، ثم يأتون بالشهود فيشهدون أنه مات حتف أنفه !

قال في معالم الخلافة « ٣ / ٣٧١ » : « لما وليَ المعتز لم يمض إلا مدة حتى أُحضر الناس وأخرج المؤيد فقيل : إشهدوا أنه دعي فأجاب وليس به أثر !

ثم مضت أشهر فأحضر الناس وأخرج المستعين ، فقال : إن منيته أتت عليه وها هو لا أثر فيه ، فأشهدوا !

ثم مضت مُدَيْدَة واستخلف المهتدي فأخرج المعتز ميتاً وقيل : إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه ولا أثر به ! ثم لم تكمل السنة حتى استخلف المعتمد فأخرج المهتدي ميتاً وقيل : إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه من جراحته » !

لكنهم كانوا يسلمون جنازة الخليفة الى أقاربه ، ولايهتمون بالصلاة عليه وتشييعه ، لأنه ليس له جماهير محبة كالإمام (ع) ليكسبها لخليفة الجديد بذلك !

٥. يتضح من أخبار تشييع الإمام (ع) ودفنه ، أنهم كانوا يهتمون بالتشييع والصلاة على الجنازة والدفن. وفي اليوم الثاني يجلس أهل الميت لقبول التعزية. ففي الهداية / ٢٤٩ : « وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب ، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء ، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح .. قالوا جميعاً : فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة.

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية : يعقوب على يوسف حزناً. قال : يا أسفي على يوسف ، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

٦. اشترى النبي وعترته الطاهرون صلوات الله عليهم ، محال قبورهم الشر ـ يفة على سنة أبيهم إبراهيم (ع) ، فقد نصت التوراة ومصادرنا على أنه اشترى مكان قبره في الخليل من عفرون الحثي ، وكان مزرعة فيها الغار الذي دفن فيه هو وأسرته (ع). واشترى النبي (ص) مكان مسجدة وبيوته وقبره الشر ـ يف ، عندما بركت قربه الناقة : « وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء ، فأرضاهما معاذ ». « مناقب آل أبي طالب : ١ / ١٦٠ ».

واشترى الإمام الهادي (ع) داره في سامراء ، ثم اشترى دوراً ضمها اليها.

قال في تاريخ بغداد « ١٢ / ٥٧ » : « وفي هذه السنة ، يعني سنة أربع وخمسين ومائتين ، توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى ، في داره التي ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني ».

وفي إثبات الوصية للمسعودي « ١ / ٢٤٣ » : « وقد كان أبو محمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس ، وصلى عليه لما أخرجه المعتمد ، ثم دفن في دار من دوره ».

فهو يدل على أنها كانت دورٌ متعددة متصلة ببعضها ، وتدل عليه نصوص كثيرة وصفت دار أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري (ع).

منها ما رواه في الإرشاد « ٢ / ٣١٧ » يصف ساحة إحداها ولعلها الدار الأساسية : « عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن (ع) وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله ، فقالوا قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس ».

ومنها قول الخادم كما في الكافي « ١ / ٣٢٩ » : « وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في دار الرجال ، قال : فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال ».

 

مقتبس من كتاب الإمام علي الهادي عليه السلام

2025/01/04

الإمام علي بن موسى الرضا (ع) وولاية العهد

مثّل أئمة اهل البيت ع مصدر الخطر الأكبر على الخلافات المنحرفة، حتى أننا لنجد أن القائمين على تلك الخلافات من امويين وعباسيين وغيرهم لايهتمون بأعدائهم المباشرين الذين يألبون ويحملون السلاح ضدهم قدر اهتمامهم بالائمة المعصومين ع رغم أنهم ع لم يكونوا يبادروا الى أي نشاط معاد ضد السلطات الحاكمة.  وذلك لاسباب منها

[اشترك]

1. أنهم أصحاب الحق الشرعي في الخلافة

2. تأثيرهم الكبير في الناس، باخلاقهم وعلومهم وغير ذلك من صفات واخلاق تحلوا بها وكانت على مستوى يفوق البشر

وقد دأب الخلفاء المنحرفون على مواجهة خطر المعصومين ع بالعنف والتصفية والقمع، للحفاظ على مابأيديهم من سلطة وملك. حتى وصلت الخلافة الى المأمون العباسي الذي كان يتمتع بمواهب في الذكاء والحنكة السياسية. وانتهى به التفكير في خطر الائمة ع بأن أساليب العنف والقمع غير مجدية ولم تنجح في إزالة الخطر. فعمد الى خطة بديلة اقتضت نقل الامام، الذي عاصر فترة حكمه وهو الامام علي بن موسى الرضا ع من مقر سكناه في المدينة الى مرو حيث كان يقيم المأمون، وعرض ولاية العهد عليه.

لقد أدرك المأمون العباسي أن خطر الائمة المعصومين ع متأت من مكانتهم الاجتماعية لدى الجماهير لما لهم ع صفات ومزايا فاضلة في مقدمتها النزاهة والاستقامة والعدل. ففكر في نقل الامام المعصوم من دائرة العدو الذي يزيده اضطهاد السلطة له مكانة في الناس. الى دائرة الحليف الذي يشارك بالسلطة. ليظهر الامام المعصوم ع امام الناس كنعصر من عناصر حكومة المأمون. ولما اعتقد المأمون أن المنصب العالي في حكومته بما فيه من جاه وسلطة سيكفلان له اغواء الامام وجره الى واقع الانحراف الذي كانت عليه عناصر حكومته. فإنه سيتخلص من خطر الامامة. بمعنى أن خطر الامام متأت من مكانته الاجتماعية المتأتية من سلوكه المثالي. فإذا قضى على سلوكه المثالي أدى ذلك الى القضاء على مكانته الاجتماعية وحينها لن يشكل الامام المعصوم ع أي خطر على الخلافة.

لقد عرض المامون الخلافة نفسها على الامام الرضا ع بغية الوصول الى أكبر حد من الاغراء لجر الامام ع الى شرك الخديعة التي نصبه له. ولكن الامام الرضا ع سأل المأمون سؤالا، حول عرض الخلافة عليه، هدد به الأسس التي قامت عليها شرعية الخلافة العباسية، حيث قال الامام ع له " إذا كانت الخلافة من حقكم انتم العباسيون كونكم الأقرب نسبا للنبي محمد ص ( كما يدعي العباسيون في إضفاء الشرعية على خلافتهم) فكيف تتنازل لي عنها؟؟ وإذا لم تكن من حقكم (أي انكم أيها العباسيون كاذبون) فايضا كيف تتنازل لي عنها.

فاضطر المأمون الى عرض ولاية العهد على الامام الرضا ع ولم يترك للامام ع في هذه حرية القبول أو الرفض. فما كان من الامام ع إلا أن وضع لقبوله ولاية العهد شرطا قضى بها على خطة المأمون وفضح حكمه الفاسد امام العامة. حيث كان الشرط أنه يقبل ولاية العهد شرط ان تكون ولاية صورية يمتنع فيها الامام ع عن ممارسة أي سلطة ويرفض أية صلاحية.. فكان ذلك الشرط، عند معرفة الناس به، بمثابة آية واضحة على موقف الامام الرضا ع الملتزم بجادة الحق ورفضه الانغماس في مرتع الفساد والانحراف.

وهنا وجد المامون العباسي أن بصيرة الامام الرضا ع والتزامه المطلق للحق قد أفشلا خطته فشلا ذريعا. ولكنه قبل بشرط الامام ع ريثما يجد الوسيلة التي تعالج ذلك الفشل.  وذلك عن طريق محاولات شتى أراد بها تشويه الصورة المثالية والمتكاملة التي يتحلى بها الامام الرضا ع مثل اعداده المناضرة المعروفة ووضعه الامام ع امام خيرة علماء عصره، لعل الامام ع يظهر منه جهل في نقطة ما أو يعجز عن حل مسألة معينة، فخرج الامام ع من المناضرة على حالة لاتوصف من غزارة العلم وقوة الحجة وسداد المنطق وتأكد مناضروه من أنه رجل يتعالى على الواقع البشري. ومثل طلبه من الامام ع إنزال المطر بصلاة الاستسقاء فما إن رفع الامام الرضا ع يديه بالدعاء حتى اغرق المطر الأرض.

لقد عاش الامام الرضا ع في مرو صورة ناصعة، عجز المأمون العباسي عن الحاق أي شائبة بها، وكانت تلك الصورة مدعاة لانبهار الناس وايمانهم بأنه واحد من الصفوة التي اختارها الله برحتمه أئمة اطهار.    

2024/12/29

واقعة الجمل.. طمع وخيانة قادا إلى مواجهة دامية!

تغص صفحات التاريخ الإسلامي بمواقف تكشف معادن الرجال، وتميز بين من يطلب الحق ومن يسعى وراء المناصب. وعلى رمال البصرة كُتبت بالدم قصة نكث وخيانة، بدأت بطمع في منصب، وانتهت بمقتل الآلاف.

[اشترك]

قصة تروي كيف تحول المبايعون إلى ناكثين، وكيف تبدلت المواقف حين لاحت في الأفق مطامع السلطة والولاية.

طمع المنصب وبداية النكث:

بعد مقتل عثمان بن عفان، تجمع المسلمون في المدينة المنورة لمبايعة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

كان من بين المبايعين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، اللذان سرعان ما كشفا عن طمعهما في المناصب.

تقدما للإمام (عليه السلام) يطلبان الولاية، فكان رده حازماً وواضحاً: "إني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي".

من المدينة إلى مكة.. رحلة النكث:

حين خاب أملهما في نيل المناصب، دب اليأس في نفسيهما. استأذنا الإمام بحجة العمرة، لكن وجهتهم الحقيقية كانت مختلفة تماماً.

توجها إلى مكة، حيث التقيا بعائشة، التي كانت من أشد المحرضين على قتل عثمان. كانت عباراتها مشهورة ومدوية: "اقتلوا نعثلاً.. قتل الله نعثلاً.. لقد غير سنة رسول الله".

مسار الخيانة.. من مكة إلى البصرة:

خرج الثلاثة من مكة متجهين نحو الشام، لكن مصادفة غيرت مسار التاريخ. في الطريق، التقوا بعبد الله بن عامر، عامل عثمان السابق على البصرة، الذي أقنعهم بالتوجه إلى البصرة بدلاً من الشام، مشيراً إلى ما فيها من موارد وقوة عسكرية.

المواجهة الدامية:

في البصرة، واجههم عثمان بن حنيف، والي الإمام علي (عليه السلام)، في معركة انتهت بأسره وإهانته. حين بلغ الخبر الإمام علياً (عليه السلام)، جهز جيشه وتوجه نحو البصرة. حاول الإمام درء الفتنة ومناشدة طلحة والزبير، لكن الطمع والخيانة كانا أقوى من صوت الحق.

حصاد الدم:

اندلعت المعركة بعنف، لتحصد أرواح ستة عشر ألفاً وسبعمائة وسبعين رجلاً من أصحاب الجمل، وأربعة آلاف من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام). انتهت المعركة بانكسار جيش أصحاب الجمل.

العدل حتى مع الناكثين:

رغم مرارة النكث والخيانة، أظهر الإمام علي (عليه السلام) سماحة الإسلام وعدله. أمر محمد بن أبي بكر بإنزال عائشة في دار آمنة بنت الحارث، وأمر بإعادتها إلى المدينة بأمان.

ثم عاد (عليه السلام) إلى الكوفة، تاركاً درساً في العدل حتى مع المخالفين.

أعداد القتلى:

قُتل في معركة الجمل من جيش الإمام عليّ (عليه السلام) خمسة آلاف‏) تاريخ الطبري: 4/539، العقد الفريد: 3/324، الكامل في التاريخ: 2/346، مروج الذهب: 2/360، البداية والنهاية: 7/245).

وتُجمع النصوص التاريخيّة كلّها على هذا العدد بدون أدنى اختلاف.

ولكن هناك اختلاف كبير بين هذه النصوص حول عدد قتلى جيش الجمل بحيث لا يمكن التعويل كثيراً على أيّ منها.

فقد ذكرت بعض الأخبار التاريخيّة أنّ عدد من قُتل منهم عشرون ألفاً (العقد الفريد:3/324.)، بينما جاء في أخبار اُخرى أنّه قُتل منهم ثلاثة عشر ألفاً (تاريخ الطبري: 4/539.)، وعلى خبرٍ آخر عشرة آلاف‏ (تاريخ الطبري: 4/539، الكامل في التاريخ: 2/346، البداية والنهاية: 7/245.(، أو خمسة آلاف‏( مروج الذهب: 2/360.).

وجاء في نقل سيف بن عمر أنّه قُتل منهم خمسة آلاف، وهو-في العادة-ينقل الأخبار الكاذبة، أو يختلقها من عنده.

وما ذُكر من أنّ عدد قتلى أصحاب الجمل كان عشرة آلاف، وإن لم يأتِ في مصادر تاريخيّة كثيرة، إلإّ أنّ نبوءة الإمام عليّ (عليه السلام) في عدد قتلاهم تؤيّد هذا المعنى.

فقد قال لمّا بلغه خروج عائشة:

))وقد ـ واللَّه - علمتُ أنّها الراكبة الجمل لا تحلّ عقدةً ولا تسير عقبةً ولا تنزل منزلاً إلّا إلى معصية؛ حتى تُورد نفسها ومن معها مورداً يُقتل ثلثهم، ويهرب ثلثهم، ويرجع ثلثهم))‏ (الإرشاد: 1/246.).

وبما أنّ عدد أصحاب الجمل كان ثلاثين ألفاً فيجب أن يكون عدد قتلاهم عشرة آلاف.

وذكر الشيخ المفيد في كتاب الجمل أنّ مجموع القتلى بلغ خمسةً وعشرين ألفاً، فإذا نقص منها خمسة آلاف ممّن قتلوا في جيش الإمام يبقى العدد عشرون ألفاً، وهذا يؤيّد النصّ الوارد في أنّ عدد من قُتل منهم عشرون ألفاً.

وواصل الشيخ المفيد يقول: وروى عبد اللَّه بن الزبير رواية شاذّة أنّهم كانوا خمسة عشر ألفاً. قيل: ويوشك أن يكون قول ابن الزبير أثبت. ولكنّ القول بذلك باطل؛ لبعده عن جميع ما قاله أهل العلم به‏( الجمل: 419.).

وكلام اُمّ ‏أفعى مع عائشة-الذي ورد في عيون الأخبار- يؤيّد صحّة هذا القول.

على أنّه ذكرت بعض المصادر أنّ مجموع قتلى الفريقين كان ثلاثين ألفاً (تاريخ اليعقوبي: 2/183؛ تاريخ الإسلام للذهبي: 3/484.)، فيما ذكرت اُخرى أنّه كان عشرين ألفاً(أنساب الأشراف: 3/59.).

وفي عيون الأخبار: دخلت اُمّ ‏أفعى العبديّة على عائشة [بعد وقعة الجمل‏] فقالت: يا اُمّ‏المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت: وَجَبَت لها النار. قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً؟ قالت: خذوا بيد عدوّة اللَّه(عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/202، العقد الفريد: 3/328 وفيه «اُمّ‏ أوفى العبديّة» وراجع أنساب الأشراف.

المصدر: موقع الأئمة الاثني عشر + مركز الأبحاث العقائدية

2024/12/16

 سجين بلا تهمة: كيف أسقط الإمام الكاظم (ع) شرعية العباسيين؟

الإمام موسى بن جعفر (ع) قبسة من موقفه السياسي.. قامت الخلافة الاموية ـ فيما يتعلق بالواجهة الايدلوجية التي تضفي الشرعية على قيام دولتها ونظامها الحاكم ـ على اساس من فكرة الحق الالهي، فالارادة الالهية مطلقة تفعل ماتشاء ومن مظاهر انبساطها هي ان تقدّر ما تشاء من حكام على الرعية بمعزل عن مسألة الصلاح والفساد.

[اشترك]

أي ان كل من اعتلى سدة الحكم ـ صالحا أم طالحا ـ اعتلاها بمشيئة الله، أي الله من جعله على رقاب الناس، إن صالحا فنعمة من الله وإن طالحا فاختبار وامتحان وفي كليهما لايجوز التمرد والثورة عليه لانها ثورة ورفض لمشيئة الله وارادته.

فكانت ثورة الطف الاداة الفاعلة لتهديم هذه الشرعية من الجذور وإلفات نظر الناس الى بطلانها والى ضرورة الثورة على كل مظاهر الانحراف والفساد. فيما اعتمدت الخلافة العباسية على طرح آخر لنفس الغرض وهو إضفاء الشرعية على جهازها الحاكم وتوليه الخلافة، وهذا الطرح قائم على مسألة القرابة، فالأقرب الى رسول الله ص نسبا هو الاحق بالخلافة ولما كان العباسيون هم الاقرب بما يربطهم بالنبي ص من كونهم ابناء عمه، فهم الأحق والخلافة حقهم الشرعي، وهذا ماحطمه الامام الكاظم ع في موقف سجله التاريخ حيث وقف هارون الرشيد امام قبر النبي الاكرم ص وقال" السلام عليك يابن العم" لغرض إسماع الناس بما بينه وبين النبي ص من قربى يختص العباسيون بها، وهنا جاء قول الامام الكاظم ع ليزلزل ذلك البنيان حيث قال بعد انتهاء الرشيد من قوله وامام الملأ الذي حرص الرشيد على إسماعه.

 قال " السلام عليك يا أبه" وهناك يكون الامام الكاظم ع قد خاطب الرشيد والعباسيين والمجتمع الاسلامي في وقته وعموم الامة الاسلامية على مر اجيالها، بأنه على نفس مايعتمده العباسيون من تبرير احقيتهم يكون هو الأحق. ولهذا سجنه الرشيد، وقد جرّ الرشيد على نفسه بسجن الامام الكاظم ع أيما وبال، لما كان يتمتع به الامام ع من شهرة ومكانة اجتماعية كبيرة، فواجه الرشيد بهذا تساؤلا ملحا من العامة عن سبب سجنه لرجل لم تبدر منه بادرة في منازعة الرشيد السلطان ولايشغله غير العبادة وفعل الخير والاحسان ومساعدة الناس.

وهنا كانت ورطة الرشيد، إن لم يرد على تساؤلهم ظهر بمظهر الحاكم الظالم الجائر الذي يسجن شخصا كالكاظم ع بدون سبب وهو في الوقت نفسه لايقدر ان يبيّن لهم السبب الحقيقي حيث تتهاوى شرعية خلافته، لهذا عمدّ الى التشديد على الامام ع وجعله في معاناة لاتحتمل في السجون والطوامير أملا في ان يلتمس الامام ع العفو من الرشيد فتتهاوى مكانته الاجتماعية الفذة وتضمحل هيبته.

وقد ظل يعرض عليه ذلك، وهنا يأتي دور الامام الكاظم ع الريادي حيث رفض وبشكل قاطع ان يطلب صفحا او عفوا من الرشيد ليظل تساؤل العامة عن سبب سجنه زلزالا يهز العرش العباسي. ولما آيس الرشيد من استجابة الامام الكاظم ع لطلب العفو عمد الى سمّه.

ومن جهة أخرى فقد كانت مشكلة الرشيد مع سجن الإمام الكاظم ع والتي عاناها كثيرا، هي تأثير الإمام ع الروحي على سجانيه وجعلهم يتعاطفون معه ويعجبون به حتى انهم كانوا يخاطبون الرشيد طالبين نقله من سجونهم او انهم سيخرجونه بانفسهم حيث وصل الأمر باحدهم أن قال للرشيد انه يدعو حتى لك انت بالخير .. حتى انتهى الأمر بالرشيد أن سلم الإمام ع إلى الفضل بن يحيى البرمكي في أن يحبسه في داره ويضيق عليه إلى أقصى حد ولكن الفضل كغيره لم يصمد أمام تأثير الإمام ع وأخلاقه وسمو روحه فوسع عليه ووفر له أسباب الراحة حتى حدث أن دخل الرشيد غفلة فرأى ما فيه الإمام ع من راحة ودعة فغضب من الفضل وجفا اباه واخاه.. فكان لهذه الجفوة الاثر البالغ في نفس ابيه يحيى البرمكي.. فرضا الرشيد يعني التقلب في النعيم الذي يعيشونه، فسارع إلى الرشيد يسأله عما يمكن أن يفعله ليمحو خطأ ابنه الفضل .. فأخبره الرشيد تلميحا أن ذاك يتم بقتل موسى بن جعفر ع فسارع يحيى ليقوم بالجريمة مع السندي .. ولكن لم تمض الا مدة يسيرة حتى قام الرشيد بما يسمى بنكبة البرامكة حيث لم يبق منهم رجل.

2024/12/14

شرب من ماء الحياة.. هل الخضر لا يزال حيّاً؟!

هل ثبت أن الخضر (ع) شرب من ماء الحياة؟

الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

نعم ورد ذلك في روايات عديدة، وفيها ما هو معتبرٌ سنداً كالتي رواها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كمال الدين بسندٍ معتبر عن الحسن بن علي بن فضال قال: سمعتُ أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) يقول: "إنَّ الخضر (ع) شرب من ماء الحياة، فهو حيٌّ لا يموت حتى يُنفخ في الصور، وإنِّه ليأتينا فيسلِّم فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنَّه ليحضر حيث ما ذُكر، فمن ذكره منكم فليسلِّم عليه، وإنَّه ليحضر الموسم كلَّ سنة فيقضي جميع المناسك، ويقف بعرفة فيؤمِّن على دعاء المؤمنين، وسيُؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته"(1).

الهوامش:

1- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص 390.

2024/12/07

حجاب الزهراء (ع): هل كانت ترتدي النقاب؟!

هل تُوجد رواية عن أهل البيت (ع) عن كيفيَّة لبس السيدة فاطمة الزهراء (ع) للحجاب؟ يعني هل الزهراء (ع) كانت تسترُ كامل وجهها؟ لأنَّ معظم النساء في مجتمعنا في اعتقادهن أن تغطية الوجه بالكامل هو اقتداء بالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفتاوى معظم المراجع تقول الواجب على المرأة ستر كامل البدن ما عدا الوجه والكفين؟

[اشترك]

نعم لم يكن أحدٌ من الرجال الأجانب يرى وجه فاطمة (ع) وهذا أمر متسالَمٌ عليه عندنا، ويُؤكد ذلك ما ورد حتى في كتب العامة عن الحسن البصري بسندٍ وُصف بالحسن أنَّ رسول الله (ص) سأل عن أيِّ شيء خيرٌ للمرأة ؟ فقالت فاطمة (ع): "أن لا ترى رجلاً ولا يراها". فقال النبيُّ (ص) تعقيباً على كلام فاطمة (ع): صدقت إنَّها بضعةٌ مني" وفي رواية أنَّه ضمها إليه وقال: ذريَّةٌ بعضها من بعض(1).

وورد في طريقٍ آخر أنَّ فاطمة (ع) قالت جواباً لسؤال النبيِّ (ص) "لا يرين الرجال ولا يراهن" فقال النبيُّ (ص): "إنَّ فاطمة بضعةٌ مني"(2).

فإذا كان خيرٌ للمرأة أنْ لا يراها رجل فأجدر مَن يلتزم بهذا الخُلق الرفيع هي السيدة فاطمة (ع) فهي أكمل النساء وأُسوتهن.

وقد ورد في نوادر الرواندي وكتاب الجعفريات بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) قال: "إنَّ فاطمة بنت رسول الله (ص) استأذن عليها أعمى فحجبتَه، فقال لها النبيُّ (ص) لم حجبته وهو لا يراك، فقالت (ع): يا رسول الله، إن لم يكن يراني فأنا أراه، وهو يشم الريح، فقال النبيُّ (ص): أشهد أنَّك بضعةٌ مني"(3).

فهذه الرواية تُعبِّر عن كمال احتجاب السيدة فاطمة (ع) بحيث أنها تتحاشى عن أنْ يجد الأعمى ريح ثيابها.

وحينما خرجت فاطمة (ع) مضطرةً للذود عن الحقِّ المسلوب أفادت الروايات أنَّها لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها .. فنيطت دونها ملاءة .."(4).

فرغم أنَّها كانت قد لاثت خمارها على رأسها واشتلمت بجلبابها وكانت ذيول ثيابها تتجاوز أسفل قدميها حتى أنَّها تطأ ذيولها حين كانت تمشي رغم كلِّ ذلك ضُربت دونها ملاءة أي ساتر يحول دون رؤية الرجال لمجلسها.

============

الهوامش:

1- كنز العمال -المتقي الهندي- ج16 / ص601، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج43 / ص84.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج20 / ص67.

3- جامع أحاديث الشيعة -السيد البروجردي- ج20 / ص299.

4- الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص132.

2024/12/05

هذا ما حدث: اللحظات الأولى للهجوم على دار الزهراء (ع)!

فقد رجع أهل السقيفة إلى المسجد، وطرقوا الباب على علي «عليه السلام»، بعد فراغه من دفن النبي «صلى الله عليه وآله»، وكانت زوجته فاطمة الزهراء «عليها السلام» وراء الباب عند القبر، وكأنها تبكي أباها، وتناجيه، وتودعه بدموعها ، وبكلماتها الأخيرة.

[اشترك]

فسألت : من الطارق ؟!  وإذ بهم يقتحمون عليها الباب بعنف، فعصروها بين الباب والحائط، فصرخت، وأسقطت جنينها.. فسمع علي «عليه السلام» صوتها، فبادر المهاجمين، فهربوا، وخلَّوها رهينة الآلام، والأوجاع قد حصل وكل ذلك في ثوان معدودة .  وانصرف علي «عليه السلام» لإسعاف سيدة النساء، وبقي معها إلى الصباح، وهم مكتنفون باب داره. وجاء أبو بكر في الصباح إلى المسجد، وجلس على المنبر، وصار الناس يبايعونه.

الصحيح من سيرة الإمام علي ( ع )، ج ٩، السيد جعفر مرتضى العاملي، ص ١٤٧

2024/12/05

معركة حُنَين.. كيف حوّل النبي الهزيمة إلى نصر؟!

‏«حنين» منطقة قريبة من الطائف، و بما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها، و قد عبّر عنها في القرآن ب «يوم حنين» و لها من الأسماء- غزوة أوطاس، و غزوة هوازن أيضا.

[اشترك]

‏أمّا تسميتها بأوطاس، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة- و أمّا تسميتها بهوازن، فلأن إحدی القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعی بهوازن.

‏أمّا كيف حدثت هذه الغزوة، فبناء علی ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف و قال لمن حوله: من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة، فقالوا: من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

‏فلما بلغ ذلك النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلی أرض هوازن‌

[راجع الكامل لابن الأثير، ج ٢، ص ٢٦١، نقلنا القصة بشي‌ء من الاختصار.]

٢.

‏و بالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة و المسائل العامّة فيها، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر، و ما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي، بناء علی روايته القائلة: إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلی مالك بن عوف و اجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة، و كانوا قد جاءوا بأموالهم و أبنائهم و أزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة، و هكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

‏فعقد النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لواءه، و سلمّه عليّا عليه السلام و أمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلی حنين، و اطّلع‌ النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع، فقال صفوان: أ تريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي: بل عارية نضمنها و نعيدها سالمه إليك، فأعطی صفوان النّبي مائة درع علی أنّها عارية، و تحرك مع النّبي بنفسه إلی حنين.

‏و كان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة، فأضيف عددهم إلی العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة، و صاروا حوالي اثني عشر ألفا، و تحركوا نحو حنين.

‏فقال مالك بن عوف- و كان رجلا جريئا شهما- لقبيلته: اكسروا أغماد سيوفكم، و اختبئوا في كهوف الجبال و الوديان و بين الأشجار، و اكمنوا لجيش الإسلام، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم و أبيدوهم.

‏ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا: إن محمّدا لم يواجه حتی الآن رجال حرب شجعانا، ليذوق مرارة الهزيمة!! فلما صلّی النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلی حنين، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب، و أصبح المسلمون مرمی لسهامهم، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش، فكان أن ذهل المسلمون و اضطروا و فرّ الكثير منهم.

‏فخلّی اللّه بين جيش المسلمين و جيش العدو، و ترك الجيشين علی حالهما، و لم يحم المسلمين لغرورهم- مؤقتا- حتی ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

‏إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه، و كان النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم في (قلب) الجيش و حوله بنو هاشم، و فيهم عمه العباس، و كانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

‏فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة علی النّبي فأمر النّبي عمّه العباس- و كان جهير الصوت- أن يصعد علی تل قريب و ينادي فورا: يا معشر المهاجرين و الأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلی أين‌ تفرّون؟ هذا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم.

‏فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا و قالوا: لبيّك لبيّك، و لا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين و حملوا علی العدوّ من كل جانب حملة شديدة، و تقدّموا بأذن اللّه و نصره، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة، و المسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن، و غنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم‌

[مجمع البيان، ج ٥، ص ١٧- ١٩.]

٣.

‏و نقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي و أعلنوا إسلامهم، و أبدی لهم النّبي صفحه و حبّه، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته و أسراه، و صيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.

‏و الحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر- بالإضافة إلی غرورهم لكثرتهم- هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا و كان فيهم جماعة من المنافقين طبعا، و آخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم، و جماعة منهم كانوا بلا هدف، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.

‏أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم و علي عليه السّلام و جماعة قليلة من الأصحاب، و تذكرهم عهودهم السابقة و إيمانهم باللّه و الركون إلی لطفه الخاص و نصره.

‏ من هم الفارّين‌؟

‏ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة، و ما تبقی منهم كانوا عشرة فحسب، و قيل أربعة عشر شخصا، و أقصی ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.

‏و لما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة، فإنّ بعض المفسّرين سعی لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.

‏يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه: لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة، و فيهم المنافقون و ضعاف الإيمان و الطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا و تقهقروا إلی الخلف، فاضطرب باقي الجيش طبعا، و حسب العادة- لا خوفا- فقد فرّوا أيضا، و هذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا- ففرارهم لا يعني ترك النّبي و عدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه، حتی يستحقوا غضب اللّه!!

[راجع تفسير المنار، و إقرار التفصيل فيه، ج ١، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.]

٤ و نحن لا نعلّق علی هذا الكلام، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

‏كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة و هي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة و فرار المسلمين ينقل ما يلي:

‏فإذا عمر بن الخطاب في الناس، و قلت: (الراوي): ما شأن الناس؟ قال: أمر اللّه، ثمّ تراجع الناس إلی رسول اللّه‌

[المصدر السابق.]

٥.

‏غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة، و التفتنا إلی القرآن الكريم، وجدناه لا يذم جماعة بعينها، بل يذم جميع الفارين.

‏و لا ندري ما الفرق بين قوله تعالی‌ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‌ حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث، و بين عبارة أخری وردت في الآية (١٦) من سورة الأنفال إذ تقول‌ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلی‌ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّـهِ‌؟! فبناء علی ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلی بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ و رجعوا.

الإيمان و السكينة

‏السكينة في الأصل مأخوذة من السكون، و تعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك و الخوف و القلق و الاستيحاش عن الإنسان، و يجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة و الملتوية. و السكينة لها علاقة قربی بالإيمان، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة اللّه التي لا غاية لها، و يتصورون لطفه و رحمته يملأ قلوبهم موج الأمل و يغمرهم الرجاء.

‏و ما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات‌

[تفسير البرهان، ج ٢، ص ١١٤.]

٦، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان‌

[تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ٢٠١.]

٧ كل ذلك ناظر إلی هذا المعنی.

‏و نقرأ في القرآن في الآية (٤) من سورة الفتح قوله تعالی: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ‌.

‏و علی كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة، و موهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة، و أن يحس في نفسه عالما من الدعة و الاطمئنان برغم كلّ ما يراه.

‏و ممّا يسترعي النظر أن القرآن- في الآيات محل البحث- لا يقول: ثمّ أنزل اللّه سكينته علی رسوله و عليكم، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي علی ضمير الخطاب (كم)، بل تقول الآية عَلی‌ رَسُولِهِ وَ عَلَی الْمُؤْمِنِينَ‌ و هي إشارة إلی أن المنافقين و أهل الدنيا و الذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة و الاطمئنان، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

‏و نقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء اللّه و رسله‌، فلذلك كانوا- في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها- أصحاب عزم راسخ و سكينة و اطمئنان، و إرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

‏و كان نزول السكينة علی النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم في معركة حنين- كما ذكرنا آنفا- لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة، و إلّا فهو كالجبل الشامخ الركين، و كذلك ابن عمّه علي عليه السلام و قلة من أصحابه (المسلمين).

‏٤- في الآيات محل البحث إشارة إلی أنّ اللّه نصر المسلمين في مواطن كثيرة! هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي و حروبه، التي أسهم فيها صلّی اللّه عليه و آله و سلّم شخصيّا، و قاتل الأعداء، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم و لم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.

‏إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت عليهم السّلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.

‏و قد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «و يقال أنّه قد سمّ»، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. و أخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجواد عليه السلام‌

‏فقال: «الكثير ثمانون».

‏فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ثمّ قال: عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون علی أعدائهم فكانت ثمانين‌

[تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ١٩٧.]

٨.

‏٥- إن ما ينبغي علی المسلمين أن يعتبروا به و يلزمهم أن يأخذوا منه درسا بليغا، هو أن ينظروا إلی الحوادث التي هي علی شاكلة حادثة حنين، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان، ذوي الإرادة و التصميم، حتی لو كانوا قلة.

‏كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلی انتصار علی العدو و كانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.

‏فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة و تضحية، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية، و ليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

*مقتطف من تفسير الأمثل

الهوامش:

‏١ لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات ٩- ١٢ من هذا الجزء نفسه.

‏٢ راجع الكامل لابن الأثير، ج ٢، ص ٢٦١، نقلنا القصة بشي‌ء من الاختصار.

‏٣ مجمع البيان، ج ٥، ص ١٧- ١٩.

‏٤ راجع تفسير المنار، و إقرار التفصيل فيه، ج ١، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.

‏٥ المصدر السابق.

‏٦ تفسير البرهان، ج ٢، ص ١١٤.

‏٧ تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ٢٠١.

‏٨ تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ١٩٧.

2024/11/25

حرقوا دارها.. هل قصة "كسر ضلع الزهراء" اخترعها الشيعة؟!

كتب الشيخ نهاد الفياض: في البدء لابُدَّ أنْ يُعلم أنَّ أصل الظُلامات الواقعة على الصدِّيقة الزهراء (ع) بلغت حدَّاً لا يُمكِنُ لأحدٍ إنكارُه؛ وذلك لتواتر الأخبار في ذلك، وإليكم نَزْراً يسيراً مما رُوِيَ في كُتُب الفريقينِ من العامَّة والخاصة.

[اشترك]

1ـ ما رواه المحدِّث ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم قال: "إنَّه حين بُويِع لأبي بكرٍ بعد رسول الله (ص) كان عليٌّ والزبير يدخلانِ على فاطمة بنت رسول الله (ص) فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلمَّا بلغ ذلك عمر بن الخطَّاب خرج حتَّى دخل على فاطمة، فقال: يا بنت رسول الله! (ص)، والله ما من الخلق أحدٌ أحبَّ إلينا من أبيك، وما من أحدٍ أحبّ إلينا بعد أبيك منك، وأيمُ الله ما ذاك بمانعي إنْ اجتمع هؤلاءِ النفرُ عندكِ أنْ أمرتهم أنْ يحرقَ عليهم البيت.

قال: فلما خرج عمرُ جاؤوها، فقالت: تعلمون أنَّ عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتُم ليحرقنَّ عليكم البيت؟!

وأيمُ الله ليمضينَّ لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين، فرِءوا رأيكم ولا ترجعوا إليَّ، فانصرفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتَّى بايعوا لأبي بكر" [المصنَّف ج21 ص143].

2ـ وما رواه الضياء المقدسيُّ بسنده عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: "دخلتُ على أبي بكر...أعودُهُ في مرضه الذي تُوفِيَ فيه، فسلَّمتُ عليه وسألتُه: كيف أصبحتَ؟ فاستوى جالساً...ثمَّ قال: أما إني لا آسى على شيءٍ إلَّا على ثلاثٍ فعلتُهُنَّ ودَدتُ أني لم أفعلْهنَّ، وثلاثٍ لم أفعلْهنَّ وددتُ أني فعلتُهنَّ، وثلاثٍ وددتُ أني سألتُ رسول الله (ص) عنهنَّ. فأمَّا الثلاث اللَّاتي وددتُ أني لم أفعلْهنَّ، فوددتُ أني لم أكُنْ كشفتُ بيت فاطمة أو تركتُهُ وإنْ أُغلقَ على الحرب [الأحاديث المختارة ج1ص 89].

3ـ وما رواه الطبريُّ الإماميُّ بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمَّد (ع) قال: "ولدتْ فاطمة (ع) في جمادى الآخرة، يوم العشرين منه، سنة خمس وأربعين من مولد النبيّ (ص) وأقامتْ بمكَّة ثمان سنين، وبالمدينة عشر سنين، وبعد وفاة أبيها خمسةً وسبعين يوماً. وقُبِضتْ في جمادي الآخرة يوم الثلاثاء لثلاثٍ خلوْنَ منه، سنة إحدى عشرة من الهجرة؛ وكان سببُ وفاتها أنَّ قنفذاً مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطتْ محسناً ومرضت من ذلك مرضاً شديداً، ولم تدع أحداً ممن آذاها يدخل عليها.

وكان الرجلان من أصحاب النبي (ص) سألا أمير المؤمنين أنْ يشفع لهما إليها، فسألها أمير المؤمنين (ع) فأجابت، فلما دخلا عليها قالا لها: كيف أنتِ يا بنت رسول الله؟

قالت: بخير بحمد الله. ثمَّ قالتْ لهما: ما سمعتما النبي (ص) يقول: فاطمةٌ بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله؟ قالا: بلى.

قالتْ: فو الله، لقد آذيتماني!

قال: فخرجا من عندها وهي ساخطةٌ عليهما[ دلائل الإمامة للطبري ص134].

إلى غير ذلك من الأخبار الدالَّة على ظلامة الصدِّيقة الزهراء (ع) من قبل القوم، كما لا يخفى على المطالِع.

إذا بان هذا عزيزي السائل فأقول: هناك أصلٌ مهمٌ عند العامَّة يشير إلى ضرورة إخفاء وطمسِ كلِّ ما من شأنه الخدشة أو التعريض ـ فضلاً عن الطعن الصريح ـ بالصحابة، ولا يخفى عليكم أنَّ الواقع يؤشِّر بشكلٍ واضحٍ على أنَّ المراد من (عنوان الصحابة) بعضهم لا كلهم، فلا تغفل.

1ـ قال أحمد بن حنبل: (ومن الحجَّة الواضحة الثابتة البيّنة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله (ص) كلِّهم أجمعين، والكفّ عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شَجَرَ بينهم...إلى أنْ قال: لا يجوز لأحدٍ أنْ يذكرَ شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيبٍ ولا بنقصٍ؛ فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أنْ يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه؛ فإنْ تاب قبل منه، وإنْ ثبت عاد عليه بالعقوبة، وخلَّده الحبس حتَّى يموت أو يرجع) [يُنظر: طبقات الحنابلة لأبي يعلى ج1ص30].

2ـ وقال الذهبيُّ: (تقرَّر الكفُّ عن كثيرٍ مما شَجَرَ بين الصحابة وقتالهم...وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكنَّ أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيـُّه وإخفاؤه، بل إعدامُهُ لتصفو القلوب، وتتوفر على حبِّ الصحابة، والترضِّي عنهم، وكتمان ذلك مُتعينٌ عن العامة وآحاد العلماء) [سير أعلام النبلاء ج10 ص92].

3ـ وقال الشيخ ذياب الغامديُّ: (لما عَلِم علماء المسلمين أنَّ الحديث والكلام عما شجر بين الصحابة...سببٌ للفتنة والتنقُّص والنيل منهم، مما يخالف النصوص الشرعيَّة والآثار السلفيَّة، قاموا مجتهدين على قدمٍ وساقٍ إلى قفل هذا الباب وسدِّ ثغوره ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، حتَّى يسلم للمسلم دينه، وسلامة صدره، وحفظ لسانه؛ لذا نراهم قد أجمعوا قاطبةً على (السكوت عمَّـا شجر بين الصحابة...)، فكان الواجب على المسلم أنْ يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة...مسلك الفرقة الناجيَة أهل السنَّة والجماعة، وهو الإمساك عما حصل بينهم) [ تسديد الإصابة فيما شجر بين الصحابة ص161].

وعلى هذا الأساس الذي بيَّناه لك، وأوضحناه من كلماتهم أتُراك تجد لروايات (كسر الضلع) في كتب القوم من أثر؟ أو ترى لذكرها من عين؟ كلَّا والذي خلق الزهراء؛ وذلك لأنَّ هذا الأمر يُعدُّ من أعظم المطاعن على القوم، وأشنعها على رموزهم؛ لذلك انحصر تراث الظلامة بشكله المفصَّل في نقل محبيها وشيعتها بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، ومن ذلك:

1ـ ما رواه أبو جعفر الصدوق (طاب ثراه) بسنده عن النبيِّ الأعظم (ص) أنه قال: "وإني لما رأيتهُا ذكرتُ ما يُصنَع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذلُّ بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومُنعت إرثها، وكسر جنبها" [أمالي الصدوق ص100، المجلس24].

2ـ وما راه الطبرسيُّ (طاب ثراه) ونصُّه: "وحالت فاطمة (ع) بين زوجها وبينهم عند باب البيت، فضربها قنقذ بالسوط على عضدها، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج من ضرب قنفذ إياها، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ اضربها، فألجأها إلى عضادة باب بيتها، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها" [الاحتجاج ج1 ص110].

إلى غير ذلك من الأخبار الدالَّة على كسر ضلعها.

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم أنَّ ما أصَّله القوم من لزوم الإمساك عمَّا وقع بين الصحابة ووجوب حذفه وإخفائه يؤدّي إلى فقدان الكثير من تلك الروايات الثالبة لهم، ومنها الروايات الدالَّة على كسر ضلع الزهراء(ع) وغيرها، والله الموفِّق.

المصدر: مركز الرصد العقائدي

2024/11/19

تفاصيل مؤلمة: غسل وتكفين فاطمة الزهراء (ع)!

كفنها وغسلها عليها السلام ليلا قال الراوي: فصاحت أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع لصراخهن وهن يقلن: يا سيدتاه يا بنت رسول الله وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي عليه السلام وهو جالس والحسن والحسين عليهما السلام بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما وخرجت أم كلثوم وعليها برقعة وتجر ذيلها متجللة بردائها عليها نشيجها [تسبجها خ] (١) وهي تقول:

[اشترك]

يا أبتاه يا رسول الله الآن حقا فقدناك فقدا، لا لقاء بعده أبدا، واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها، فخرج أبو ذر (ره) وقال: انصرفوا فإن ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا فلما جن الليل غسلها أمير المؤمنين عليه السلام ولم يحضرها غيره والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم عليهم السلام وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس رحمة الله عليهما (٢).

وقالت أسماء: أوصت إلى فاطمة عليها السلام أن لا يغسلها إذا ماتت إلا أنا وعلي عليه السلام، فأعنت عليا على غسلها (٣).

وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام يقول حين غسل فاطمة عليها السلام: اللهم إنها أمتك وابنة رسولك وصفيك وخيرتك من خلقك، اللهم لقنها حجتها وأعظم برهانها وأعل درجتها واجمع بينها وبين أبيها محمد صلى الله عليه وآله.

وروي أنها نشفت بالبردة التي نشف بها رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما غسلها علي عليه السلام وضعها على السرير وقال للحسن عليه السلام:

أدعي لي أبا ذر فدعاه فحملاه إلى المصلى ومعه الحسن والحسين فصلى عليها (٤).

وفي رواية ورقة قال علي عليه السلام: والله لقد أخذت في أمرها وغسلتها في قميصها ولم أكشفه عنها، فوالله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة، ثم حنطتها من فضلة حنوط رسول الله صلى الله عليه وآله وكفنتها وأدرجتها في أكفانها، فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت: يا أم كلثوم يا زينب يا سكينة يا فضة يا حسن يا حسين هلموا تزودوا من أمكم فهذا الفراق واللقاء في الجنة، فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام، وهما يناديان:

وا حسرتا لا تنطفي أبدا من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا فاطمة الزهراء، يا أم الحسن يا أم الحسين إذ لقيت جدنا محمد المصطفى فاقرأيه منا السلام وقولي له: إنا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا، فقال أمير المؤمن علي عليه السلام: إني أشهد الله أنها قد حنت وأنت ومدت يديها وضمتهما إلى صدرها مليا وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن ارفعهما عنها، فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب قال عليه السلام: فرفعتهما عن صدرها (٥).

وروي أن كثير بن عباس كتب في أطراف كفن سيدة النساء: " فاطمة عليها السلام ": تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله (٦).

ويظهر من رواية مصباح الأنوار، أن أثواب كفنها كانت غلاظا خشنة فإنه روي أنه لما حضرت فاطمة عليها السلام الوفاة دعت بماء فاغتسلت ثم دعت بطيب فتحنطت به، ثم دعت بأثواب كفنها فأتيت بأثواب غلاظ خشنة فتلفقت بها، الخ (٧).

وروي أيضا أنها كفنت في سبعة أثواب (٨).

في رواية روضة الواعظين قال: فلما أن هدئت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها علي والحسن والحسين عليهم السلام وعمار والمقداد والعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواصه، صلوا عليها ودفنوها في جوف الليل وسوى علي عليه السلام حواليها قبورا مزورة مقدار سبعة حتى لا يعرف قبرها (٩).

وعن مصباح الأنوار، عن جعفر بن محمد عليهم السلام أنه سئل كم كبر أمير المؤمنين على فاطمة عليها السلام؟ فقال: كان يكبر أمير المؤمنين تكبيرة فيكبر جبرئيل تكبيرة والملائكة المقربون إلى أن كبر أمير المؤمنين عليه السلام خمسا، فقيل له: وأين كان يصلي عليها؟ قال: في دارها ثم أخرجها (١٠).

المصدر: كتاب بيت الأحزان - الشيخ عباس القمي

==================

الهوامش:

(١) تسبج الرجل بالسبجة: لبسها والسبجة كساء أسود وفي العوالم: تسحبها.

(٢) البحار ج 43 ص 171 - 192.

(٣) البحار ج 43 ص 184.

(٤) البحار ج 43 ص 215.

(٥) البحار ج 43 ص 179.

(٦) البحار ج 81 ص 335.

(٧) البحار ج ٨١ ص ٣٣٥.

(٨) البحار ج ٨١ ص ٣٣٥.

(٩) روضة الواعظين ج 1 ص 152.

(١٠) البحار ج 81 ص 390.

 

2024/11/13

"لم نؤمر بهذا".. لماذا عارض الأئمة (ع) الفتوحات الإسلامية؟!

الأحكام الشرعيّة تؤخذ من مصادر التشريع الأساس، المتمثّلة بالقرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، التي سار عليها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وبالتالي الأفعال التي تصدر من غيرهم لا يمكن أن تكون حجّة علينا، ما لم توافق نهج القرآن الكريم، والسنّة المحمّديّة الأصيلة.

[اشترك]

وعليه، لو بحثنا في النصوص القرآنيّة الكريمة، لا نجد مبرّراً للفتوحات، بل لا نجد أمراً قرآنيّاً يحثُّ على إجبار الناس على الدخول في الإسلام بالقوّة، وإنّما نجد في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 – 22]، أنَّ النبيّ (ص) جاء لتذكير الناس بالهدى والحقّ، وكذلك في قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة / 190]، تجد فيه أنَّ الله تعالى يأمر بقتال الذين يقاتلوننا، وذيل الآية الكريمة يُصرّح بعدم حبّ الله للمعتدين، الذين يعتدون على حقوق غيرهم، وهكذا في الآية التي تلتها بعدم قتال المشركين والكافرين عند المسجد إلّا إذا بادروا بالقتال. {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ}، وذلك لأجل ألَّا تكون فتنة بين الذين آمنوا كما في قوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة / 193]، وغيرها من الآيات القرآنيّة التي تشير الى أنَّ القتال يكون للدفاع عن النفس أو عن الدين والمعتقد، إذْ لا إكراه في الدين.

وأمّا من ناحية النصوص الروائيّة، فالإمام الصادق (ع) كان يصرّح بأنّ تلك الحروب وما يُسمّى بالفتوحات لو كان فيها خيراً ما سبقه إليه أحد، إذْ روى عبد الملك بن عمرو أنّه قال: قال لي أبو عبد اللّه ع «يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال قلت: وأين؟ فقال: جدّة وعبّادان والمصيصة وقزوين. فقلت: انتظاراً لأمركم والاقتداء بكم. فقال: إيْ والله لو كان خيراً ما سبقونا إليه. قال قلت: له: فإنّ الزيديّة يقولون: ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلّا أنّه لا يرى الجهاد. فقال أنا لا أراه! بلى إنّي لأراه، ولكنْ أكره أنْ أدع علمي إلى جهلهم» [الكافي ج5 ص19]، فلم يؤيّد الأئمّة (عليهم السلام) تلكم الفتوحات، بل منعوا شيعتهم من المشاركة فيها، وعدم المرابطة على الثغور أيضاً، كما ورد عن الإمام (ع) أنّه قال: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يُؤمَن على الحكم، ولا ينفذ في الفيء أمر اللّه عزّ وجلّ، فإنّه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدوّنا في حبس حقّنا والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتة جاهلية»[علل الشرائع ج2 ص464].

بل كان منهج آل محّمد عليهم السلام يعتمد على نشر الحقّ، والعدل، وتعليم الناس ما جهلوه من العلوم، فقد روى عبد السلام بن صالح الهرويّ أنّه قال: سمعت أبا الحسن الرضا (ع) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: فكيف يُحي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويُعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا» [معاني الأخبار ص 180].

وما حصل فيما يسمّى بـ (الفتوحات) وما ترتّب عليها من آثار لم يكن سوى اجتهاد من قبل الحكّام السياسيّين؛ لتوسعة الرقعة الجغرافيّة، ولزيادة الموارد الاقتصاديّة. [ينظر: أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة للسيّد جعفر مرتضى العامليّ].

المقال رداً على سؤال: هل لنا أن نُسمّي احتلال المسلمين للأندلس وصقلية والقسطنطينيّة فتحاً، في حين نُسمّي احتلال الغرب لنا عدواناً غاشماً؟ أليس هذا دليل على ازدواجيّة المعايير؟ وتبرير فعلٍ إجراميٍ طالما هو واقع تحت غلافٍ دينيّ؟

2024/10/20

قصص نجاة: محاولات اغتيال تعرض لها النبي
في جميع الأحوال نقول: إنه قد بذلت محاولات كثيرة لاغتياله (صلى الله عليه وآله)، نذكر منها ما يلي:

[اشترك]

1 ـ ما روي من تهديدات قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدء الدعوة، وعرضهم على أبي طالب أن يقتلوه، وأن يعطوه بعض فتيانهم بدلاً عنه.. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) فراجع..

وذكرنا أيضاً: أن أبا طالب (عليه السلام) حين حصر المشركون المسلمين في شعب أبي طالب، كان ينيم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في موضع يراه الناس، ثم إنه حينما تهدأ الرِّجل يقيمه، وينيم ولده الإمام علياً (عليه السلام) مكانه، حذراً من أن تغتاله قريش.

فقال له الإمام علي (عليه السلام)، إني مقتول ؟!..

فقال له أبو طالب (عليه السلام):

اصبرن يـا بني، فالصبر أحجى *** كل حي مصيره لــشعوب

قـدر الله و الـبلاء شـديـد *** لنداء الحبيب و ابـن الحبيب

[الأبيات] 2..

2 ـ محاولة اغتياله (صلى الله عليه وآله) ليلة الهجرة، حيث بات الإمام علي (عليه السلام) في فراشه (صلى الله عليه وآله).. وكانوا قد انتدبوا عشرة من الرجال من عشر قبائل في قريش ليقتلوا النبي (صلى الله عليه وآله).. فأنجاه الله سبحانه منهم.وتتبعوه إلى الغار، فصرفهم الله عنه.

3 ـ محاولة اغتياله من قبل بني النضير 3..

4 ـ تنفيرهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة 4..

وقال « يعني ابن حزم »: إن حذيفة لم يصل على أبي بكر، وعمر، وعثمان.. « وكان لا يصلي على من أخبره (صلى الله عليه وآله) بأمرهم ».

5 ـ محاولة قتله (صلى الله عليه وآله) في خيبر بالسم، وسنذكر بعض نصوص هذه الحادثة.. فيما يأتي إن شاء الله تعالى..

6 ـ محاولة قتله (صلى الله عليه وآله) في المدينة بالسم أيضاً، وسنذكر النصوص المرتبطة بذلك أيضاً.
لمزيد من التفاصيل اضغط هنا

2024/09/02

قراءة تحليلية في شخصية الإمام السجاد (ع)
﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ صدق الله العلي العظيم

عند حديثنا حول شخصيات أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» نتناول محورين:

في اختلاف أدوار أهل البيت
.
وفي اختلاف النفس الأدبي لكلمات أهل البيت.

المحور الأول: اختلاف أدوار أهل البيت.

عندما نقرأ تاريخ أهل البيت، نجد أنّ الأدوار التي استندت إليهم أدوار متعدّدة، فقد انتسب إلى الإمام أمير المؤمنين علي

صفة العدالة، وإلى الحسن

صفة الصلح والسلم، وإلى الحسين

صفة الثورة والحركة، وإلى الإمام زين العابدين

صفة العبادة، مع أنّ الجميع بلغوا قمّة الكمال، مثلهم واحدة، كمالاتهم واحدة، ولكن برزت لكل واحد منهم صفة أكثر من بروز الصفة الأخرى، ما هو العامل في ذلك؟ ما هو السر في ذلك؟ هنا قراءتان: قراءة تاريخية، وقراءة عرفانية.

القراءة الأولى: القراءة التاريخية.

وهي التي أشار إليها كثير من علمائنا عند تحليلهم لتاريخ أهل البيت، وهي أنّ اختلاف الأدوار فرضه اختلاف الظروف، اختلاف الظروف الاجتماعية الموضوعية هو الذي فرض اختلاف الأدوار، الظروف التي عاشها أمير المؤمنين علي

كانت ظروف خلافة وحكم، لذلك تجلّت فيه صفة العدالة أكثر من صفة أخرى، الظروف التي عاشها الحسن بن علي

كانت ظروف فتنة وإراقة الدماء، فبرزت فيه صفة السلم الاجتماعي، كان الإمام الحسن

رمزًا للسلم الاجتماعي، كما قال : ”إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعٍ“، الظروف التي عاشها الحسين بن علي

كانت ظروف انهيار إرادة الأمة، حيث إنّ الأمة فقدت إرادتها في رفض الظلم وفي رفض الطغيان، ممّا هيّأ الإمام الحسين للقيام بثورته المباركة من أجل استرجاع الأمّة لإرادتها، ومن أجل تنبيه الأمة من رقدتها، وإيقاد عزمتها تجاه رفض الظلم والذل. إذن، الظروف هي التي جعلت الأدوار مختلفة، الظروف هي التي أبرزت صفة لعلي أكثر من صفة أخرى، وصفة للحسين أكثر من صفة أخرى، فهذا تحليلٌ وقراءةٌ تاريخيةٌ لاختلاف أدوار أهل البيت «صلوات الله عليهم أجمعين».

القراءة الأخرى: القراءة العرفانية.

اختلاف هذه الصفات في شخصيات أهل البيت لاختلاف التجلّي الإلهي في شخصياتهم وفي ذواتهم، بيان ذلك: الله تبارك وتعالى تجلّى لمخلوقاته من خلال صفتي الجلال والجمال، له جلال يتنزّه به عن مخلوقاته، وله جمال من خلاله تنجذب مخلوقاته إليه، فهو من خلال صفتي الجلال والجمال عرفه مخلوقاته، وعرفه خلقه.

مثلًا: نلاحظ الشمس، هذا الجرم الناري، هو مجلى ومظهر لصفة الجلال، وهو مظهر أيضًا لصفة الجمال، الشمس كسائر النجوم التي تعيش اندماجًا نوويًا في داخلها، إذا نظرنا إلى الشمس كنجم يعيش اندماجًا نوويًا في داخله فهو جرم حارق، جرم مميت، إذن الشمس في هذا الاندماج النووي تعتبر مظهرًا لصفة الجلال والعظمة لله عز وجل، ولكن إذا رأينا الشمس أنها هي مصدر الدفء، هي مصدر الحياة، لولا ضوء الشمس لم تعش كائنات حية على سطح الأرض، الشمس مصدر الدفء، مصدر الحياة، إذن الشمس مظهر للجمال الإلهي، الشمس مظهر جلال ومظهر جمال. الله تعرّف إلى خلقه من خلال صفتي الجلال والجمال، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

كما تجلّى الله في المخلوقات، تجلّى في الشمس، في المجموعات الشمسية، في الأرض، في السماء، فقد تجلّى الله لنا من خلال الأنبياء والأوصياء والأئمة، الإمام مظهر لله، كما أنّ الشمس مظهرٌ لله في جلاله وجماله الإمام أيضًا مظهر لله تبارك وتعالى في جماله وجلاله، تجلّى الله للخلق من خلال هؤلاء الأصفياء والأوصياء، ”السلام على محال معرفة الله“، بهم عرف الله، يعني بصفاتهم عرفت صفات الله عز وجل، ”السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله“.

تجلّى الله فيهم، تجلّى في النبي محمد من خلال صفة الرحمة، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، الرحمة المتمثلة في النبي هي رحمة الله عز وجل تجلّى بها من خلال شخصية النبي

 

، تجلّى في علي من خلال القوّة والعدالة، هي قوّة الله، هي عدالة الله تجلّت في شخصية علي بن أبي طالب، ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، ”والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله“.

تجلّى الله تبارك وتعالى في الحسن بن علي من خلال الحلم والسلم والكرم، حلم الله في الحسن، كرم الله في الحسن، سلام الله في الحسن، فكان الحسن شخصية ورمزًا للحلم والكرم والسلم الاجتماعي، مظهر لله في هذه الصفات العظيمة الجليلة. وتجلّى الله في الحسين من خلال صفة العزّة، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، عزّة الحسين حكت عزة الله، عزة الحسين حكت عزة خالقه تبارك وتعالى، فالحسين بمظهر العزة مظهرٌ لله عز وجل.

وعندما نأتي لزين العابدين وسيّد الساجدين علي بن الحسين

فقد تجلّى الله في هذه الشخصية العظيمة من خلال صفة الوله، ومن خلال صفة العشق، ومن خلال صفة الحب، كان الإمام زين العابدين قطعة من الحب لله، للناس، لأهله، لعشيرته، للمسلمين، حبّه مظهرٌ لحبّ الله، حبّه مظهرٌ لهذه الصفة الجميلة لله تبارك وتعالى، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.

إذن، اختلاف صفات أهل البيت لا يرتبط فقط بعوامل تاريخية وبظروف موضوعية، وإنما اختلاف صفاتهم وأدوارهم يرجع إلى قضية عرفانية، يرجع إلى تجليات الله تبارك وتعالى من خلال شخصياتهم من خلال صفتي الجلال والجمال، لأنهم مظهر له تبارك وتعالى.

المحور الثاني: اختلاف النفس الأدبي بين الأئمة.

عندما نقوم بمقارنة بين علي وعلي، بين أمير المؤمنين وزين العابدين، كلاهما غارقان في العبادة، كلاهما حكي عنهما أنهما يصليان في اليوم والليلة ألف ركعة، يعني يقطعان ثمان أو تسع ساعات من اليوم في الصلاة، وكان زين العابدين يقتدي بجدّه أمير المؤمنين، يقول الباقر: قال لي أبي: ناولني صحيفة أعمال جدّي أمير المؤمنين لأقتدي به، فناولتها إياه، فقرأ الصحيفة وبكى وبكى وبكى، ثم قال: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟!

إذا قمنا بمقارنة، عندنا أدعية للإمام علي، دعاء الصباح، دعاء كميل، عندنا أدعية للإمام السجاد، الصحيفة السجادية، هذا الرافد العملاق، الصحيفة السجادية لما أهديت للشيخ الطنطاوي صاحب التفسير المعروف المتوفى سنة 1358 للهجرة، لما قرأها تعجّب وكتب: ما رأينا هذا السفر الخالد من قبل لا في مواريث الأنبياء ولا في تراث أهل البيت، وإنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

الصحيفة السجادية قارن بينها وبين أدعية الإمام علي، ما هو الفرق بينهما؟ لكل إمام لغة تخصّه، لكل إمام نفس أدبي يخصّه، من خلال هذه اللغة تعرف أنّ هذا الدعاء للإمام أم لغيره، دعني أضرب لك أمثلة: إذا وردتك أبيات للمتنبي، قالوا هذه أبيات للمتنبي، المتنبي يمدح أمير المؤمنين عليًا، يقول:

وتركت    مدحي   للوصي   iiتعمّدًا

وإذا  استطال  الشيء  قام  iiبنفسه

إذ   كان   نورًا   مستطيلًا  iiشاملًا

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلًا

كيف نعرف أنّ هذا الشعر للمتنبي؟ من خلال نفسه الأدبي، إذا قرأنا هذه الأبيات وقارنا بينها وبين قصائد المتنبي وجدنا أنّ النفس الأدبي واحد، وأنّ النغمة واحدة، لذلك نقول: هذه الأبيات للمتنبي، هذا طريقٌ في العلوم الأدبية لإثبات أسانيد الأدب والشعر.

مثال آخر: ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة، عنده كتاب شرح نهج البلاغة للإمام علي، هو من أهل السنة، من المعتزلة، لكنه شرح كتاب نهج البلاغة للإمام علي شرحًا عظيمًا لا نظير له، ابن أبي الحديد لما وصل إلى هذه الخطبة، خطبة الشقشقية التي شكا فيها الإمام علي من الوضع، وقال: ”لقد تقمّصها فلان وهو يعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فطويت عنها كشحًا، وسدلت دونها ثوبًا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبًا“، هذه خطبة معروفة للإمام علي.

ابن أبي الحديد يقول: كنت أدرس عند أستاذي ابن الخشّاب، وصلنا إلى هذه الخطبة، هذه الخطبة محرجة، الإمام علي يشكو من الوضع كله، فقلت له: أستاذي، يقولون هذه الخطبة منحولة على علي - يعني ليست لعلي - وإنما هي من صنع الرضي، الشريف الرضي هو الذي صنعها ونسبها للإمام علي، قال: والله إني لأعلم أنها من علي كما أعلم أنّك أمامي، لقد قرأنا شعر الرضي ونثره وما وجدناه من هذه الخطبة في خلّ ولا خمر، إنّ كلام علي كالقرآن - هذا إنسان عالم، لاحظ كيف يحتكم إلى النفس الأدبي - يجري مجرى الماء الواحد، أوله كوسطه، ووسطه كآخره، لا تختلف أبعاضه.

يريد أن يقول: هذا نهج البلاغة نفس واحد، من خلال أي خطبة تستطيع أن تعرف أنها لعلي أم لا، فلذلك لما قرأنا الخطبة الشقشقية وجدنا نفس علي، نبرة علي، روح علي

واضحة فيها، فعرفنا أنّها له وليست من غيره.

هنا أيضًا عندما نقرأ النفس الأدبي لعلي، والنفس الأدبي لعلي بن الحسين، كل منهما له نفس أدبي يختلف عن الآخر، تستطيع أن تميّز أنّ هذا الدعاء لزين العابدين أم هذا الدعاء لعلي بن أبي طالب، من خلال اختلاف اللغة، من خلال اختلاف النفس الأدبي لكل منهما «صلوات الله عليهما». تأتي إلى علي، لغة الإمام علي لغة فلسفية، الإمام علي يخاطب الفكر، يخاطب العقل، حتى في دعائه، أدعية الإمام علي لغتها لغة فكرية، لغة فلسفية، تخاطب العقل بأدقّ المعلومات.

اقرأ دعاء الصباح: ”يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملاءمة كيفياته، يا من قرب من خواطر الظنون، وبعد عن ملاحظة العيون، وعلم بما كان قبل أن يكون“، لغة فلسفية فكرية تخاطب العقل، عندما تأتي إلى دعاء كميل، في ضمن دعائه يتحدّث عن العلم والفكر، مثلًا عندما يقول: ”إلهي أتسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة“، كلها لغة فكرية تخاطب العقل. في نهاية دعاء كميل: ”أسألك بحقّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى“ يضع مقاربة فكرية في الوسط ”حتى تكون أعمالي وأورادي كلها وردًا واحدًا، وحالي في خدمتك سرمدًا“.

بينما تأتي إلى زين العابدين، لغة أخرى، نفس آخر، أسلوب آخر، الإمام زين العابدين في دعائه لغته لغة عاطفية، لغة وجدانية، زين العابدين يخاطب القلب، لا يخاطب العقل، يخاطب الروح، لا يخاطب الفكر، يخاطب القلب والروح بلغة عاطفية رقيقة شفّافة، إذا قرأ الإنسان أدعية زين العابدين يجد نفسه فيها، يجد نفسه متمثلًا فيها، إذا قرأت المناجات الخمسة عشرة للإمام زين العابدين تجد أنّها تتحدّث عن ذاتك، عن نفسك، عن مشاعرك، عن عواطفك، كان أسلوبه أسلوبًا رقيقًا ينفذ إلى المشاعر، ينفذ إلى القلوب، ويتحدّث عنها بلغتها.

لاحظ الإمام زين العابدين، نأخذ بعض الأدعية من صحيفته، الإمام زين العابدين عندما يصف النفس يصفها وصفًا دقيقًا، بحيث كل إنسان عندما يقرأ الدعاء كأنه يتحدّث عن نفسه، يصف النفس وصفًا وجدانيًا دقيقًا يكون مثالًا لقوله: ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“، كيف؟ يقول: ”اللهم إني أشكو إليك نفسًا بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وإلى سخطك متعرّضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسّها الخير تمنع، وإن مسّها الشر تجزع، ميّالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوّفني بالتوبة“، هكذا نفس الإنسان، كل إنسان يشعر أنّ الوصف وصفٌ لنفسه، وصفٌ لما يجده بوجدانه.

الإمام زين العابدين عندما يتحدّث عن حب الله عز وجل، يشعرنا بأنّ العلاقة بيننا وبين الله ليست علاقة خوف، نحن لا نعبد الله خوفًا منه، ولا نعبد الله طمعًا فيه، يحسّسنا أنّ بيننا وبين الله حبًا عميقًا راسخًا يصنع في قلوبنا الحب، يصنع في وجداننا العشق لله، يصنع في مشاعرنا الشوق إلى الله تبارك وتعالى، يجعلنا ننظر إلى الله بنظرة أخرى، كثير منا ينظر إلى الله بنظرة الخوف، أنه يخاف من قوة الله وبطشه، كثير منا ينظر إلى الله نظرة مصلحية، يريد جنة ويريد حورًا ويريد قصورًا، زين العابدين يحرّرنا من هذه النظرات، يجعلنا ننظر إلى الله نظرة حبّ وشوق وعشق، اقرأ مناجاته مناجاة العارفين، يقول: ”اللهم اجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق في حدائق صدورهم، واجعلنا ممّن أخذت محبّتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة يكرعون، وشرائع المصافاة يردون، اللهم اكشف الظلمة عن أبصارنا، والريب عن ضمائرنا وعقائدنا“، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.

الإمام زين العابدين في مناجاة التائبين يعلّمنا كيف هو طعم التوبة، نحن لا نشعر بطعم التوبة، نحن نذنب ثم نستغفر ثم نتوب لكن نعود للذنب مرة أخرى، لماذا؟ لأننا لا نعيش التوبة بمعانيها، لا نعيش التوبة بواقعها، لا نعيش التوبة بطعمها الحقيقي، زين العابدين من خلال مناجاة التائبين يربّي فينا طعم التوبة، يغرس فينا كيف نحبّ التوبة وننقاد إليها، يقول زين العابدين: ”إلهي، ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي، وجلّلني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيه بتوبةٍ منك يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي ومنيتي، فوعزتك لا أجد لذنوبي غيرك غافرًا، ولا لكسري غيرك جابرًا، وقد خضعت بالإنابة إليك، ودنوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني عن بابك فبمن ألوذ، وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ“.

الإمام زين العابدين يؤجّج فينا حسّ التوبة وحسّ الإنابة، الإمام زين العابدين يتحدّث عنا، نحن عندما نعصي الله كيف يكون شعورنا؟ نحن عندما نقترف المعصية والرذيلة كيف تكون مشاعرنا وعواطفنا؟ يصوّر لنا النفس في ذلّة المعصية، يقول في دعاء أبي حمزة: ”إلهي، ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا بأمرك مستخف، ولكن“ ما الذي يدفعني للذنب؟ ”ولكن سوّلتني نفسي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني بذلك سترك المرخى عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عنّي، فواسوأتاه غدًا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط، ويحي كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربّي“.

زين العابدين كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان يسجد في حجر إسماعيل السجدة الطويلة، يقول طاووس الفقيه: دنوت منه لأستمع دعاء العبد الصالح من أهل بيت طيّب، ماذا يقول في دعائه؟ فرأيته يبكي بكاء الثكلى، ويقول: ”إلهي، عبيدك ببابك، مسكينك بفنائك، أسيرك بين يديك، فقيرك برحلك، يا غياث المستغيثين“، يقول: فبكيت لكلامه، قلت: أنت تقول هذا يا زين العابدين وأنت ابن الحسن والحسين؟! قال: دع عنك حديث أبي وجدّي؛ إنّ الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّدًا قرشيًا.

زين العابدين علي

 حجّ خمسًا وعشرين حجّة على الناقة، ما زجرها ولا قرعها، يقول الباقر: لما مات أبي ودفنّاه رأينا الناقة خرجت من مكانها، وجاءت تبحث عن قبره، حتى عرفت قبره من بين القبور، وانكبت على القبر تدلك جرانها بترابه، وهي ترغو رغاء الثكلى. زين العابدين في دعائه، في دموعه، في بكائه، كان ينتصر لأبيه الحسين، كان بدموعه ينتصر لقضية الحسين، ولثورة الحسين، وكان شريكًا في نهضة الحسين، لولا زينب وزين العابدين لماتت قضية الحسين، لولا خطاب زينب ودموع زين العابدين لتبخّرت حركة الحسين.

2024/07/31

ما حقيقة دعاء الإمام الحسين (ع) على أهل الكوفة؟
بمناسبة اقتراب شهر الأحزان شهر عاشوراء، تسمع كلاماً هنا وهناك كلَّما ساء النَّاسَ شيءٌ، حتى لو انقطع الكهرباء، أو فرغت أُسطوانة الغاز، هذه بسبب دعوة الإمام الحسين – عليه السَّلام – على أهل العراق، وهي سارية المفعول إلى يومنا هذا.

ولا ريب أنَّ الإمام – عليه السَّلام – دعا على قاتليه "اللَّهم إنَّ متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا فقتلونا "

الكوفة عثمانيَّة الهوى…

و لاشكَّ أنَّ من دعاه إلى القُدوم هم أهل الكوفة، ولم تكن الكوفة آنذاك شيعية، بل هي عثمانية الهوى، وكان المغيرة بن شعبة وأبو موسى الأشعري من محرّضي سُكَّانها على الإمام عليٍّ – عليه السَّلام – في حروبه.

ولمَّا أراد – عليه السلام – أن يمنع صلاة التراويح في مسجد الكوفة نادوا بالويل والثبور وصاحوا: واسنَّة عمراه!

فدُّعاء الإمام الحسين – عليه السَّلام – كان على أهل الكوفة عثمانيّ الهوى، لا على شيعة أبيه – عليه السَّلام –

شواهد على دعاء الإمام – عليه السلام -

والشاهد على ذلك أنَّ الولاة لم يرضوا عن قاتليه – عليه السَّلام – كما هو مضمون دعوته "ولا ترضِ الولاة عنهم أبدا"

فقد قتل ابن زياد من جاء له برأس الإمام – عليه السَّلام – وهو يُنشد

املأ ركابي فضةً أو ذهبا ***إني قتلتُ الملك المُحجَّبا

ولم يرضَ عن قاتل طفلي مسلم بن عقيل – عليهم السَّلام – فذبحه في المكان نفسه الذي ذبح فيه الطفلين – عليهما السَّلام –

القضايا: حقيقية وخارجية

وهنا نوعانِ من القضايا: حقيقية وهي التي ينصبُّ الحكم فيها على ما كان موجوداً زمن النطق في الحكم وما سيُوجد بعد زمن النطق به.

بمعنى: أن المعصوم – القرآن بآياته، والعترة بأحاديثها- حين ينطقان بحكمٍ ما، كتشريع الصوم وكان في شعبان السنة الثانية من الهجرة، فهذا الحكم له ثلاثة أزمنة زمان ما قبل الحكم وما بعده وما في أثنائه.

فالذين ماتوا قبل الحكم – يعني قبل شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة - لا يشملهم تشريع الصيام بداهة أنَّهم ماتوا قبل التشريع.

والذين عاشوا زمن صدور الحكم يشملهم حكم الصيام.

والذين سيولدون بعد صدور الحكم يشملهم ذلك، وهذا معنى القضية الحقيقية التي تشمل الأفراد الموجودة الآن والمُقدَّرة الوجود من بعد.

والقضية الخارجية تشمل الأفراد الموجودين فعلاً زمن النطق بالحكم، ولا تشمل زمن ما قبل النطق به وبعد النطق به، فأمدها قصير.

ومثال القضية الخارجيَّة آية النَّجوى التي أمرت المسلمين أن لا يتكلَّموا مع النبيّ – صلى الله عليه وآله – إلَّا أن يقدِّموا بين يدي نجواهم صدقة.

وآية التطهير والمباهلة فإنَّها تشمل خصوص أصحاب الكساء الخمسة – عليهم السلام – ولا تشمل غيرهم.

فلك أن تقول: إنَّ دعاء الإمام الحسين عليه السلام كان على أهل الكوفة بنحو القضية الخارجيَّة، أي أولئك عثمانيّ الهوى فلا يشمل غيرهم؛ لأنَّهم هم الذين قاتلوه من بعدما دعوه وعدوا عليه وخذلوه – عليه السلام –

ولك أن تقول أخرى: إنَّ دعاءه على نحو القضية الحقيقيَّة على كلِّ عثمانيّ الهوى متى وُلِد وأين وُلِد، ولو كان بمصر والشام والعراق وغيرها؛ لأنَّهم راضون بقتله – عليه السلام – والرَّاضي شريك القاتل بدم المقتول.

ملاحظات:

الأولى: أنَّ أهل الكوفة غير شيعة الكوفة فالحدُّ الأوسط لم يتكرر في المقدّمتين لينتج منه لعن شيعة الكوفة كما يموّه الوهابية وغيرهم وتبعهم بعضٌ من قومِنا عن سوء فهم.

الثانية: الأحاديث الواردة في فضل أهل الكوفة والعراق كثيرةٌ جدَّاً، حتى أنَّ مدينة قم المقدَّسة على عظمتها، وكثرة الأحاديث الواردة في فضلها  سمَّاها الإمام الصادق – عليه السلام – الكوفة الصغيرة، وهذا من التشبيه المؤكّد الدَّال على اتحادهما في الفضل والحرمة وإن كان الفضل في الكوفة أشدّ لأنَّه تقرر في البلاغة أنَّ وجه الشبه بين شيئين يكون في المُشبَّه به "الكوفة" أقوى منه في المُشبَّه "قم".

وهناك أيضا مدينة "نفطة" في أفريقيا "وأظنُّ أفريقيا في المصطلحات القديمة يُراد بها تونس الآن" يسمونها الكوفة الصغرى لأنَّ أهلها شيعة.

ملاحظة: روي أنه نظر أمير المؤمنين -عليه السلام - إلى ظهر الكوفة ، فقال : ما أحسن منظرك وأطيب ريحك . اللهم اجعل قبري بها.

وقال – عليه السلام - يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا وجوههم على صورة القمر.

وسبعون ألفاً كناية عن الكثرة لا أنه يُراد به العدد المخصوص، قال تعالى: "إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ" فلو كان المراد به العدد المخصوص لاستغفر لهم واحداً وسبعين، ولكنه كناية عن الكثرة.

2024/07/02

نخعيّ كوفيّ.. من هو كميل بن زياد؟
هو كميل بن زياد النخعي الكوفي ( ت 82 هـ )، التابعي، العالم، العابد، الزاهد، الفقيه، المعمّر، الفارس الشجاع، والأمير المطاع، ومن أشراف العراق، وقرّائها.

[اشترك]

والنخعيون قبيلة مشهورة معروفة بولائها لأهل البيت (عليهم السلام)، تنحدر من اليمن، ومنهم مالك الاشتر وعلقمة وإبراهيم النخعيان .

وكميل من شيعة أمير المؤمنين (ع) وثقاته وخواصّه وخدمه، له مكانة كبيرة عند شيعة أهل البيت (ع).

طبقته:

تابعيّ مخضرم، من أصحاب أمير المؤمنين والحسن (عليهما السلام) وخواصّهما، كما نصّ عليه العلماء. (لاحظ: رجال البرقي، ص6، مناقب آل أبي طالب: 3 / 201، الاختصاص، ص6-7).

قال الحافظ ابن حجر: كميل بن زياد ... التابعي الشهير... له إدراك ... أدرك من الحياة النبويّة ثماني عشر سنة. (الإصابة في تمييز الصحابة: 5 / 485)

وذكره الحاكم في معرفة علوم الحديث في النوع التاسع والأربعون قال: معرفة الأئمّة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممّن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرّك بهم وبذكرهم من المشرق إلى الغرب ... ومن أهل الكوفة ... صعصعة بن صوحان العبديّ، كميل بن زياد النخعيّ ... سعيد بن جبير الأسديّ ... (معرفة علوم الحديث للحاكم، ص240 - 243)

روى كميل عن جماعة من الصحابة، وروى عنه خلقٌ من التابعين.

قال الحافظ المزّيّ: روى عن: عبد الله بن مسعود، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، وعمر بن الخطّاب، وأبي مسعود الأنصاريّ، وأبي هريرة.

وروى عنه: رشيد أبو راشد، وأبو عمر سليمان بن عبيد الله ابن سليمان الكنديّ، وسليمان الأعمش، والعبّاس بن ذريح، وعبد الله بن يزيد الصهبانيّ، وعبد الرحمان بن جندب الفزاريّ، وعبد الرحمان بن عابس، وأبو إسحاق السبيعي. (تهذيب الكمال للمزّيّ: 24 / 218).

تشيّعه:

اعترف أهل الســـنّة بتشيّع كميل وترفّضه، إذْ قال ابن حبان : (وكان كميلٌ من المفرطين في عليّ ممّن يُروى عنه المعضلات وفيه المعجزات، منكر الحديث جدّا تتّقى روايته ولا يحتجُّ به). المجروحين، ج2 ص 221.

هكذا هم أهل الحديث اذا تفرّد راوٍ بما لا يعجبهم سمّوا حديثه منكرا أو أنّه يروي المعضلات، مع أنّ كميلاً ثقةٌ، وثّقه العجليّ وابن معين وابن سعد وغيرهم، وقول ابن حبّان غير معتبر في جرحه لكميل، ولأهل الحديث كلام في توهين تجريحات ابن حبّان ليس هذا محلّها.

وقال ابن حجر في ترجمته: (كميل بن زياد بن نهيك ... قال ابن سعد شهد مع عليّ صفين وكان شريفا مطاعا في قومه، قتله الحجّاج، وكان ثقة قليل الحديث، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة وقال العجليّ: كوفيٌّ تابعيٌّ ثقة وقال ابن عمّار: رافضيٌّ وهو ثقة من أصحاب عليّ، وقال في موضع آخر: كان من رؤساء الشيعة وذكره ابن حبّان في الثقات وذكره المدائنيّ في عبّاد أهل الكوفة) تهذيب التهذيب، ج8 ص402، وانظر كلام ابن سعد في الطبقات الكبرى، ج6 ص 179

ونقل ابن عساكر كلام ابن عمّار في توثيق كميل فقال: (قال: كميل بن زياد رافضيّ وهو ثقة من أصحاب عليّ، وقال في موضع آخر كميل بن زياد هو من رؤساء الشيعة كان بلاء من البلاء) تاريخ مدينة دمشق ، ج50 ص 251.

وكونه رافضياً، أي أنّه يُفضِّل عليا (عليه السلام) على الشيخين، وقولهم فيه: إنّه كان من رؤوساء الشيعة، أي من كبّارهم والقائلين بقولهم .

وقال الذهبيّ : (كميل بن زياد النّخعيّ شريف مطاع من كبار شيعة عليّ رضي اللَّه عنه...) تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج5 ص 516

وقال السيّد الخوئيّ في ترجمته: ( وقد روى الشيخ الحرّ في الفائدة السابعة من خاتمة الوسائل عن ابن طاووس في كشف المحجّة من كتاب الرسائل لمحمّد بن يعقوب الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه دعا كاتبه عبد الله بن أبي رافع، فقال: أَدْخِلْ عَلَيَّ عشرةً من ثقاتي، فقال: سَـمِّهِمْ لي يا أمير المؤمنين، فقال: أَدْخِلْ أصبغ بن نباتة ... وكميل بن زياد... الحديث). معجم رجال الحديث، ج 4، ص 132 ـ 136

شجاعته:

يُعَــدُّ كميل بن زياد من شجعان العرب، وممّن اشترك في حروب أمير المؤمنين (ع)، واشترك في ثورة القرّاء على الحجّاج بقيادة ابن الأشعث، وكانت له كتيبة تعرف بكتيبة القرّاء.

قال الطبريّ: وكان رجلا ركينا وقورا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القرّاء، يحمل عليهم، فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك. (تاريخ الطبريّ: 5 / 158)

وقال ابن مسكويه: وكان ركينا في الحرب حليما صاحب نجدة وحفّاظ من أصحاب عليٍّ بن أبي طالب عليه السلام. (تجارب الأمم: 2 / 350)

وقال ابن كثير: وكان شجاعا فاتكا على كبر سنّه. (البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 52)

حديثه المشهور: القلوب أوعية:

لكميل الحديث المشهور عن أمير المؤمنين (عليه السلام): القلوب أوعية، إذِ اعترف به الكثيرون. روى الخطيب البغداديّ ( ت 463هـ) بسنده : ( عن كميل بن زياد النخعي قال : أخذ بيدي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بالكوفة . فخرجنا حتى انتهينا إلى الجبّانة ، فلمّا أصحر تنفّس الصعداء ، ثُمَّ قال لي : يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية ، وخيرها أوعاها للعلم ، احفِظْ عنّي ما أقول لك : الناس ثلاثة ، عالم ربّانيٌّ ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق ، يميلون مع كلِّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق...) تاريخ بغداد، ج6 ص 376

وفي كتابه الفقيه والمتفقه ج1 ص 182 زاد : ( اللّهُمَّ بلى، لا تخلو الأرضُ مِن قائمٍ للهِ بحُجّةٍ، لئلّا تبطل حُجَجُ اللهِ وبيِّناتُه...)

ورواه علماء الشيعة وكثير من علماء السنّة بلفظ: اللّهُمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا، لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته. (المعيار والموازنة للإسكافي (المعتزلي) ص81، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 206، نهج البلاغة: 4 / 37، الخصال للصدوق، ص187، كمال الدين للصدوق، ص290، بأسانيد كثيرة، تحف العقول لابن شعبة، ص170، خصائص الأئمّة للشريف الرضيّ، ص106، الغارات للثقفيّ: 1 / 153، شرح الأخبار للقاضي النعمان (الإسماعيليّ): 2 / 369، الغيبة للنعمانيّ، ص136، الإرشاد للمفيد: 1 / 228، الأمالي للمفيد، ص250، الأمالي للطوسيّ، ص21 رقم 23، عيون الحكم والمواعظ، للواسطيّ، ص541، دستور معالم الحكم لمحمّد بن سلامة للقضاعيّ، ص84، نزهة الناظر للحلوانيّ، ص57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 50 / 255، الجوهرة في نسب الإمام عليّ، للبريّ، ص84، التذكرة الحمدونيّة: 1 / 68، إحياء علوم الدين للغزاليّ: 1 / 122، كنز العمال للمتّقيّ الهنديّ: 10 / 263، وقال: ( ابن الأنباريّ في المصاحف، والمرهبيّ في العلم، ونصر في الحجّة، حل، كر)

قال الخطيب البغداديّ معلِّقا : ( هذا الحديث من أحسن الأحاديث معنى، وأشرفها لفظا، وتقسيم أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب الناس في أوّله تقسيم في غاية الصحّة، ونهاية السداد، لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الأقسام الثلاثة ) المصدر نفسه.

وقال ابن كثير: وقد روى عن كميل جماعة كثيرة من التابعين، وله الأثر المشهور عن عليّ بن أبي طالب الذي أوله " القلوب أوعية فخيرها أوعاها " وهو طويل، قد رواه جماعة من الحفاظ الثقات، وفيه مواعظ وكلام حسن رضي الله عن قائله. (البداية والنهاية: 9 / 57)

وقال ابن عبد البر: وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عليه لكميل بن زياد النخعيّ وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم. (جامع بيان العلم وفضله: 2 / 112)

دعاء كميل:

أما دعاء كميل المشهور الذي يقرأه الشيعة، فسمّي بدعاء كميل لأنّ كميل رواه عن الإمام عليّ (عليه السلام)، فنسب إليه، وهو من روائع الأدعية، وعلوّ مضامينه يدلُّ على صحّته.

قال بعض المتشدّدين في قبول الأخبار: (المتن شاهد آخر على صحّة السند، كشهادة متن دعاء كميل على صحّة صدوره) معجم الأحاديث المعتبرة، ج1 ص 254.

قال الشيخ عباس القمّيّ نقلا عن العلّامة المجلسيّ : (إنّه أفضل الأدعية، وَهُوَ دعاء الخضر عليه السلام، وقد علّمه أمير المؤمنين (عليه السلام) كميلاً، وَهُوَ من خواصّ أصحابه ، ويدّعى به في ليلة النصف من شعبان، وليلة الجُمعة، ويجدي في كفاية شرّ الأعداء، وفي فتح باب الرزق، وفي غفران الذُّنوب. وقد رواه الشَّيخ والسيِّد كلاهما، وأنا أرويه عَن كتاب ( مصباح المتهجِّد ) وَهُوَ هذا الدُّعاء . . ) (مفاتيح الجنان، 126)

روى هذا الدعاء الشيخ الطوسيّ ، فقال : ( روي أن كميل بن زياد النخعيّ رأي أمير المؤمنين عليه السلام ساجدا يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان اللّهُمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شئ...) مصباح المتهجّد،ص 844

وقال السيّد ابن طاووس ( ت 664هـ) : ( ومن الدعوات في هذه الليلة ما رويناه بإسنادنا إلى جدّي أبي جعفر الطوسيّ رضي الله عنه قال : روي أن كميل بن زياد النخعيّ رأى أمير المؤمنين عليه السلام ساجدا يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان . أقول : ووجدت في رواية أخرى ما هذا لفظها : قال كميل بن زياد : كنت جالسا مع مولاي أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه فقال بعضهم : ما معنى قول الله عز وجل : ( فيها يفرق كلّ أمر حكيم ) ؟ قال عليه السلام : ليلة النصف من شعبان ، والذي نفس عليّ بيده أنّه ما من عبد إلّا وجميع ما يجري عليه من خير وشرّ مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة ، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر عليه السلام إلّا أجيب له . فلمّا انصرف طرقته ليلا ، فقال عليه السلام : ما جاء بك يا كميل ؟ قلت : يا أمير المؤمنين دعاء الخضر ، فقال : اجلس يا كميل ، إذا حفظت هذا الدعاء فادع به كل ليلة جمعة أو في الشهر مرّة أو في السنة مرّة أو في عمرك مرّة تكف وتنصر وترزق ولن تعدم المغفرة ، يا كميل أوجب لك طول الصحبة لنا أنْ نجود لك بما سألت ، ثم قال : اكتب : اللّهُمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شئ ، وبقوّتك التي قهرت بها كلّ شيء ، وخضع لها كلّ شئ ، وذلّ لها كلّ شيء ، وبجبروتك التي غلبت بها كلّ شيء ، وبعزتك التي لا يقوم لها شيء ...) إقبال الأعمال، ج3 ص 331

وقد وردت بعض فقرات الدعاء مرويّة عن الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض مصادر السنّة كمصنّف ابن أبي شيبة.

روى ابن أبي شيبة : ( حدّثنا أبو خالد الأحمر عن حجّاج عن الوليد بن أبي الوليد عمّن حدّثه عن عليّ أنه كان يقول في دعائه : اللّهم إنّي أسألك برحمتك التي وسعت بها كلّ شيء ، وبجبروتك التي غلبت بها كلّ شيء ، وبعظمتك التي غلبت بها كلّ شيء ، وبسلطانك الذي ملأت به كلّ شيء ، وبقوّتك التي لا يقوم لها شيء، وبنورك الذي أضاء له كلّ شيء ، وبعلمك الذي أحاط بكلّ شيء ، وباسمك الذي تبيد به كل شئ ، وبوجهك الباقي بعد فناء كلّ شيء ، يا نور يا قدّوس يا نور يا قدّوس - ثلاثا ، يا أوّل الأوّلين ويا آخر الآخرين) المصنّف، ج7 ص 82

قد يقال: إنّ الحديث في رواية الشيخ الطوسيّ ضعيف السند لإرساله، لكن هذا غير مسلّم، فقد سبق وأشرت إلى صحّته من خلال مضمونه، كما أنّ العمل بالحديث الضعيف يجوز في فضائل الأعمال والأدعية ما لم يكن موضوعا، وهذا مورد اتّفاق الفريقين، وهو ما يعبّر عنه الإماميّة بالتسامح في أدلّة السنن.

قال ابن حجر عن حديث في سنده راوٍ ضعيف : ( الحديث الثامن حديث أنس في فضل عسقلان هو في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط في سبيل الله ، وليس فيه ما يحيله الشرع ولا العقل ، فالحكم عليه بالبطلان بمجرد كونه من رواية أبي عقال لا يتّجه ، وطريقة الإمام أحمد معروفة في التسامح في رواية أحاديث الفضائل) القول المسدّد في مسند أحمد، ابن حجر العسقلانيّ، صى44

وقال ابن خزيمة ( ت 311هـ) : ( باب ذكر الدعاء على الموقف عشيّة عرفة: إنّ ثبت الخبر، ولا إخال إلّا أنّه ليس في الخبر حكم وإنّما هو دعاء فخرّجنا هذا الخبر، وإن لم يكن ثابتا من جهة النقل). صحيح ابن خزيمة، ج4 ص 264

وقال البيهقيّ (ت 458هـ): (وقد تساهل أهل الحديث في قبول ما ورد من الدعوات وفضائل الأعمال ...) شعب الإيمان، ج2 ص 372

وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل:

روى الطبريّ بسنده عن كميل في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) له – وهي وصيّة طويلة ننقل بعض فقراتها -:

يا كميل ما من علم إلّا وأنا أفتحه، وما من سرّ إلّا والقائم (عليه السلام) يختمه، يا كميل ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم.

يا كميل لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا... يا كميل إنّما المؤمن من قال بقولنا، فمن تخلّف عنّا قصّر عنّا، ومن قصّر عنّا لم يلحق بنا، ومن لم يكن معنا ففي الدرك الأسفل من النار...

يا كميل إذاعة سرّ آل محمّد ( عليهم السلام ) لا يقبل الله تعالى منها ولا يحتمل أحد عليها.

يا كميل الدين لله فلا تغترن بأقوال الأُمّة المخدوعة التي ضلّت بعد ما اهتدت وأنكرت وجحدت بعد ما قبلت.

يا كميل الدين لله فلا يقبل الله تعالى من أحد القيام به إلّا رسولا أو نبيّا أو وصيا، يا كميل هي نبوّة ورسالة وإمامة، وما بعد ذلك إلّا متولّين ومتغلّبين وضالّين ومعتدين.

يا كميل نحن الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، وقد أسمعهم رسول الله وقد جمعهم فنادى ( فيهم ) الصلاة جامعة يوم كذا وكذا وأيّاما سبعة وقت كذا وكذا، فلم يتخلّف أحد. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : معاشر الناس إنّي مودٍّ عن ربّي عزّ وجلّ ولا مخبر عن نفسي ، فمن صدّقني فلله صدّق ومن صدّق الله أثابه الجنان ، ومن كذّبني كذّب الله عزّ وجلّ ، ومن كذّب الله أعقبه النيران. ثُمّ ناداني فصعدت فأقامني دونه ورأسي إلى صدره والحسن والحسين عن يمينه وشماله ، ثم قال : معاشر الناس أمرني جبرئيل عن الله تعالى ، إنّه ربّي وربّكم أن أُعلمكم أنّ القران هو الثقل الأكبر وأن وصيي هذا وابناي ومن خلفهم من أصلابهم هم الثقل الأصغر، يشهد الثقل الأكبر للثقل الأصغر ويشهد الثقل الأصغر للثقل الأكبر، كلّ واحد منهما ملازمة لصاحبه غير مفارق له حتّى يردا إلى الله فيحكم بينهما وبين العباد.

يا كميل فإذا كنّا كذلك فعلام تقدّمنا من تقدّم وتأخّر عنّا من تأخّر؟!!

يا كميل قد أبلغهم رسول الله رسالة ربّه ونصح لهم ولكن لا يحبّون الناصحين ، يا كميل قال رسول الله لي قولا أعلنه والمهاجرين والأنصار متوافرون يوما بعد العصر يوم النصف من شهر رمضان قائما على قدميه فوق منبره : عليّ وابناي منه الطيّبون منّي وأنا منهم وهم الطيّبون بعد أمّهم وهم سفينة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هوى، الناجي في الجنّة والهاوي في لظى. (بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، ص50 وما بعد).

لا تعجبك طنطنة الرجل إنّه من أهل النار!!

روى الديلميّ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خرج ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّها إلى داره وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد وكان من خيار شيعته ومحبّيه فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ } بصوت شجيٍّ حزين فاستحسن ذلك كميل في باطنه وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئا فالتفت إليه عليه السلام وقال: يا كميل لا تعجبك طنطنة الرجل إنّه من أهل النار، وسأنبئك فيما بعد! فتحيّر كميل لمشافهته له على ما في باطنه وشهادته للرجل بالنار مع كونه في هذا الأمر وفي تلك الحالة الحسنة ظاهرا في ذلك الوقت، فسكت كميل متعجّبا متفكّرا في ذلك الأمر ومضى مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل وقاتلهم أمير المؤمنين عليه السلام وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل والتفت أمير المؤمنين إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دما ورؤس أولئك الكفرة الفجرة محلّقة على الأرض فوضع رأس السيف من رأس تلك الرؤس وقال يا كميل أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ في تلك الليلة فأعجبك حاله فقبل كميل مقدّم قدميه واستغفر الله. (إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 226).

ولايته على هيت:

ونصّبه أمير المؤمنين (ع) والياً على هيت إبّان حكومته، ولكن حدث خطأ في أثناء ولايته، إذْ سمع أنّ جيش الشاميين يقترب من العراق، فخرج لصدّهم إلى قرقيسيا، ولكنّ الشاميين دخلوا هيت والأنبار، وكميل خارج عنها، فأرسل له أمير المؤمنين (ع) كتاباً يعاتبه على هذا الخطأ. (الكامل لابن الأثير: 3 / 376، حوادث سنة 39، نهج البلاغة: 3 / 117، كتاب 61)

ورد في نهج البلاغة: ومن كتاب له عليه السلام إلى كميل بن زياد النخعيّ وهو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا الغارة:

أما بعد: فإنّ تضييع المرء ما ولي وتكلّفه ما كفي لعجز حاضر ورأي متبّر. وإنّ تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا وتعطيلك مسالحك التي وليناك ليس بها من يمنعها ولا يردُّ الجيش عنها لرأي شعاع. فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك، غير شديد المنكب، ولا مهيب الجانب، ولا ساد ثغرة، ولا كاسر شوكة، ولا مغن عن أهل مصره، ولا مجز عن أميره. (نهج البلاغة تحقيق محمد عبده: 3 / 117 كتاب 61)

وعلمَ كميل بغارة أهل الشام على الجزيرة، فتصدّى لهم بستمائة فارس، فأكثر القتل فيهم، وكتب إلى أمير المؤمنين (ع) بالفتح فجازاه خيرا وأجابه جوابا حسنا ورضي عنه وكان ساخطا عليه في حادثة هيت. (الكامل لابن الأثير: 3 / 379، حوادث سنة 39).

قال ابن أعثم: فكتب إلى كميل بن زياد: أما بعد، فالحمد لله الذي يصنع للمرء كيف يشاء، وينزل النصر على من يشاء إذ شاء، فنعم المولى ربّنا ونعم النصير، وقد أحسنت النظر للمسلمين ونصحت إمامك، وقدما كان ظنّي بك ذلك، فجرّبت والعصابة التي نهضت بهم إلى حرب عدوّك خير ما جزي الصابرون والمجاهدون، فانظر لا تغزون غزوة ولا تجلون إلى حرب عدوّك خطوة بعد هذا حتّى تستأذنني في ذلك - كفانا الله وإياك تظاهر الظالمين، إنّه عزيز حكيم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته -. (الفتوح لابن أعثم: 4 / 228)

شهادته (رضي الله عنه):

توفي كميل مقتولا بأمر من الحجّاج. قال الذهبيّ في أثناء ذكره من مات سنة اثنتين وثمانين : (وفيها قتل الحجّاج كميل بن زياد النخعيّ صاحب عليّ وكان شريفا مطاعا شيعيّاً متعبّدا) العبر في خبر من غبر، ج1 ص 97

وكان أمير المؤمنين (ع) قد أخبره بأنّ الحجّاج سيقتله. (لاحظ: الإرشاد للمفيد: 1 / 327، مناقب ال ابي طالب: 2 / 106، الإصابة لابن حجر: 5 / 486)

قال الحافظ ابن حجر: وأخرج بن أبي الدنيا من طريق الأعمش قال دخل الهيثم بن الأسود على الحجّاج فقال له ما فعل كميل بن زياد قال شيخ كبير في البيت قال فأين هو قال ذلك شيخ كبير خرف. فدعاه فقال له: أنت صاحب عثمان؟ قال: ما صنعت بعثمان لطمني فطلبت القصاص فأقادني فعفوتُ. قال: فأمر الحجّاج بقتله.

وقال جرير عن مغيرة: طلب الحجّاج كميل بن زياد فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلما رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير قد نفد عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطاءهم. فخرج إلى الحجّاج، فلمّا رآه قال له: لقد أحببت أن أجد عليك جميلا. فقال له كميل: إنّه ما بقي من عمري إلّا القليل، فاقض ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وقد أخبرني أمير المؤمنين عليّ إنّك قاتلي، قال: بلى قد كنتَ فيمن قتل عثمان، اضربوا عنقه! فضربت عنقه. (الإصابة لابن حجر: 5 / 486، ولاحظ الإرشاد للمفيد: 1 / 327)

ونقل الذهبيّ أنّه الحجّاج طلب البيعة من القبائل قائلا لهم: قوموا إلى بيعتكم، فقامت القبائل قبيلة قبيلة تبايع، فيقول: من فتقول: ينو فلان، حتّى جاءته قبيلة فقال: من؟ قالوا: النخع، قال: منكم كميل بن زياد؟ قالوا: نعم، قال: فما فعل قالوا أيّها الأمير شيخ كبير، قال: لا بيعة لكم عندي ولا تقربون حتى تأتوني به. قال: فأتوه به منعوشاً في سرير حتّى وضعوه إلى جانب المنبر، فقال: ألا لم يبق ممّن دخل على عثمان الدار غير هذا، فدعا بنطع وضربت عنقه. (تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 320)

وقال ابن كثير: وذكر الحجّاج عليّاً في غضون ذلك فنال منه، وصلّى عليه كميل، فقال له الحجّاج: والله لأبعثنّ إليك من يبغض عليّاً أكثر مما تحبّه أنت، فأرسل إليه ابن أدهم وكان من أهل حمص ويقال: أبا الجهم بن كنانة فضرب عنقه. (البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 57)

وقال الذهبيّ: قال المدائنيّ: مات كميل سنة اثنتين وثمانين ، وهو ابن تسعين سنة. (تاريخ الاسلام للذهبيّ: 6 / 177)

وقال ابن كثير: وكان شجاعا فاتكا، وزاهدا عابدا، قتله الحجّاج في هذه السنة، وقد عاش مائة سنة، قتله صبرا بين يديه. (البداية والنهاية: 9 / 57)

وقال يحيى بن معين: مات كميل بن زياد سنة اثنتين وثمانين أو أربع وثمانين وهو ابن تسعين سنة. (تاريخ دمشق: 50 / 257).

مدفنه:

دفن كميل بن زياد عند الثويّة، ويقع قبره في محافظة النجف الأشرف، حي الحسين، قرب مسجد الحنّانة، وقبره مزار معروف مشهور، عليه قبّة، يقصده الناس من أقاصي الدنيا، ويتبرّكون به. (لاحظ تاريخ الكوفة للبراقيّ، ص367)

2024/06/13

مستقبل الدعوة: هل ترك النبي (ص) أحاديثه من دون تدوين؟!
إن موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الايجابي من دعوته يمر بثلاث مراحل:

[اشترك]

المرحلة الأولى: جمع القرآن

حين بدأ نزول القرآن شرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتدوينه، حيث كان يملي الآيات النازلة على علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيكتبها بخطه:

قال الإمام علي (عليه السلام) في هذا الشأن: " فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي " (١).

واستمرت عملية جمع القرآن في السطور حتى آخر آية نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبتدوين آخر آية كان القرآن مجموعا في كتاب واحد، وقد كان الصحابة يدونون بعض السور ولكنه كان تدوينا ناقصا مقارنة بهذا التدوين.

إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قيامه بهذا العمل يكون قد وضع أول الضمانات لحفظ دعوته من الضياع والنسيان، ولكن هذا ليس كافيا ولا يستطيع الناس معرفة الإسلام من خلال القرآن وحده، لهذا قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخطوة أخرى.

المرحلة الثانية: تدوين السنة

السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، وقد شرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتدوينها تزامنا مع جمع القرآن، وكان تدوين السنة عملا مشتركا بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يملي وعلي (عليه السلام) يكتب، وبوفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت السنة مجموعة في كتاب أو عدة كتب وقد أودعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته (عليهم السلام) فكانت عند علي بن أبي طالب (عليه السلام).

قالت أم سلمة: " دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأديم وعلي بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يملي وعلي يكتب حتى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه " (2).

وعرف الكتاب الذي يحوي السنة بالجامعة أو صحيفة علي (عليه السلام):

قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) (3) لأحد أصحابه وهو أبو نصير: " يا أبا محمد وإن عندنا (الجامعة) وما يدريهم ما الجامعة!

قال: قلت جعلت فداك، وما الجامعة؟

قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإملائه من فلق فيه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شئ يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش " (4).

وهذا الكتاب الذي عرف بالجامعة من أكبر الكتب التي كانت بحوزة آل البيت (عليهم السلام) (5).

ونقل عنها غير واحد من علماء أهل السنة أمثال:

l ابن سعد في آخر كتابه الجامع.

l البخاري، ذكرها في ثمانية مواضع من (الصحيح)، ورواها بثمان طرق.

l الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، جمع ما نقل عنها في كتاب مستقل عنونه ب‍ (صحيفة علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة توثيقية فقهية " (6).

وبالرغم من ذكر الكتب السنية لصحيفة علي (عليه السلام) إلا أنها لم تعطها حقها من البيان، بل قد يكون هذا البيان اليسير لصحيفة علي (عليه السلام) فيه ظلم وتزوير لأسباب سياسية وأخرى مذهبية، ولنأخذ هذه الرواية التي رواها البخاري ونقف عندها قليلا:

أخرج البخاري عن أبي جحيفة، قال: " قلت لعلي (عليه السلام): هل عندكم كتاب؟

قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل، أو ما في هذه الصحيفة.

قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟

قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر " (7).

يفهم من هذه الرواية وروايات أخرى لم نذكرها (8) أنه كان هناك تساؤل يدور بين الناس حول أهمية وحقيقة امتلاك آل البيت (عليهم السلام) كتابا خاصا أم لا، مما دعا أبا جحيفة أن يسأل عليا (عليه السلام): " هل عندكم كتاب؟ " وأجابه الإمام أنه عندهم صحيفة فضلا عن كتاب الله.

وقد وصفت الرواية الصحيفة بشكل فيه امتهان وتنقيص لأمير المؤمنين (عليه السلام).

فلماذا يحمل علي (عليه السلام) صحيفة فيها هذه المسائل الثلاث؟ وما الحكمة من ذلك؟ والواقع أنه كانت عنده (عليه السلام) صحيفة كبيرة.

وفي أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وصف دقيق لهذه الصحيفة:

روى أبو الحسن ابن بابويه، بسنده، عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): أكتب ما أملي عليك.

فقال: يا نبي الله، وتخاف على النسيان؟

فقال: لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن، أكتب لشركائك.

قال: قلت: ومن شركائي، يا نبي الله؟

قال: الأئمة من ولدك... " (9).

وعن عذافر الصيرفي، قال: " كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر (10) (عليه السلام) فجعل يسأله، وكان أبو جعفر (عليه السلام) له مكرما، فاختلفا في شئ.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا بني قم فأخرج كتاب علي (عليه السلام)، فأخرج كتابا مدروجا عظيما، ففتحه، وجعل ينظر حتى أخرج المسألة.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا خط علي (عليه السلام) وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأقبل على الحكم، وقال: يا أبا محمد اذهب أنت وسلمه وأبو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل إليهم جبريل (عليه السلام) " (11).

قالت أم سلمة: " دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأديم وعلي بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يملي وعلي يكتب حتى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه " (12).

وبتدوين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لسنته يكون قد وضع الضمان الثاني لحفظ دعوته، ولكن جمع القرآن وتدوين السنة لا يكفي لحفظ الدعوة، فترك القرآن والسنة بأيدي الأمة مدعاة للاختلاف والفرقة، فالأمة لا تستطيع بيان القرآن والسنة وتوضيح دلالتهما بيانا قائما على الجزم واليقين، وحديث " اختلاف أمتي رحمة " الذي قد يحتج علينا البعض فيه حديث كما يقول الألباني لا أصل له، فقد قال فيه: " لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا... ".

ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: " وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف " وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي (ق ٩٢ / ٢) " (13)، وقال فيه ابن حزم: " باطل مكذوب " (14).

فكما أن حكم الله كان واحدا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكذا يجب أن يكون فبعد مماته، وكما أن الناس كانوا يرجعون لشخص النبي لحل مشاكلهم ومسائلهم الدينية فكذا يجب أن يخلف النبي من ينوب عنه ويقوم بمهامه - ما عدا الوحي - ويرجع الناس إليه ويبقى حكم الله واحدا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف اتخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطوة ثالثة.

المرحلة الثالثة: إعلان مرجعية آل البيت (عليهم السلام) كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بدنو أجله وأحس المسلمون بذلك في حجة الوداع، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أن الكتاب والسنة دون مبين لهما غير كافيين لمواصلة المسيرة المباركة التي ابتدأها، لذلك أعلن في حجة الوداع على مرأى ومسمع الألوف من الحجاج مرجعية أهل البيت (15) (عليهم السلام) الفكرية والسياسية (16).

وقد نقل لنا مسلم هذه الوصية التاريخية في صحيحه وبعدة طرق: قال زيد بن أرقم - أحد رواة الحديث -: " قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال:

أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به "، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " (17).

وفي صحيح الترمذي ومستدرك الحاكم - وصححه -: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما " (18).

ولقد روى هذا الحديث عن النبي خمسة وثلاثون صحابيا (19)، وصححه كثير من علماء الحديث، منهم: الحاكم في المستدرك، الذهبي في تلخيص المستدرك، الهيثمي في مجمع الزوائد، وابن كثير في تاريخه، والسيوطي في الجامع الصغير (20)، وابن تيمية ذكره في منهاج السنة عدة مرات، وصححه من المعاصرين الألباني المحدث السلفي (21)، والمحدث الأشعري الحسن السقاف (22).

وبالرغم من أن الحديث صريح في وجوب اتباع الثقلين معا الكتاب وأهل البيت (عليهم السلام)، إلا أن البعض - كابن تيمية - شكك فيه وعندما اصطدم برواية مسلم قال:

" الحديث الذي في مسلم إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قاله!! فليس فيه إلا الوصية باتباع الكتاب، وهو لم يأمر باتباع العترة، ولكن قال: " أذكركم الله في أهل بيتي " (23).

ومن الطبيعي إن الذي يعتصر مخيلته ليصرف أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل بيته (عليهم السلام) عن معانيها يقع في هذه المطبات، فإذا كان الأمر مجرد تذكير، فلماذا يقرنهم بالقرآن فيقول: " إني تارك فيكم الثقلين " و " لن يفترقا " و " حتى يردا ".

وقد أسعفنا الألباني برواية صححها، ترد على ابن تيمية وكل من كرر كلامه، فعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض " (24).

أما حديث " كتاب الله وسنتي " فهو غير صحيح، فقد قال فيه أحمد سعد حمدون: " سنده ضعيف " فيه " صالح بن موسى الطلحي "، قال فيه الذهبي:

ضعيف، وقال يحيى: ليس بشئ ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك " (25).

وذهب الحسن السقاف - وهو المحدث الخبير - إلى أن لفظ " وسنتي " موضوع (26).

أما في مصادر الحديث، فقد ورد في موطأ مالك بدون سند (27)، ورواه الحاكم في مستدركه (28) بسندين أحدهما فيه ابن أبي أويس وهو ضعيف (29) والآخر فيه صالح بن موسى الطلحي وهو مجروح (30).

ورواه البيهقي (31) بإسنادين، واحد: فيه ابن أبي أويس، والثاني: فيه صالح بن موسى الطلحي، وقد عرفت حالهما، ووصل ابن عبد البر في التمهيد (32) حديث الموطأ من حديث كثير بن عبد الله وهو مجمع على ضعفه فلا يحتج بحديثه.

وهكذا اتضح الحق مبينا لكل ذي بصيرة لم ينخرها العناد بالفساد.

حديث السفينة ونصه: " مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ".

روى هذا الحديث ثمانية من الصحابة، وصححه كل من: الحاكم في مستدركه، والسيوطي في نهاية الإفصال في تشريف الآل (33)، والطيبي في شرح المشكاة، وابن حجر الشافعي حيث قال: " جاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا... " (34) الحديث.

وصححه محمد بن يوسف المالكي المعروف بالكافي حيث قال بعد كلام له: " ويدلك على ذلك: الحديث المشهور المتفق على نقله: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " (35).

وقد روى هذا الحديث حتى القرن الرابع عشر أكثر من مائة وخمسين عالما من علماء أهل السنة (36).

ودلالة الحديث لا تخفى على أحد في وجوب اتباع أهل البيت (عليهم السلام) لتحصيل النجاة.

حديث الأمان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس " (37).

وهذا الحديث صريح في أن أهل البيت (عليهم السلام) أمان الأمة من الاختلاف.

نصوص قرآنية قال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ (38).

وحبل الله فسرته الروايات بآل البيت (عليهم السلام) (39).

وقد أمر الله الأمة بسؤال أهل الذكر، قال تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ (40) وهم آل البيت (عليهم السلام) (41).

وهم الصادقون الذين أمرنا الله بأن نكون معهم: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ (42) (43).

وقد وصف الله اتباع هذا الخط بخير البرية فحينما نزل قول الله تعالى:

﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾ (44) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا علي هم أنت وشيعتك " (45).

مقارنة بين النظريتين:

سبق لنا إثبات بطلان النظرية الأولى التي تزعم بترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن محفوظا في صدور الصحابة وفي بعض الصحف، ونهيه عن تدوين السنة، أو قل تركها بلا جمع، لمن يذهب إلى أن حديث النهي قد نسخ.

فلا يمكننا أن نتصور صدور هذا من نبي الله، لأننا نروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " (46).

ونفهم من هذا النص أن المحجة البيضاء كانت موجودة بالفعل وقت قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا النص، قبل أن يشير عمر على أبي بكر بجمع القرآن، وقبل أن يأمر عمر بن عبد العزيز ابن حزم بجمع الحديث.

والمحجة البيضاء التي تركهم (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها هي اتباع آل البيت (عليهم السلام) وأخذ الإسلام منهم، لأنهم أعرف من غيرهم بالكتاب والسنة.

ولو دققنا النظر في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " تركتكم على المحجة البيضاء... " وقوله: " تركت فيكم... كتاب الله وعترتي " تتضح ملاحظة التوافق بينهما، وأن حديث الثقلين يبين المقصود بالمحجة البيضاء، ففي كلا الحديثين يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " تركت... ".

ويستحيل أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس على طريقين مختلفين، فالمحجة البيضاء هي اتباع الكتاب والعترة!

وانظر إلى آخر حديث المحجة: " لا يزيغ عنها إلا هالك " وآخر حديث السفينة: " ومن تخلف عنها هلك "، فكلمتي " هالك " و " هلك " في الحديثين تبينان المقصود بالمحجة البيضاء، وهي ركوب سفينة آل البيت (عليهم السلام) والنجاة بهديهم من مهلكة الضلالة، فمن لم يسر على المحجة البيضاء هالك كما أن من عدل عن سفينة آل محمد هلك!

والرواية التالية تلقي مزيدا من الضوء على المحجة البيضاء:

عن جابر قال: خط لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطا فقال: " هذا سبيل " ثم خط خططا فقال: " هذه سبل الشيطان فما منها سبيل إلا عليها شيطان يدعو الناس إليه، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي أذكركم الله عز وجل في أهل بيتي، (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) " (47).

ولو قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث المحجة مع عدم جمعه للكتاب والسنة وعدم إرجاع الناس إلى شخص ينطق بحكم الله الواقعي لكان - حاشاه - كحال أستاذ قال لتلاميذه - بعد أن أطفأ أنوار غرفة الدرس وتركها مظلمة - سأترككم في هذه الغرفة التي ظلامها كنورها ومن يرسب في الامتحان فهو هالك!

كيف سيجيب هؤلاء التلاميذ على أسئلة الامتحان وهم لا يرون أكفهم؟ ونحن مسلمي هذا القرن، كيف سنصلي، نصوم، نحج... مع عدم وجود دليل لنا؟

لقد جعل الله للانسان الحاجب والرموش لحماية عينيه وهذه من الأمور البسيطة جدا إذا ما قيست بضرورة وجود حجة لله سبحانه على خلقه يبين لهم تعاليم الإسلام، فهل يعقل أن يجعل الله لنا حاجبا ورموشا لحفظ عيوننا، ولا يضع لنا دليلا على دينه!

ولذلك لا نجد مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " تركتكم على المحجة البيضاء... " إلا في مدرسة آل البيت (عليهم السلام).

فالكتاب والسنة مدونان، ويتجسدان في سلوك أئمة آل البيت (عليهم السلام) وأقوالهم، والإسلام حي يمارس عمليا أمام الناس، فيكون أدعى للفهم والقبول لوجود الشخصية الإسلامية النموذجية الماثلة أمامهم في الحياة اليومية.

وبهذا يعرف الناس الإسلام من هؤلاء الأئمة (عليهم السلام)، بدلا من النظر في كتب الحديث والرجال والأصول... وبدلا من أن يدب الخلاف بين أبناء الإسلام ويكفر بعضهم بعضا، وقد يقتتلون.

فترى فقيها يقول: الحكم في هذه المسألة كذا والدليل هذه الآية، وآخر يقول: بل الحكم كذا والآية نفسها تؤيدني، حتى أن الخلاف وصل بين فقهاء السنة إلى وحدة الأصول الفقهية وأصالتها، فهذا يقول بحجية القياس، وأهل الظاهر أنكروه، وأجاز مالك بن أنس الاستحسان، وقال الشافعي: " من استحسن فقد شرع "...، حتى جعلوا الإسلام حيص بيص، فكل واحد في جهة، ويقول دليلي من الكتاب والسنة.

فبدلا من هذا كله، ومن أن يصبح الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين - والذي يعبر عن حكم واقعي واحد - مذاهب وأحزابا، يعادي بعضها البعض.. هنالك مراجع جعلهم الله تعالى حججا على خلقه، أئمة هداة، لا يصعب علينا أن نأخذ الإسلام صافيا منهم، دون الخوض في الكتب المختلفة، وبعيدا عن هذه التعقيدات التي توهن المسلمين وترجعهم إلى الوراء.

يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف: " مما لا يعرف فيه خلاف بين جمهور المسلمين، أن الله سبحانه لم يترك الناس سدى، وأن له حكما في كل ما يحدث للمسلم من الوقائع، غير أنه سبحانه لحكمة بالغة لم ينص على كل أحكامه في مواد قانونية جامعة " (48).

لا ندري كيف اتفقت كلمة جمهور المسلمين على عدم ترك الله عباده سدى، مع ما هو موجود عندهم من ترك الله لكتابه مفرقا، ونهيه عن تدوين السنة على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعدم وضعه مرجعية تزود الناس بحاجاتهم المستجدة؟!

والعجيب قوله: " أنه سبحانه لحكمة بالغة لم ينص على كل أحكامه في مواد قانونية جامعة "!

فهل الحكمة في أن ينص الله على كل أحكامه، ليطمئن المسلم إلى حكم الله، وتستقيم تربيته التشريعية؟ أم الحكمة في ترك أحكامه للاجتهاد المبني على الظن، الذي يؤدي إلى تعدد الآراء والمذاهب والقتال والتكفير فيما بين اتباعها؟!

نعم هذه هي الحكمة التي أشار إليها الأستاذ خلاف، ولا يوجد غيرها وقد عاشها المسلمون، وما زالوا يعيشونها من تكفير لبعضهم البعض، وأنا أجزم أن انقسام هذه الأمة إلى فرق ومذاهب لم يحدث إلا بسبب إقصاء النخبة التي تمثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مواقعهم التي خصهم الله سبحانه بها، فلو بقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيا إلى يوم القيامة مع طاعة الناس له لما حدث أي انقسام أو خلاف بينهم، وهكذا لو أطاع الناس خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آل بيته (عليهم السلام) لما تمزقت أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) شيعا متنافرة في دينه الذي جاء ليؤلف بين قلوب الناس وليس لتشتيتهم.

أتى رجل من أهل الشام ليناظر الإمام الصادق (عليه السلام) (49) وأصحابه، فتصدى له هشام بن الحكم (50) فقال له: " يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟

فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه.

قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟

قال: أقام لهم دليلا كي لا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم.

قال: فمن هو؟

قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال هشام: فبعد رسول الله؟

قال: الكتاب والسنة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟

قال الشامي: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟

فسكت الشامي.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): مالك لا تتكلم؟

قال الشامي: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة، إلا أن لي على هذا حجة.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): سله تجده مليا.

فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربهم أم أنفسهم؟

فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم.

فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟

قال هشام: نعم.

قال الشامي: من هو؟

قال هشام: أما في ابتداء الشريعة فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما بعد النبي فعترته... " (51).

وقال هشام بن الحكم لأحد خصومه الذين ينكرون وجود مبين للإسلام:

" أتقول أن الله عدل لا يجور؟

قال: نعم هو عدل لا يجور.

قال هشام: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيل الله، وكلف الأعمى قراءة المصحف والكتب، أتراه كان عادلا؟

قال: ما كان الله ليفعل ذلك.

قال هشام: علمت أن الله لا يفعل ذلك، ولكن على سبيل الجدل والخصومة أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا إذا كان تكليفا لا يكون السبيل إلى إقامته وإقامة أدامه؟

قال: لو فعل ذلك لكان جائرا.

قال هشام: فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه، ولم يقبل إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟ فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين؟ أو كلفهم ما لا دليل لهم على وجوده، فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة المصحف والكتب والمقعد المشي إلى الجهاد والمساجد؟

فسكت خصمه ساعة ثم قال: لا بد من دليل، وليس بصاحبك.

فتبسم هشام وقال: تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية " (52).

نعم لقد أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بافتراق أمته ثلاثا وسبعين فرقة، واحدة منها في الجنة، فهل كان يعلم هذا ولا يضع دليلا على دين الله الصحيح؟

إن قيل: الكتاب والسنة هما الدليل.

قلنا: الكتاب والسنة مدعاة للاختلاف لاختلاف العقول في فهمهما، ونحن نريد المقصود الشرعي، وهو واحد لا يتعدد، إضافة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ربط بين الكتاب وآل بيته (عليهم السلام) ولذلك يلزمنا الجمع بينهما.

وإن قيل: الأشعري والمذاهب الأربعة.

قلنا: وأي عقيدة للأشعري تقصدون؟ أعقيدة المعتزلة أم الأشاعرة أم أهل الحديث؟ ولا أحد من الأئمة الأربعة كان قد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمع منه، وقد نهوا الناس عن تقليدهم (53)!

لم يدع من أموره أولاها قد علمتم أن النبي حكيم ترجع الناس في اختلاف نهاها كيف تخلو من حجة وإلى من إن ترك الأمة دون مبين للشرع، يدل على قصور النظام الاسلامي، فالفقهاء كانوا يطرحون مسائل لم تقع، ويجتهدون في معرفة أحكامها، واشتهر الفقه الحنفي بالفقه الافتراضي، فهل هؤلاء الفقهاء أكمل وأبعد نظرا من التشريع الإلهي؟!

يقول الإمام علي (عليه السلام): " اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مستورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته " (54).

قال هشام بن الحكم لأحد العلماء الذين ينكرون وجود الإمام:

" ألك عين؟

قال: يا بني أي شئ هذا السؤال؟

فقال: هذه مسألتي قال: سل وإن كانت مسألتك حمقاء.

قال: أجبني فيها.

فقال: سل.

فقال: ألك عين؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها؟

قال: أرى الألوان والأشخاص.

قال: ألك أنف؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع به؟

قال: أشم به الرائحة.

قال: ألك لسان؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع به؟

قال أتكلم به.

قال: ألك أذن؟

قال: نعم.

قال: ما تصنع بها؟

قال: أسمع بها الأصوات.

قال: ألك يدان؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بهما؟

قال: أبطش بهما وأعرف اللين من الخشن.

قال: ألك رجلان؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بهما؟

قال أنتقل بهما من مكان إلى مكان.

قال: ألك فم؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع به؟

قال: أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.

قال: ألك قلب؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع به؟

فقال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح.

قال: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

قال: لا.

قال: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟

قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلى القلب فيتيقن بها اليقين ويبطل الشك.

قال: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟

قال: نعم.

قال: إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح وينفي ما شكت فيه، ويترك هذا الخلق كله في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك... (55)؟!! ".

النتيجة:

إن الله لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أكمل على يديه الدين وأتم النعمة وذلك بجعل آل البيت (عليهم السلام) خلفاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القيادة والتبليغ، فكما يختار الله الأنبياء كذلك يختار أوصياءهم، وكما يحتاج الناس للنبي، يحتاجون للإمام، ولا يعقل أن يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دينه دون مرجع يبينه للناس، فها هو يستخلف عليا (عليه السلام) على أمانات خاصة (56)، فهل كانت هذه الأمانات أعظم من الأمانة الإلهية حتى يتركها دون وصي، ويضع وصيا على أمانات دنيوية؟!

بعد الذي قدمنا هل يبقى شك في أحقية مدرسة آل البيت (عليهم السلام) بالإمامة وقيادة الأمة الإسلامية إلى طريق الله سبحانه؟

المدرسة السنية تقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أهمل أمر المرجعية بعده فلم يجعل للأجيال إلا قرآنا مفرقا في الصحف والصدور.

والمدرسة الشيعية تقول بجمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن والسنة، وأقام بأمر الله تعالى الأئمة الأطهار ترجمانا لهما.

إن من يقف متأملا بين النظريتين السابقتين لمستقبل الدعوة، فإنه سيهتدي إلى الحقيقة:

فالنظرية الأولى ترى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ثلاث وعشرين سنة من الجهاد وتحمل الأذى والصعاب لنشر دينه، ترك معجزته الخالدة مفرقة، ونهى عن تدوين سنته المبينة للقرآن، والتي لا يستغنى عنها، وهو يعلم بحاجة الناس إليها، ولم يشر للمستجدات وكيفية التعامل معها...

هذا ما وجدته في النظرية الأولى، وأي منصف يتأملها جيدا سيجد نفس الشئ، وأي محاولة تبريرية لهذه الحقيقة فهي فاشلة، وتغطية على الواقع.

هذا من جانب، ومن جانب آخر لا نرى على المدرسة الشيعية أي مؤاخذة في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو ذلك القائد البصير الذي نظر للأمد البعيد فلم يترك الأمر بعده مهملا فارغا بل رتبه أروع ترتيب، فالكتاب والسنة مدونان، ولحسم الخلاف في فهمهما جعل ناطقا عنهما لا يخلو منه زمن.

إن الفكر الذي يقدم هذه الأطروحات لصيانة الإسلام من التحريف وإدامته، لهو فكر عظيم، فلا يمتلك المرء إلا أن ينحني أمامه، وبهذا التصور نرى المفارقة العجيبة بين النظريتين.

والضد يظهر حسنه الضد!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على محمد وآله الطاهرين

المصدر: كتاب النبي ومستقبل الدعوة

============

الهوامش:

(1) الأصول من الكافي ، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث.

(2) المحدث الفاصل للرامهرمزي ٦٠١.

(3) هو الإمام السادس من أئمة آل البيت (عليهم السلام).

(4) الوافي للفيض الكاشاني.

(5) وقد يقال: ولماذا لم يخرج أئمة آل البيت (عليهم السلام) هذا الكتاب ليستفيد منه

المسلمون؟

والجواب: أن الأمة هي السبب إذ نحتهم عن مركزهم الذي جعلهم الله فيه كما سيأتي.

(6) تاريخ التشريع الاسلامي للدكتور عبد الهادي الفضلي ٣٥.

(7) صحيح البخاري كتاب العلم، باب كتابة العلم.

(8) راجع الرحلة إلى طلب الحديث للخطيب البغدادي.

(9) تدوين السنة الشريفة للسيد محمد رضا الجلالي ٧٣ - ٧٤، نقلا عن 

الإمامة والتبصرة من الحيرة ١٨٣ ح ٣٨، بصائر الدرجات للصفار

١٦٧...

وراجع كتاب السيد الجلالي المذكور لترى تصريحات بعض العلماء

بامتلاك أهل البيت (عليهم السلام) صحيفة أو صحفا.

(10) هو محمد الباقر الإمام الخامس من أئمة آل البيت (عليهم السلام).

(11) فهرست النجاشي ٢ / ٢٦١.

(12) المحدث الفاصل للرامهرمزي ٦٠١، تدريب الراوي .

(13) سلسلة الأحاديث الضعيفة ١ / ٧٦ ح ٥٧.

(14) الإحكام في أصول الأحكام ٥ / ٦١.

(15) ونعني بأهل البيت إضافة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزهراء (عليها السلام) الأئمة الاثني

عشر (عليهم السلام) أولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام)

وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله فرجه، لمزيد من التفصيل أنظر كتابنا 

وركبت السفينة ٥٣٣ - ٥٩٦.

(16) ولسنا الآن بصدد التعرض للنص الذي يعلن مرجعية أهل البيت (عليهم السلام)

السياسية - أعني نص الغدير - أجل فلندع أمر الخلافة قليلا ولنرى الآن أمر

ديننا فمن أين نأخذه؟

(17) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي

طالب (عليه السلام).

(18) صحيح الترمذي ج ٥ كتاب المناقب ٦٦٣ / ٣٧٨٨، المستدرك ٣ / ١٤٨.

(19) وكل رواياتهم من طرق أهل السنة فراجعها في: عبقات الأنوار ج ١ و ج ٢ و ملحق المراجعات ٣٢٧.

(20) راجع: حديث الثقلين: تواتره - فقهه لعلي الحسيني الميلاني.

(21) صحيح الجامع الصغير ٢ / ٢١٧، رقم ٢٤٥٤.

(22) صحيح صفة صلاة النبي ٢٨٩.

(23) منهاج السنة ٤ / ٨٥.

(24) السنة لابن أبي عاصم ٣٣٧، رقم الحديث ٧٥٤، مسند أحمد ٥ / ١٨٢.

(25) شرح أصول اعتقاد أهل السنة لأبي القاسم اللالكائي السلفي ٨،

تخريج أحمد سعد حمدون.

(26) راجع كلامه في صحيح صفة صلاة النبي ٢٨٩ - ٢٩٤.

(27) الموطأ كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر.

(28) مستدرك الحاكم ١ / ٩٣

(29) راجع ترجمته في: تهذيب التهذيب ١ / ٢٧١.

(30) راجع ترجمته في تهذيب الكمال ١٣ / ٩٦، و تهذيب التهذيب 

٤ / ٣٥٥.

(31) " السنن الكبرى " 10 / 114.

(32) " التمهيد " 24 / 331.

(33) " خلاصة عبقات الأنوار " 43.

(34) " الصواعق المحرقة " 150.

(35) راجع " خلاصة العبقات " ٢٤٧.

(36) فراجع " مستدرك الحاكم " ٣ / ١٥٠، " المعجم الكبير " للطبراني ١٣٠، " مجمع الزوائد " للهيثمي... أنظر " وركبت السفينة " ٤٠٧.

(37) " مستدرك الحاكم " ٣ / ١٤٩ قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، " الصواعق المحرقة " ٩١ و ١٤٠ وصححه، " مجمع الزوائد " ٩ / ١٤٧.

(38) آل عمران: ١٠٢.

(39) " روح المعاني " للآلوسي ٤ / ١٦، " الصواعق المحرقة " ١٤٩.

(40) النحل: ٤٣.

(41) راجع: " تفسير الطبري " ١٤ / ١٠٩، " تفسير ابن كثير " ٢ / ٥٩١ - ٥٩٢، " تفسير القرطبي " ١١ / ٢٧٢...

(42) التوبة: ١١٩.

(43) راجع " الدر المنثور " ٣ / ٢٩٠، " فتح القدير " للشوكاني ٢ / ٢٩٥، " روح المعاني " ١١ / ٤١، " تذكرة الخواص " ١٠.

(44) البينة: ٧.

(45) " تفسير الطبري " 3 / 146، " فتح القدير " 5 / 477، " الدر المنثور " 6 / 379، " روح المعاني " 30 / 207، " الصواعق المحرقة " 96...

(46) " مسند أحمد " 4 / 126.

(47) قال أحمد سعد حمدان: رواه أحمد 1 / 87، " الفتح الرباني "، والمروزي في " السنة " 6، ورواه ابن ماجة موجزا وابن أبي عاصم في " السنة " موجزا - 16، وصحح الألباني هذا الحديث، فراجع " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " لأبي القاسم الطبري، تحقيق أحمد سعد حمدان.

(48) " مصادر التشريع فيما لا نص فيه " 8.

(49) هو الإمام السادس من أئمة آل البيت الاثني عشر (عليهم السلام)، وهو أستاذ أبي حنيفة رغم أنه يصغره بسنتين، أنظر كتابنا " وركبت السفينة " 554 - 564.

(50) أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) المقربين، وقد نسبت إليه كثير من الاتهامات الباطلة.

(51) " الاحتجاج " 2 / 277 - 281.

(52) " الكشكول " ليوسف البحراني.

(53) وهذا أثبتناه فراجع " وركبت السفينة " 29 - 36 و " نحو الإسلام الأصيل " للمؤلف.

(54) " ينابيع المودة " في الباب المائة 523، " إحياء علوم الدين " 1 / 54، " حلية الأولياء " بإيجاز 1 / 8، وقريب منه في " مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب " 3 / 32 نقلا عن " إعلام الموقعين " لابن القيم.

(55) " الأصول من الكافي " 1 / 169 - 171.

(56) قبل موته الشريف كان قد أوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) بأن يسلم بعض الأمانات لأصحابها.

2024/06/10

زواج النورين.. كل ما تريد معرفته عن زواج علي وفاطمة (ع)
في مثل اليوم الأول من شهر ذي الحجة سنة 2 للهجرة زَوّج سيدُنا ومولانا خاتمُ الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) أميرَ المؤمنين سيدةَ نساء العالمين البتول العذراء فاطمة الزهراء (عليهما السلام) ([مصباح المتهجد: 613؛ أمالي الطوسي: 43؛ مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/389، 405؛ بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله): 267؛ اللمعة البيضاءفي شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 237]).

[اشترك]

(< قال الإمام الصادق (عليه السلام): لولا أن الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين لفاطمة (عليهما السلام) ما كان لها كفو على ظهر الأرض من آدم ومن دونه>) ([الكافي: 1/461؛ من لا يحضره الفقيه: 3/393؛ تهذيب الأحكام: 7/410؛ وسائل الشيعة: 20/74]). 

خطبة الزهراء (عليها السلام)

وعندما أكملت البتول العذراء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)تسع سنين خطبها عظماء القبائل ورؤساء العشائر وأصحاب الثروة والمكنة ومن أطراف وأكناف المدينة، وكذلك تجرأ بعض المنافقين على خطبتها بلا حياء ولا خجل.

وعند خطبة بعض هؤلاء تأثر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جدا وقال لبعض المنافقين الذين عتبوا على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ردهم عنها (عليها السلام) وتزويجها عليا (عليه السلام): (< ما أنا منعتكم وزوجته، بل الله منعكم وزوجه فهبط علي جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد! إن الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق عليا (عليه السلام) لما كان لفاطمة ابنتك (عليها السلام) كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه>). ([عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 203. بحار الأنوار: 43/ 92. الصحيح من السيرة: 5/ 272. اللمعة البيضاء: 256.]).

وكان هؤلاء غافلين عن مكانة الزهراء البتول (عليها السلام) عند الله، فإن الله سبحانه حفظ هذه الجوهرة الثمينة في ظل عزته وحراسته ولم يجعل أبناء الدنيا من ملوك ورعايا وأرباب الفقر والغنى أهلا لها. بل ادخرها لوصي نبيه (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام). ([أنظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1/ 64. بحار الأنوار: 41/ 43، 104، 111، 119، 120، 145، 214، دلائل الإمامة: 84، 90، 100، 143، عوالم العلوم: 11/ 141_ 142. ينابيع المودة: 2/ 62_72. 122_125، 209، 314، 399.]).

وقد روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) إنه قال: (< بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أم سلمة إذ هبط عليه ملك له عشرون رأسا في كل رأس ألف لسان يسبح الله ويقدسه بلغه لا تشبه الأخرى، فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا صرصائيل (محمود) بعثني الله إليك ويقول لك: ((زوج النور بالنور)). فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ((من ممن))؟ قال: ((فاطمة من علي)). فلذا زوج النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) بشهادة جبرئيل وميكائيل وصرصائيل (عليهم السلام)، وكان هذا الزواج في الأرض>).

وحينها نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى مابين كتفي صرصائيل مكتوب: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب (عليهما السلام) مقيم الحجة)). فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (< يا صرصائيل، منذ كم هذا مكتوب بين كتفيك؟ قال: من قبل أن يخلق الله الدنيا بإثني عشر ألف سنة>). ([بحار الأنوار: 43/ 111، مائة منقبة: 35، مناقب: 3/ 398، كشف الغمة: 1/ 352، المحتضر: 133. المناقب للخوارزمي: 341.]). 

مراسم العرس

عندما زفت فاطمة (عليها السلام) ليلة زفافها إلى بيت علي (عليه السلام) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمامها وجبرئيل (عليه السلام) عن يمينها وميكائيل (عليه السلام) عن يسارها وسبعون ألف من الملائكة خلفها يسبحون الله ويقدسونه حتى طلع الفجر. ([مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 402، الإقبال: 3/ 92، بحار الأنوار: 43/ 92، 115، 124، لروضة الواعظين: 147، كشف الغمة: 1/ 353، ذخائر العقبى: 32، تاريخ بغداد: 5/ 211، ينابيع المودة: 2/ 129، جزء الحميري: 28، المناقب للخوارزمي: 342.]).

وكان جبرئيل (عليه السلام) آخذا بزمام ناقتها وإسرافيل (عليه السلام) آخذا بركابها وميكائيل (عليه السلام) آخذا بمؤخرتها (عليها السلام) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرتب ثيابها وسبعون ألفا من الملائكة يكبرون مع بقية الملائكة وإن كان بحسب الظاهر سلمان (رحمه الله) هو الذي أخذ بزمام الناقة وحمزة وعقيل (عليهما السلام) من أهل البيت، يمشون خلفها وبني هاشمشاهرين سيوفهم معها ونساء النبي (صلى الله عليه وآله) قدامها.

ودعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المسجد، ووضع يد الزهراء في يد الإمام (عليه السلام)، وقال (صلى الله عليه وآله): (< بارك الله في ابنة رسول الله! وقال (صلى الله عليه وآله) له (عليه السلام): هذه وديعتي. ودعا لهما ولبنيهما، وقال (صلى الله عليه وآله): مرحبا ببحرين يلتقيان، ونجمين يقترنان>).

ثم جاء النبي (صلى الله عليه وآله) وأخذ الباب وقال: (< طهركما الله وطهر نسلكما أنا سلم لمن سالمكما وحرب لمن حاربكما أستودعكما الله وأستخلفه عليكما>). ([بحار الأنوار: 43/ 114_ 117. الخصائص الفاطمية (عليها السلام): 2/ 343. المناقب للخوارزمي: 352.]).

وبعدها ذهب الجميع إلى منازلهم، ولم يبق عند فاطمة (عليها السلام) غير أسماء التي بقيت أداء لوصية وصتها بها خديجة الكبرى (عليها السلام)، فقد بكت (عليها السلام) عند وفاتها وأخذت على أسماء عهدا أن لا تترك فاطمة (عليها السلام) لوحدها ليلة زفافها. وقد عملت أسماء بعدها ولما ذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تذكر خديجة (عليها السلام) وبكى ثم دعا لأسماء. ([كشف الغمة: 1/ 366، كشف اليقين: 198، بحار الأنوار: 43/ 116، 138، الخصائص الفاطمية (عليها السلام) 2/ 345_ 346.]). 

مهر الصديقة الزهراء (عليها السلام)

اختلفت الروايات الواردة في مقدار ونوع مهر الزهراء (عليها السلام) كما يلي:

_ برد حبرة وإهاب شاة على عرار. ([مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 400، بحار الأنوار: 43/ 113.]).

_ جرد برد ودرع وفراش كان من إهاب كبش. ([الكافي: 5/ 377، بحار الأنوار: 43/ 144.]).

_ جرد برد حبرة ودرع حطمية وكان فراشها إهاب كبش يلقيانه ويفرشانه وينامان عليه. ([الكافي: 5/ 378، بحار الأنوار: 43/ 144.]).

- أربعمائة وثمانون درهما. ([مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 399، روضة الواعظين: 146، بحار الأنوار: 43/ 112، 113، ذخائر العقبى: 29، كنز العمال: 13/ 684.]).

_ أربعمائة مثقال فضة. ([بحار الأنوار: 43/ 112، 119، روضة الواعظين: 147، مكارم الأخلاق: 207. كشف الغمة: 1/ 349.]).

_ خسمائة درهم، وقال العلامة المجلسي وابن شهر آشوب (رحمهما الله): إنه أصح الأقوال. ([بحار الأنوار: 43/ 112، و50/ 76. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 3/ 399. الإرشاد: 2/ 284، دلائل الإمامة: 18. الهداية الكبرى: 115، مدينة المعاجز: 7/ 351_ 352، روضة الواعظين: 148.]).

_ درع حطمية تساوي ثلاثين درهم. ([الكافي: 5/ 377. قرب الإسناد: 173. تهذيب الأحكام: 7/ 364، بحار الأنوار: 43/ 105، وسائل الشيعة: 21/ 250.]).

_ درع حطمية وجلد كبش أو جدي. ([مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 399، بحار الأنوار: 43/ 113.]).

_ درع حطمية. ([الكافي: 5/ 377، بحار الأنوار: 43/ 108، مسند أحمد: 1/ 80.]).

_ بعير. ([إفحام الأعداء والخصوم: 47، أعلام النساء: 3/ 1119، كنز العمال: 16/ 305.]).

_ خمس الأرض، قال النبي (صلى الله عليه وآله): (< كان مهرها في السماء خمس الأرض فمن مشى عليها مغضبا لها ولولدها مشى عليها حراما إلى أن تقوم الساعة>). ([بحار الأنوار: 43/ 113، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 400، الغدير: 2/ 316، روضة الواعظين: 147، إحقاق الحق: 7/ 279.]).

_ خمس الأرض وأربعمائة وثمانين درهما، الآجل خمس الأرض والعاجل أربعمائة وثمانين درهما. ([مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 400، بحار الأنوار: 43/ 113، اللمعة البيضاء: 257.]).

وعن الباقر (عليه السلام) قال: (< وجعلت نحلتها من علي (عليه السلام) خمس الدنيا وثلث الجنة وجعلت لها في الأرض أربعة أنهار: الفرات ونيل مصر ونهروان ونهر بلخ، وقال الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله): فزوجها أنت يا محمد بخمسمائة درهم تكون سنة لأمتك>). ([بحار الأنوار: 43/ 113، دلائل الإمامة: 92، مستدرك الوسائل: 15/ 65، الهداية الكبرى: 378.]).

وفي رواية أخرى: (< إن الله تعالى أمهر فاطمة ربع الدنيا فربعها لها وهمرها الجنة والنار فتدخل أوليائها الجنة وأعدائها النار>). ([أمالي الطوسي: 668، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 400، بحار الأنوار: 43/ 105، 133، مجمع النورين: 34، 40.]).

وفي رواية أخرى: (< أن مهرها (عليها السلام) نصف الدنيا>). ([دلائل الإمامة: 92، نوادر المعجزات: 90، مدينة المعاجز: 2/ 336، عيون المعجزات: 49.]). 

وليمة العرس

كانت أثاث المنزل ووليمة عرس الزهراء (عليها السلام) بأن قال النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): (< بع درعك. فباعها أمير المؤمنين (عليه السلام) وجاء بمبلغها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقدارا منه لأم سلمة لتشتري طعاما لوليمة العرس. وفي بعض الروايات أن نصف الطعام كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله)ونصفه الآخر من أمير المؤمنين (عليه السلام) >). 

جهاز الصديقة الزهراء (عليها السلام)

ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقدارا منه لعمار وبلال لشراء أثاث المنزل وهي قميص وخمار وقطيفة سوداء خيبرية أو عباءة سوداء وستر من صوف وحصير هجري ورحى ومخضب نحاس وسقاء من أدم وقعب للبن وشن للماء ومطهرة مزفتة وجرة خضراء وجلد شاة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (< ما كان ليلة أهدت لي فاطمة (عليها السلام) شيء ينام عليه إلا جلد كبش>). ([مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 2/ 112، بحار الأنوار: 40/ 35، 323، و43/ 88، الطبقات الكبرى: 8/ 22، تاريخ دمشق: 42/ 376، سنن المصطفى (صلى الله عليه وآله): 2/ 538، المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 156، كنز العمال: 13/ 179، 682، مسند أبي يعلى: 1/ 363.]).

وفي موضع آخر نقل عنه (عليه السلام) أنه قال: (< لقد تزوجت فاطمة (عليها السلام) وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار ومال ولها خادم غيرها>). ([ذخائر العقبى: 35، الطبقات الكبرى: 8/ 22، صفوة الصفوة: 2/ 10، كنز العمال: 13/ 682، تاريخ دمشق: 42/ 376.]).

ويقول (عليه السلام) في رواية أخرى: (< جاء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى بيتنا... وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولا خرجت منها جنوبنا وإذا لبسناها عرضا خرجت منها أقدامنا ورؤوسنا...>). ([ذخائر العقبى: 49، 106، فتح الباري: 11/ 102، السنن للنسائي: 5/ 373، كنز العمال: 15/ 449،]).

ونقل عن بعض أبناء العامة: لما أهديت فاطمة (عليها السلام) إلى علي (عليه السلام) لم تجد عنده إلا رملا مبسوطا ووسادة وجرة وكوزا.

وعن نقل آخر: إن أثاث المنزل كانت قميصا بسبعة دراهم، وخمارا بأربعة دراهم وقطيفة سوداء خيبرية، وسريرا مزملا بشريط، وفراشين من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها أذخر، وسترا من صوف وحصير هجري، ورحى لليد، ومخضبا من نحاس، وسقاء من أدم، وقعبا للبن، وشنا للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف. ([أمالي الطوسي: 41، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 401، بحار الأنوار: 43/ 94، اللمعة البيضاء: 259.]). 

المشاركون في العرس

جاء في بعض الروايات (< أن بعد شراء الأثاث انتظر أمير المؤمنين (عليه السلام): 29 أو 30 يوما إلى أن قال له جعفر وعقيل (عليهما السلام): أطلب من النبي (صلى الله عليه وآله) أن تأتي بزوجتك إلى البيت، وقال له (عليه السلام) بعض نساء النبي (صلى الله عليه وآله): إنا سنطلب من النبي (صلى الله عليه وآله) أن تأتي بزوجتك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((فما بال علي (عليه السلام) لا يطلب مني زوجته فقد كنا نتوقع منه ذلك)).

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: الحياء يمنعني يا رسول الله. ثم أذن النبي (صلى الله عليه وآله) أن تقام وليمة العرس وقال لأمير (عليه السلام): ((أدع من أحببت))، وقامت نسوة بضيافة النساء وقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمار وبلال وآخرون بضيافة الرجال في المسجد>).

واشترك الأصحاب بهداياهم في حفلة عرس هذين النورين الإلهيين وتناول من طعام الوليمة التي أعدت كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) 4000 شخص وأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) طعاما إلى أمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام) ولم ينقص منه شيء رغم أنهم تناولوا منه لثلاثة أيام.

وفي الليل أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أن يأتوا بهما إلى حجرة أم سلمة، تقول أم سلمة: عندما غربت الشمس قال النبي (صلى الله عليه وآله): ((أدعوا لي فاطمة (عليها السلام)))، فذهبت وأخذت بيد فاطمة (عليها السلام) وكانت ثيابها تخط الأرض وتتصبب عرقا حياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله)فأتيت بها إلى أبيها (صلى الله عليه وآله) وعندما وصلت، عثرت من شدة الحياء، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة)).

فلما وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتى رآها علي (عليه السلام) ثم أخذ بيدها ووضعها في يد علي (عليه السلام) وهكذا بدأت هذه الحياة الطيبة. [[بحار الأنوار: 95_ 96، 114، أمالي الطوسي: 42، اللمعة البيضاء: 269.]]. 

ثمرة هذا الزواج الإلهي

وكانت ثمرة هذا الزواج المبارك الإلهي خمسة أولاد هم الإمامان المعصومان سيدنا ومولانا الإمام المجتبى وسيد الشهداء أبا عبد الله الحسين (عليهما السلام) وبنتان هما عقيلتا بني هاشم وأم كلثوم (عليهما السلام) وقد ولدوا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) في فترة تسع سنوات وآخر أولادهما المحسن (عليه السلام) الذي استشهد بعد شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) ببضعة أيام بسبب ضرب المنافقين والظالمين للصديقة فاطمة (عليها السلام) وعصرها بين الحائط والباب. [[دلائل الإمامة: 104، 134، تاريخ الأئمة (عليهم السلام): 16.]].

وعاشت الزهراء (عليها السلام) تسع سنوات و75 أو 95 يوما في منزل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن استشهدت بعد شهادة المحسن (عليه السلام). 

الزواج في السماء

كانت الفترة بين الزواج في السماء والزواج في الأرض أربعين يوما، [[دلائل الإمامة 93، بحار الأنوار: 43/ 110.]] ففي الأول أو السادس من ذي الحجة، [[مصباح المتهجد: 613، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 398، بحار الأنوار: 43/ 110.]].

حيث كان طرف الإيجاب في العقد، الله تعالى وطرف القبول جبرئيل والذي قرأ الخطبة راحيل وشهودها حملة العرش و70 ألف من الملائكة وصاحب النثار رضوان خازن الجنان وكان نثارها الياقوت والمرجان، وصاحب الحجلة أسماء أو أم أيمن ووليد هذا النكاح الأئمة (عليهم السلام). [[مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 2/ 208، بحار الأنوار: 43/ 98، 99، 102، 107، 128، مجمع النورين: 43.]]. 

الأقوال الأخرى في يوم زواجها

الأقوال في تاريخ هذا الزواج المبارك هي: إن العقد في صفر والزواج في ذي الحجة، [[بحار الأنوار: 19/ 192، ذخائر العقبى: 27.]]. أو بعد الرجوع من البدر، [[بحار الأنوار: 43/9، مقاتل الطالبيين: 30.]]. وإن العقد بعد سنة من الهجرة والزواج بعد ذلك بنحو من سنة، [[الثغور الباسمة: 27، البدء والتاريخ: 5/ 20.]]. والعقد في شهر رمضان والزواج في ذي الحجة، [[بحار الأنوار: 43/ 136، كشف الغمة: 1/ 364، تفسير القرطبي: 14/ 241.]]. والعقد قبل البدر في رجب والزواج في ذي الحجة، [[نظم درر السمطين: 189.]]. والعقد في رجب والزواج بعد رجوع أمير المؤمنين (عليه السلام) من بدر، [[بحار الأنوار: 19/ 193، تاريخ دمشق: 3/ 157، الإصابة: 8/ 264،]]. والعقد في ربيع الأولوالزواج أيضا في ربيع الأول، [[بحار الأنوار: 19/ 193.]]. والعقد في أول ذي الحجة والزواج في السادس منه بعد البدر، [[مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 3/ 405، بحار الأنوار: 43/ 6.]]. والعقد في ليال بقين من صفر والزواج في ذي الحجة، [[بحار الأنوار: 19/ 192_ 193.]]. والعقد في محرم والزواج في ذي الحجة، [[شرح إحقاق الحق: 10/ 351، الشرف المؤبد: 55.]]. والعقد في أول ذي الحجة سنة 2 للهجرة، [[مصباح المتهجد: 613، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 3/ 398، 405، المصبح للكفعمي: 2/ 600.]]. أو 25 منه، [[بحار الأنوار: 35/ 261.]]. أو لثلاث بقين من صفر سنة 2 للهجرة، [[تاريخ دمشق: 3/ 128، و12/ 128.]]. أو 15 شهر رجب بعد خمسة أشهر من الهجرة، [[مصباح المتهجد: 742/ مصبح الكفعمي: 2/ 600.]].

والزواج بعد رجوعه (عليه السلام) من بدر وذلك لأيام خلت من شوال أو في يوم الثلاثاء لست خلون من ذي الحجة، [[أمالي الطوسي: 43، بحار الأنوار: 43/ 97، وسائل الشيعة: 20/ 240.]]. أو في 19 ذي الحجة، [[تقويم المحسنين: 14، وقائع الشهور: 239.]]. أو 21 محرم سنة 3 للهجرة، [[بحار الأنوار: 95/ 197.]]. أو في ليلتان بقين من صفر بعد البدر بأربعة أشهر، [[نظم درر السمطين: 189.]].

المصدر: qadatona.org
2024/06/08

هل ترك النبي (ص) مهمة جمع القرآن الكريم إلى أصحابه؟!
هذه النظرية تمثل رأي شريحة كبيرة من المسلمين وهم أهل السنة - أشاعرة وسلفية - ويتضح موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مستقبل دعوته في الأسطر التالية.

[اشترك]

موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن القرآن دستور الله ومعجزة نبيه الخالدة، فهل جمعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب خاص ليحفظه من الضياع؟

إن الناظر في كتب الحديث يرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوكل أمر القرآن إلى حفظ الصحابة وجمعهم له، فقد كان البعض يحفظ ما نزل منه، وكان آخرون يكتبون بعض سوره في الصحف، ولا تذكر المصادر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتخذ موقفا حاسما بشأن القرآن فقام بجمعه حسب ترتيب نزوله في كتاب خاص.

أجل، هناك قسم من العلماء يذهب إلى أن القرآن جمع على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم: الزرقاني، الزركشي، الباقلاني وغيرهم.

إلا أن هذا القول يصطدم بروايات جمع القرآن في عهد أبي بكر، فإذا كان القرآن مجموعا عند بعض الصحابة فلماذا يأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمعه؟

أخرج البخاري عن زيد بن ثابت، قال: " أرسل إلى أبو بكر، مقتل (١) أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر (رضي الله عنه): إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى: أن تأمر بجمع القرآن.

قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

قال عمر: هذا والله خير.

فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر...

قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني به من جمع القرآن.

قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال: هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف (٢)، وصدور الرجال..، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره! لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حتى خاتمة براءة.. فكانت الصحف عند أبي بكر، حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (رضي الله عنه) " (3).

إن المتأمل في قول أبي بكر لعمر: " كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "، وقول زيد لهما: " كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله " يتبين له بوضوح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجمع القرآن وإنما جمعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الذي أقنعه عمر بذلك، وقد جمعه زيد من الصدور والسطور.

قال ابن جزي: " وكان القرآن على عهد رسول الله متفرقا في الصحف وفي صدور الرجال " (4).

موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السنة

إن الروايات متضاربة حول موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنته، وأشهر نص يطالعنا رواية النهي عن الكتابة:

أخرج مسلم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه " (5).

هذا نص عام في النهي ووردت روايات في الإذن بالكتابة للبعض كابن عمر (6) وأبي شاة (7).

وعلماء القوم مختلفون حول نسخ النهي في الحديث السابق، فمنهم من يقول بالنسخ، ومنهم من لا يلتزم بذلك (8).

وبناءا على ما سبق فإن موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنته أنه تركها مفرقة في الصدور دون جمع إن لم نقل أنه نهى عن تدوينها، وهو موقف بطبيعة الحال سلبي.

ومما سبق يظهر لنا تأكيد أهل السنة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القرآن مفرقا في الصدور والسطور ولم يجمعه في كتاب واحد، ونهى عن تدوين سنته أو تركها في صدور الرجال دون جمع أيضا.

أما عن الحوادث المستقبلية المستجدة التي لا حكم لها في الكتاب والسنة، فلا نجد أي نص - عندهم - يشير إلى كيفية التعامل معها.

مناقشة:

 

إن الناظر للوهلة الأولى في هذه النظرية يضع حولها مجموعة أسئلة وإشكالات، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوث للعالمين، والإسلام هو خاتم الأديان، وظهوره على باقي الأديان أمر حتمي لا مفر منه، قال تعالى: (ليظهره على الدين كله) (9)، والقرآن باق إلى يوم القيامة فهو أبدي ولكل الناس، فكيف يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزته الخالدة في صدور صحابته وفي العسب واللخاف؟

إن الصحابة راحلون عما قريب، وستأتي الأجيال تترى وتترى، فأين ستجد معجزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتؤمن به ولتعمل بقرآنه؟ هل يبحثون عنه في صدور الصحابة؟ فالصحابة أموات، ولا يمكن القول أنه كان في ذهن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم كل جيل بنقل القرآن عن الجيل الذي سبقه مشافهة، إذ لا دليل على هذا، وهو يؤدي إلى ضياع القرآن واندراس آياته، وقد وجدنا عبد الله بن مسعود ينكر المعوذتين من القرآن (10).

ولو افترضنا بقاء أمر القرآن كما هو عليه من عدم الجمع، لجاء التابعون وأنكروا بعض السور، تبعا لابن مسعود، وهذا الإنكار قد يحدث في كل جيل، وقد يثور خلاف بين العلماء حول سور القرآن، بعد فقدان الذوق الأدبي لدى الكثير منهم وعدم الإدراك الحقيقي لإعجاز القرآن البياني.

وهكذا سيكون مصير السنة النبوية التي تبين مجمل القرآن وتخصص عامه وتقيد مطلقه، بل إن أمر السنة في هذه النظرية أخطر من القرآن، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تصورهم لم يكتف بعدم كتابة السنة بل نهى - على رأي البعض منهم - عن تدوينها، وعلى هذا فإن تخطيط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المستقبلي هو أن تروى السنة مشافهة ولا تكتب، ولا يمكن تصور هذا، فإذا تصورناه في جيل التابعين وتابعي التابعين والجيل الذي بعدهم... فكيف نتصوره الآن؟

عمن نأخذ السنة؟ كم سيبلغ طول السند؟ هل سيتصل السند بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال هذه القرون الأربعة عشر أم لا؟ كيف سيتم الوثوق بهذا العدد الهائل من الرواة؟ وأي كتاب سيتكفل ببيان أحوالهم لنعرف صدقهم من كذبهم؟...

وقد تأتي بعدنا أجيال وأجيال وتتضاعف المسافة بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهنا ألا تزداد المشكلة تعقيدا على تعقيد؟! ومن المعلوم أن أنهار الوضع في الحديث النبوي قد فاضت في القرنين الأولين، ولقد وصف الدارقطني هذه الحالة الرهيبة بقوله: " إن الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود "!!

وقال حماد بن زيد: " وضعت الزنادقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة عشر ألف حديث ".

وحين أخذ ابن أبي العوجاء الزنديق ليضرب عنقه قال: " لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام " (11).

ومع ملاحظة هذا الوضع في القرون الأولى فكيف سيكون الوضع في القرون اللاحقة؟

إن عدم كتابة السنة يؤذن بضياعها وتحريفها مع مرور الزمن، يقول ابن الصلاح: " ثم إنه زال ذلك الخلاف - أي هل تكتب السنة أم لا - وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة " (12).

أجل هذه هي النتيجة، وهي توحي بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أخطأ - والعياذ بالله - بتركه كتابة السنة، وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أدرك العلماء والأمراء خطورة هذا النهي فخالفوه وأباحوا كتابتها.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله في المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: " أنظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " (13).

عجبا، فعمر بن الخطاب يخاف من ضياع القرآن، فيأمر أبا بكر بجمعه، ويخاف عمر بن عبد العزيز من ضياع السنة فيأمر بكتابتها، فهل كان العمران أشد حرصا على الإسلام من نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ مستقبل الإسلام لصحابته وقد كذب عليه في حياته وتنبأ بأنه ستكثر عليه الكذابة، فقال: " من تعمد على كذبا فليتبوأ  

مقعده من النار " (14).

فكيف لا يضع الضمانات - بتدوين سنته - لقطع الطريق على هؤلاء الكذبة؟

يقول أبو الحسن الندوي السلفي: " ثم إن الحديث زاخر بالحياة... ولم يزل باعثا على محاربة الفساد والبدع وحسبة المجتمع، ولم يزل يظهر بتأثيره في كل عصر وبلد من رفع راية الاصلاح والتجديد، وحارب البدع والخرافات والعادات الجاهلية، ودعا إلى الدين الخالص والإسلام الصحيح، لذلك كله كان الحديث من حاجات هذه الأمة الأساسية، وكان لا بد من تقييده وتسجيله ونشره " (15).

إذا كان الحديث من حاجات هذه الأمة الأساسية، وكان لا بد من تقييده وتسجيله ونشره، فلماذا لم يقم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتقييده وتسجيله؟!

ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: " ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها " (16).

فهل يمكن أن يصدق العقل السوي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهتم بانقطاع الشسع ويترك سنته دون تقييد وتسجيل؟!

كان حمورابي شخصا عاديا، ووضع مجموعة قوانين وقبل وفاته كانت مدونة حتى صارت مرجعا بعده لا خلاف في صحتها، وحمورابي ليس نبيا وليس مبعوثا لقومه ولا لجميع البشر، لكنه اتخذ التحوطات اللازمة لحفظ تلك القوانين، فهل كان حمورابي أكمل وأبعد نظرا من سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

وفي العصر الحاضر لا نجد دولة إلا ولها دستور مدون في كتاب، فهل هذه الدول أكثر حضارة وتنظيرا من دولة الإسلام؟

هذه بعض الإشكالات التي ترد على هذه النظرية.

وقد يرد علينا أصحابها بقولهم: لقد ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب والسنة دون جمع لأنه كان يعلم أنهما سيجمعان مستقبلا فتركهما للأمة.

وهذا ادعاء لا دليل عليه، فقد كان الناس يقرأون في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (اليوم أكملت لكم دينكم) (17)، فالدين كامل وجاهز كي ينتشر في أرجاء المعمورة، ومن مصاديق هذا الكمال كون الكتاب والسنة مجموعين حتى ينتشرا في البلاد المفتوحة، فالدين كامل قبل أمر عمر لأبي بكر بجمع القرآن، وقبل ولادة الزهري ومالك والبخاري.

وإضافة لهذا، فإن الصحابة - وكل البشر - مكلفون وليسوا مؤلفين، وليس لهم شأن بجمع الكتاب والسنة لأنهما من عند الله وهو الذي أنزلهما وهو الذي تكفل بحفظ كتابه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (18).

ومع هذا سنواصل السير مع أصحاب هذه النظرية ونفترض أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الكتاب والسنة دون جمع، لعلمه أن سيجمعان مستقبلا.

 

فهل هذا الافتراض كاف لإقامة الحجة على الناس؟ وكيف سيتم التعامل مع الكتاب والسنة؟ كيف سيعرف الناسخ والمنسوخ، المحكم والمتشابه، الخاص والعام،...؟!

ألا يحتاج القرآن إلى بيان صحيح وترجمة لمعانيه؟ فهل مثل هذا الرأي يتناسب مع كمال الدين وإتمام النعمة؟

إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند هؤلاء لم يضع برنامجا متكاملا لكيفية التعامل مع الكتاب والسنة، وهذا ما لا يمكن تصديقه، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك الإنسان العظيم ذو النظر الثاقب الذي يرفض أن يرى بعين نبوته المستقبل القاتم للأمة وتشتتها وتناحرها، وهو ذلك الحريص الرحيم الذي وصفه الله بأروع وصف: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (19).

فكيف نصدق أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين كيفية دخول الحمام وآدابه الأخرى ولم يشر إلى مفتاح التعامل مع الكتاب والسنة؟

إن عدم وجود برنامج مستقبلي يحفظ الكتاب والسنة نصا ودلالة مدعاة لاختلاف الأمة وتفرقها.

روي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: " قدمت مكة فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا؟ فقال: البيع باطل والشرط باطل.

فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل.

 

فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز.

فقلت في نفسي: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة!

فعدت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع وشرط، فالبيع باطل والشرط باطل.

فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز والشرط باطل.

قال: فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مسعد بن كداح بن محارب بن دثار عن جابر قال: بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيرا وشرط حملانه إلى المدينة البيع جائز والشرط جائز! " (20).

وبعد غض النظر عن أمر الكتاب والسنة وجمعهما يعرض لنا إشكال آخر وهو: هل أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحوادث المستجدة وكيفية استنباط أحكامها؟

ولربما سيجاب على ذلك بأن هناك القياس والاستحسان وغيرهما من مصادر التشريع، فالعلماء يرجعون إلى هذه المصادر لاستنباط أحكام المسائل المستحدثة

ويبقى إشكالنا في محله، فمن أين اكتسبت هذه المصادر الصفة الشرعية وصار يعتمد عليها كالكتاب والسنة؟ فهي لم ترد على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينزلها الله على نبيه ولم يقس (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يستحسن، بل كان كما قال الله (إن هو إلا وحي يوحى) (21)، ولم يكن (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى لرأيه واجتهاده دورا في التشريع، قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (22).

فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم بما يريه الله ولم يقل بما رأيته وبما قسته وبما استحسنته.

والملاحظ أن مصادر التشريع هذه محل خلاف بين العلماء، فتجد الحنفية قد أفرطوا في الاعتماد على القياس، بعكس الحنابلة الذين لم يعتمدوه إلا قليلا، أما أهل الظاهر فقد أنكروه مطلقا، وأنكر الشافعية والمالكية المصالح المرسلة، وأنكر الشافعي الاستحسان فقد ورد عنه: " من استحسن فقد شرع " (23).

ولنفترض وجود القياس والاستحسان... من ضمن مصادر التشريع، ولكن ألا تحتاج إلى بيان كامل لمعالمها وكيفية تطبيقها عمليا؟ وقد تقرر أصوليا: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ووقت الحاجة متحقق بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبين معالم هذه المصادر ولم يطبق بعض الموارد عمليا.

إن نسبة هذه الرؤية السلبية لمستقبل الإسلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت ثغرة نفذ منها بعض الكتاب وطعنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام.

قال إبراهيم فوزي: " كان المجتمع الاسلامي على توالي العصور خاليا من السلطة التشريعية اللازمة التي تشرع للناس على الدوام حاجاتهم الزمنية المستجدة " (24).

وقال محمود أبو رية: " ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد عني بكتابة الحديث، كما عني بكتابة القرآن، وعني الصحابة من بعده بكتابته، لجاءت أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها متواترة في لفظها ومعناها، وليس شئ منها اسمه صحيح، ولا شئ اسمه حسن، ولا شئ اسمه ضعيف، ولا غير ذلك من الأسماء التي اخترعوها، مما لم يكن معروفا زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته، وبذلك كان يرتفع الخلاف في حقيقته، وينحط عن كاهل العلماء أعباء البحث عن صحته، ووضع المؤلفات الكثيرة التي صنفت في علوم الحديث والبحث عن أحوال الرواة من حيث العدالة والضبط والجرح والتعديل وغير ذلك، وكان فقهاء الدين يسيرون على نهج واحد، لا اختلاف بينهم في أصله ولا تباين... إذ تكون أدلتهم كلها متواترة كالقرآن الكريم، فلا يأخذون بما سموه الظن الغالب، الذي فتح أبواب الخلاف وفرق صفوف الأمة وجعلها مذاهب وفرقا ومما لا يزال أمره بينهم إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم " (25).

 

الحجة الأخيرة

يذهب البعض إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أصحابه مرجعية للأجيال من بعده، بحيث يقومون بنقل القرآن والسنة لمن بعدهم، وتحيط هذا القول إشكالات كثيرة نشير لواحد منها (26):

أخرج البخاري عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " (27).

وأخرج مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب! أصحابي، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (28).

وفي رواية أخرى للبخاري يقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "... إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " (29).

هذه الأحاديث صريحة في دخول جماعات من الصحابة في النار، وقد فسرها المفسرون بالمنافقين والمرتدين، وهذا التفسير مخالف لمعطيات الأحاديث.

فعلة دخول الصحابة في النار هي الأحداث والارتداد بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمنافق لا يرتد لأنه لم يسلم أصلا وإنما تظاهر بالاسلام، وكذلك لا يذكر لنا التاريخ أي إحداث للمنافقين بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أي تحرك لهم (30)! والقول بأنهم مرتدون، يرد عليه بأن المرتدين لم يحدثوا في دين الله، وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " رجال منكم " " أعرفهم ويعرفونني " (31) دليل على أنهم ممن كانوا حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل مكة والمدينة، وقوله " أقواما " دليل على كثرتهم، وهناك رواية تنص على دخول الصحابة النار ولا يبقى منهم إلا القليل:

عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " (32).

قال ابن الأثير: " الهمل: ضوال الإبل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة " (33).

فبعد هذا كيف يمكن قبولهم مرجعية يحفظون لنا الكتاب والسنة وينقلونهما إلى الناس؟ والغريب أنهم نسبوا أمر اختيارهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنه يقول: " فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ".

ومما سبق يظهر لنا ضعف هذه النظرية التي تزعم بترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن مفرقا في الصحف والصدور وعدم جمعه للسنة والنهي عن كتابتها وإرجاع الناس إلى صحابته. وحاشا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الموقف السلبي.

============

الهوامش:

(1) أي: بعد مقتلهم.

(2) العسب: جمع عسيب وهو جريدة من النخل مستقيمة.

واللخاف: حجارة بيض عريضة رقاق، واحدتها لخفة، راجع لسان العرب ٩ / ١٩٧ و ١٢ / ٢٦١.

(3) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن ٦ / ٣١٤.

إن هذه الرواية وروايات أخرى تدعي أن القرآن قد كتب بشهادة شاهدين،

وهذه والله أكبر ضربة للقرآن، ومعنى ذلك أن القرآن أخبار آحاد.

(4) التسهيل ١٠ / ٦.

(5) صحيح مسلم كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

(6) راجع مستدرك الحاكم ١ / ١٠٥ - ١٠٦، مسند أحمد ٢ / ١٦٢.

(7) صحيح البخاري ١ / ٤٠ - ٤١.

(8) كالمحدث رشيد رضا حيث قال: لو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن

الكتابة والإذن بها تعارضا يصح أن يكون به أحدهما ناسخا للآخر، لكان لنا

أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين... راجع المنار

١٠ / ٧٦٦.

(9) الفتح: ٢٨.

(10) فتح الباري ٨ / ٦٠٤ وصحح ابن حجر ذلك.

(11) لسان الميزان ٤ / ٤٣١.

(12) مقدمة ابن الصلاح ٣٠٢.

(13) تدريب الراوي ١ / ٤٠.

(14) صحيح البخاري كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

(15) مع رجال الفكر والدعوة ٧٨.

(16) صحيح مسلم كتاب اللباس، باب استحباب لبس النعل في اليمنى أولا.

(17) المائدة: ٣.

(18) الحجر: ٩.

(19) التوبة: ١٢٨

(20) التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين للبطليوسي ١١٥ - ١١٧.

(21) النجم: ٤.

(22) النساء: ١٠٥.

(23) جميع كتب الأصول: مبحث الاستحسان.

(24) تدوين السنة ١٥.

(25) أضواء على السنة المحمدية ٢١٨.

(26) ومن أراد الفصيل فليرجع إلى كتابنا " وركبت السفينة " فصل: إشكالات على مرجعية الصحابة، ١٨٩ - ٢٣٦.

(27) " البخاري " كتاب الفتن ٩ / ٨٣، وكتاب الرقاق، باب في الحوض.

(28) " مسلم " كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا وصفاته.

(29) " البخاري " كتاب الرقاق، باب في الحوض.

(30) وهذا أمر ينبغي التأمل فيه مليا، فلماذا توقفت مؤامرات المنافقين؟ هل

كان أبو بكر وعمر أذكى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوقفاهم عند حدهم وكشفاهم أم

أن المنافقين حققوا أغراضهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسكتوا؟!!

(31) البخاري كتاب الرقاق، باب في الحوض.

(32) المصدر السابق.

(33) النهاية في غريب الحديث ٥ / ٢٧٤، وكذا في لسان العرب ١٥ / ١٣٥، وقريب منه في فتح الباري ١١ / ٣٩٢.

2024/06/04

لهذه الأسباب النبي (ص) طرد الحكم بن أبي العاص!
السؤال: لماذا طرد النبي (صلى الله عليه وآله) الحكم بن أبي العاص؟ وهل طرد معه ابنه؟ ولماذا؟

[اشترك] 

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر المؤرّخون عدّة أسباب موجبة لنفيه، نذكر منها:

الأول: أنّه كان جاراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجاهليّة، وكان أشدّ جيرانه أذىً له في الإسلام، وكان يمشي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطريقة هزليّة قاصداً الاستهزاء والسخرية من مشية النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1).

والثاني: أنّه كان يتجسّس على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عند نسائه، ويسترق السمع ويصغي إلى ما لا يجوز الاطلاع عليه، ثمّ يحدّث به المنافقين على طريق الاستهزاء (2).

وأمّا ابنه مروان: فقيل: لـمّا أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم من المدينة وطرده عنها فنزل الطائف فكان معه ابنه مروان. وقيل: أنه ولد في المنفى الطائف.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

 

الهوامش: ________________ 1- انظر أنساب الأشراف 5 : 27. 2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 149.
2024/05/09

قصص عن سجايا الإمام الصادق (ع)
بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الصادق (ع) نتشرَّفُ بالحديثِ عن شيءٍ مِن مكارم أخلاقه. وإنَّ من نافلة القول أن يتحدَّث أحدُنا عن مكارم أخلاق أهل البيت (ع) بعد أنْ كانوا القرآن الناطق، وبعد أنْ كان الإسلام -بمبادئه وقيمِه-، متمثِّلاً في شخصيَّاتهم، وقد اعتجنَ واختلط بدمائهم، وأصبحت سجاياهم وأقوالُهم ومواقفُهم قرآناً ناطقاً، وإسلاماً ماثلاً يمشي على الأرض؛ ذلك لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد إنتجبَهم، واصطفاهم، واختصَّهم بعنايتِه، وأدَّبهم، فكانوا هم الأدلَّاءَ عليه، وكانوا هم المُعرِّفين لعبادِه ما أراده منهم ولهم.

الإمام الصادقُ (ع) -وكما تعلمون- هو الذي يُنسب إليه مذهب التشيُّع؛ ذلك لأنَّه قد سنحت له الفرصة نظراً للظروف السياسيَّة التي عايشها، حيثُ كان عهده عهداً مُنفتحاً نسبيَّاً، إذ كانت الدولة الأمويَّة منشغلةً بالحروب، والاضطرابات التي انتقضت عليها في مختلف بقاع الحواضر الإسلامية، وكانوا من الضَعف بحيثُ لم يكونوا يقوون على ممانعةِ الإمام (ع) عن ممارسة دوره التبليغيِّ، ودوره الإرشاديّ، ودوره الرساليّ. لذلك فقد استثمر الإمام (عليه السلام) هذه الفرصة السانحة في العمل على بثِّ العلوم والمعارف الإسلاميَّة على نطاقٍ واسع واستقطبت دروسُه الكثير من روَّاد العلم من مُختلف الحواضر الإسلاميَّة حتى عدَّ علماءُ الرجال والدراية من تلامذتِه المحدِّثين من مُختلف المذاهب ما يربو على الأربعةِ آلاف تلميذاً.

ما نودُّ أن نُشير إليه في هذه الجلسه هو بعض سجايا الإمام الصادق (ع)، والغايةُ من ذلكهو السعيُ من أجلالتمثُّل بسيرته والإهتداء بهدْيهِ ومكارمِ أخلاقِه.

الإمام والحلم

نبدأُ الحديثَ بما يرتبطُ بحلم الإمام (ع) الذي كان يزنُ الجبال، بل كانت تنوء الجبال دون تحمُّلِه، والحلمُ هو سيُّد الأخلاق، فإذا ما اتَّسم أحدٌ بسجيَّة الحِلم فقد اتَّسم بالأخلاق جلِّها؛ لأنَّ ملَكة الحلم تستبطنُ الكثير من السجايا، فالحلمُ لا يكون إلَّا للرجل الرؤوف العطوف، والحلمُ لا يكون إلا لذي صدرٍ رحِب، ولا يكون إلَّا لمن يملكُ عقلاً راجحاً يترفَّع به عن صغائر الأمور ومحقَّراتِها.

نماذج من حلم الإمام (ع):

أولاً: حلمه (ع) داخل بيته:

ذكر المؤرِّخون والرواة الكثير من المواقف المعبِّرة عن سعةصدر الإمام وحلْمِه، ونُشير هناإلى بعض تلك المواقف التي نقلها الرواة فيما يرتبط بشؤون الإمام الخاصَّة داخل بيتِه:

قد ذكر المؤرخون كيفية تعامل الإمام مع غلمانه، والذين يعملون ويخدمون عنده، فقد كانت في منتهى العطف والرأفة، ورغم ما يجدُه من مشاكسة بعضِهم، أو إهمال بعضِهم، أو تقصيرهم عن القيام بالمهمَّات التي أُنيطت بهم، إلَّا أنَّه يُقابل ذلك بسعةِ صدرٍ، ورحابة قلب.

- يروِّح غلامه!

يذكر المؤرخون أنَّ الإمام (ع) بعث غلاماً له في حاجة، فذهب الغلام وأبطأ كثيراً، فخرج الإمام (ع) يبحثُ عن هذا الغلام، فوجده نائماً في ناحية، فما أزعجه وما أيقظه، بل وجد عليه آثار الإرهاق -نتيجة الحر- فأخذ يُروِّحه! وبعد أن اكتفى ذلك الغلام واستيقظ، تبتسم الإمام (ع) في وجهه، وقال له: يا غلام، لك الليل، ولنا النهار(1). دون أن يُوبِّخه ويُقرِّعه كما يفعل أربابُ العمل. فكان ذلك مثالاً ينبغي أن يَحتذي به كلُّ من كان تحت يده مستأجَرون يعملون عنده.

- إبنه والجارية

ثمَّة موقفٌ آخر يُعبِّر عن سعة صدر الإمام (ع) بأكثر مما يُعبِّر عنه الموقف الأوَّل: فقد رُوي انَّ الإمام (ع) كان قد نهى نساءه وجواريه أنْ يصعدن إلى السطح -سطح البيت-، ولعلَّ ذلك مبالغةٌ منه في الستر والحجاب، واتَّفق في إحدى المرَّات خروج الإمام (ع) من مجلسه إلى فناء داره فوجد جاريةً تصعد إلى السطح، حاملةً أحد أولاده، فلمَّا أنْ رأته فزعت، فسقط الغلام من يدها نتيجةَ شعورها بالهلع والخوف، وأدَّى سقوط الغلام من يدها إلى موته، فأخذ الإمام يُهدِّئ من رَوْع الجارية ثم عاد إلى مجلسِه وقد بدا على وجهه أثر الوجوم-، ثم أخبر أصحابه بما وقع، ثم قال : والله ما حزنت على موت الغلام؛ فذلك أجلُه قد حان فرحل إلى ربِّه، ولكنَّ الحزن الذي انتابني هو إنَّي كنتُ سبباً في دخول الرُّعب والخوف إلى قلب تلك المرأة الضعيفة!(2). فرغم أنَّ ابنه الصغير قد مات، وكان موته مسبَّباً عن تقصيرِ تلك الجارية، إلَّا أنَّه سلَّم لربِّه، وفوَّض أمره لخالقه -عزَّ اسمه وتقدس-. وما صدر منه تعنيفٌ لتلك الجارية بل شعر بالحزن الشديد حتى ظهر على محيَّاه لأنَّه ربَّما كان سبباً في دخول والفزع والخوف إلى قلب تلك الجارية!

نحن شيعته -شيعة أبي عبد الله الصادق-، وفي كلِّ يومٍ نملأ قلوب المؤمنين غيظاً، ونُدخل عليهم الوهن، والحزن والأذى؛ نتيجة تصرُّفاتنا معهم، ونتيجة ألفاظنا البذيئة التي نواجههم بها، أو نتيجة ما نُمارسه من حماقات أو سلوكياتٍ تُوجب إشمئزازهم، أو حزنهم!

- مَلَكة راسخة

ثمَّة موقفٌ آخر -يُشبه هذا الموقف-، وقد عالجه الإمام(ع) بذات الأسلوب، فالمواقف التي يتَّفق للإمام مصادفتها تختلف في طبيعتها، إلَّا أنَّ ردة الفعل التي يُبديها الإمام (ع) تظلُّ ذاتَ نسقٍ واحد، وذلك ما يُعبِّر عن أنَّ الحلم الذي ينطوي عليه قلبُ الإمام (ع) كان سجيَّةً وملكةً راسخة ولم يكن تصنُّعاً، أو تكلَّفاً؛ لأنَّ المُتكلِّف قد يتزيَّا بصفةٍ في ظرفٍ ما لكنَّه لا يقوى على تقمُّصها في تمام الظروف، وفي كلِّ الأحوال ذلك لأنَّها لم تكن سجيَّةً راسخة في جِبلَّته ولهذا تتغيَّر مواقفُه وردةُ فعله بتغيُّر الظروف والأحوال، لكنَّ ما نجدُه فيسلوك الإمام (ع) هو التجانس بين مواقفه تجاه مختلف العوارض التي يتَّفق له مصادفتها فرغم تفاوتِها في القسوة والشدَّة إلَّا أنَّ ردَّة الفعل التي يُبديها الإمام (ع) تبقى محتفظة بنسَقٍ واحد.

امرأةٌ من خدم الإمام -أو من جواريه، أو من نسائه، والتشكيك مني- كانت تشوي لحماً بواسطة السَّفُّود -السفود هو الحديدة التي يُوضع عليها اللحم لغرض شوائه-، هذه الجارية رفعت هذه السفافيد، وفي أثناء حملها لها -وكانت ثقيلة- سقطت بأكملها على رأس صبيٍّ للإمام -كان صغيراً يدرج على الأرض-، فمات من حينه. فما كان منه إلَّا أنَّه حاول أنْ يطمئنها، ويهدِّئ من روْعِها، ويُؤكد لها أنَّه لن تترتَّب على ذلك أيُّة عقوبةٍ منه عليها، ثم أخذ الصبيَّ ومضى به إلى المقبرة ودفنه.

ثانياً: من حلمه (ع) خارج بيته

ذكرنا شيئاً مما يتَّصل بأحواله الخاصَّة في بيته. وطبعاً، الخلق الرفيع في البيت عادةً ما يكون أقلَّ منه في خارج البيت، وعادةً ما يتخلَّى الإنسان عن كثير من أخلاقه في منزله، فقد يكون سيِّئ الخلق في البيت، وإنْ كان حسن الأخلاق في خارج المنزل، وذلك ما يُعبِّر عن أنَّ خُلقه لم يكن سجيَّة، وإنَّما كان حياءً من الناس. على أيِّ تقدير، الإمام (ع) لم يكن يختلف سلوكه وخلقه الرفيع من موطنٍ إلى موطن، ومن موقعٍ إلى موقع. 

- حلمه (ع) مع مَن يتهمه

في المدينة المنورة، وفي المسجد النبويّ الشريف، كان رجلٌ من الحجَّاج غريباً، صلَّى ثم نام في نفس الموقع الذي صلَّى فيه، ولمَّا استيقظ افتقد هميانه -الهميان هو: المحفظة التي يُحفظ فيها النقود-، فنظر في المسجد فلم يجد إلَّا رجلاً يُصلِّي -وهو الإمام الصادق (ع)-، هذا الحاجّ غريبٌ لا يعرف الإمام، فأمسك الإمام(ع) وقال: أنت الذي سرقَ الهميان. فقال له الإمام (ع) : كم كان في هميانك؟ قال: ألف درهم. فأخذه الإمام (ع) إلى البيت، ووزن له ألف درهم، وأعطاه إيَّاه. هذا الرجل ذهب إلى منزله فوجد الهميان هناك، فرجع إلى الإمام(ع) واعتذر منه، وقال: وجدتُ همياني في البيت، وكنتُ مشتبهاً. قال: "شيءٌ خرج من يدي لا يعود إليَّ"، خذها هبةً منِّي إليك(3). هذا الموقف يُعبِّر عن خلقٍ رفيعٍ لا يُجارَى وسعةِ صدرٍ منقطعة النظير،فقد كان بإمكان الإمام (ع) أن يستثمر وجاهته، وأنْ يُعرِّفه بنفسه، وعندئذٍ سوف تنتهي القضيّة، دون الحاجة إلى أن يرفع أمره إلى القضاء، خصوصاً وأنَّ هذا الرجل لم تكن له بيِّنة. إلَّا أنَّ الإمام (ع) لم يعامله بهذه الحِدِّية، بل أعطاه ما ادَّعى!

- درسٌ آخر: في التواضع

هذه القضية بالإضافة إلى دلالتها علىعظيم حلم الإمام تُعبِّر عنمدلولٍ آخر: وهو أنَّ الإمام (ع) -رغم وجاهته- لم يكن يصنع كما يفعل الآخرون من ذوي الثراء أو الجاه فهم يحرصون على الظهور في مظاهر الجلال والأبُّهة ليدلِّلوا على امتيازهم عن سائر الناس. فتلاحظون أنَّ الكثير من أصحاب الوجاهات لا يمشي أحدُهم إلا في موكبٍ؛ ليُوحي للآخرين عن تميُّزه وخصوصيَّته، ويتصرَّف على أنَّه شخصٌ ليس كمثلِه شيء، فليس له ما للناس، وعليه ما عليهم! أراد الإمام (ع) أنْ يُعلِّمنا من هذا الموقف أنَّه لا ينبغي لأحدٍ-مهما كان عليهمن موقعٍ ومقامٍ علميٍّ أو اجتماعيّ- أن يستثمر ذلك في سبيل أن تكون له امتيازات، وخصوصيَّات في المجتمع، فيُضيف بذلك على الناس عبئاً فوق ما هم عليه من أعباء. تلاحظون أنَّ بعضهم إذا أراد أنْ يعبرَ طريقاً فإنَّه يفرض على الآخرين عدم عبوره إلا بعد أنْ يقطع هو ذلك الطريق فيكون بذلك عبئاً على الناس يُضاف إلى عبء وجوده بينهم، فلأنَّه يرى لنفسه امتيازاً وخصوصيَّةً، لذلك يرى إنَّه لا ينبغي لأحدٍ أن يُزاحمه في طريقه.

هذا بعض ما يرتبط بسجيَّة الحلم التي كان عليهاالإمام (ع)، وقد قلنا إنَّ هذه السجيّة تكتنز الكثير من السجايا الحميدة، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون حليماً إلَّا أن يكون متوفِّراً على مجموعة من السَّجايا الرفيعة، فالحليم لا يكون إلَّا رؤوفاً، رحيماً عطوفاً صبوراُ ولا يكون كذلك إلَّا حينما يكون عقله راجحاً.

الإمام والعبادة

وأمَّا ما يتَّصل بعبادته، فالوقت يضيقُ عن استيعاب هذا المحور ولذا نكتفي بما ذكره أحدُ تلامذته، وهو مالك بن أنس - كان قد تتلمذ عند الإمام برهةً من الزمن، وهو إمامٌ لواحدٍ من المذاهب-، حيث كان يقول: كان جعفر بن محمد لا يخلو من ثلاثِ خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً. وكان من عُظماء العُبَّاد، وأكابر الزُّهاد الذين يخشون اللهَ عزوجل. يقول: وقد حججتُ معه سنةً، فلمَّا استوت به راحلتُه عند الإحرام، كان كلَّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد يخرُّ مِن على راحلته. ويقول: ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمد (ع)(4). هذا واحدٌ ممن رأى الإمام(ع) ولم يكن يُؤمن بإمامته وأنَّه ممَّن افترض الله طاعته على العباد، وقد عكس لنا واقع الإمام العباديّ، حيث أنَّه أفاد أنَّ الإمام (ع) لم يكن وقتُه يخلو من عبادة، فإمَّا أن يكون صائماً، أو قائماً، أو ذاكراً. وثمَّة أقوالٌ أخرى لآخرين -ممن شهدوا الإمام، وصحبوه-، قالوا: لا يخلو الإمام من ذكرٍ، أو تعليم. فإما أن يكون ذاكراً لله، أو مُعلِّماً لخلقه.

الإمام والصبر

وأما ما يرتبط بصبره (ع) فنشير إلى موقفٍ أو موقفين - حتى لا نطيل عليكم-. فقد روي انَّ الإمام (ع) كان في منزله، وكان معه بعض أصحابه، فدخل البيت ثم خرج وكان عليه آثار الحزن، وأخبرهم أنَّ ابناً له مريض وقد اشتدَّ به المرض، ثم بعد برهةٍ قام عنهم ودخل، ثم عاد مستبشراً فأخبرهم أنَّ الولد قد مات! استغربوا، فقال لهم: نحن أهل بيتٍ لا نجزع عند المصيبة، بل نرضى بقضاء الله وقدره. وإنَّما كان حزني عليه؛ لأنَّه كان في عُهدتي وكنتُ أنا الذي أرعاه، وقد جعله الله -عز وجل-وديعةً عندي وفي عنقي، فكنتُ وجلِاً من أجله، فحينما اختار الله أمانته سلَّمت(5).

ثم انَّه و بمنتهى الهدوءٍ والاطمئنان، حمل الغلام إلى موقع دفنه، وجهَّزه ثم دفنه، مسلِّماً لله -عزَّ اسمه وتقدَّس-.

الإمام والتكسُّب

ونتحدث عن أمرين ونختم الحديث:

الأمر الأول: يرتبط بكيفية تكسُّب الإمام (ع). فقد كان المعروف عن الإمام (ع) انَّ له بعض الضيعات، وكان في حالاتٍ يُباشر عمليَّة الحراثة بنفسه (6) -رغم تقدم سنِّه، ورغم وجاهته، وعظيم شأنه-، وفي إحدى المرَّات قال لأحد التجار: إن وُلدي قد كثروا، فلو أخذتَ هذا المال وتاجرت به إليَّ - هذه المعاملة تسمَّى بالمضاربة، فيكون للتاجر نصيب من الربح، وللإمام نصيب-. هذا الرجل خرج مع تجارٍ آخرين إلى مصر، وقبل الدخول إلى أرض مصر سألوا عن أحوال السوق، فقيل لهم: إنَّ الناس في أمسِّ الحاجة لمثل هذه الأطعمة وهذه البضائع التي تحملونها، فتعاهد التجار فيما بينهم أن لا يبيعوا شيئاً بدينار إلَّا ومعه دينار ربحاً، فدخلوا سوق مصر فباعوا ما قيمته دينار بدينارين. وكان الإمام (ع) قد أعطى هذا الرجل ألفاً، فرجع إليه بألفين، وقال: هذه ألفٌ هي أموالك، وهذه ألفٌ هي ربح أموالك. فقال له الإمام: تربحون على الناس بالضعف؟ قال له: نحن ذهبنا إلى مصر وكانوا في حاجة ماسَّة إلى هذه الأطعمة والبضائع، وهم قد اشتروها منا بمحض إرادتهم. فقال الإمام (ع): أمَّا الألف فهي أموالي، وأمَّا الألف الأخرى فلا أريدها، وقال له: دخلتم على قومٍ مسلمين، فربحتم عليهم هذا الربح الفاحش! هذا ليس من أخلاقنا. ثم أفاد كلمة بليغة -قال (ع): مجالدة السيوف، أهون من طلب الحلال-(7). هذه كلمة معبِّرة، عن أنَّ الإنسان يجب أن يتحرَّى الحلال، والحلال ليس هيِّناً ولا سهلاً، فمَن أراد أن يأكل الحلال فإنَّ الحلال يتطلب مؤنةً وعناءً مضنياً. فلا ينبغي للمؤمن أن يتساهل في شأن رزقه، فيخبط خبطَ عشواء، يأكل ما يجد وما لا يجد، دون أن يتحرَّى الأمر؛ ليتثبَّت من حليَّةِ ما يتعاطاه أو حرمته وانَّه من موارد الشُّبهة أو من موارد الحلال البيِّن.

مسك الختام .. من كرامات الإمام:

وأما الأمر الثاني: وبه نختم حديثنا عن الإمام (ع) فهو ذكر بعض كراماته، - فإنَّ كراماته التي نقلها الرواة كثيرة، ومعبِّرة عن موقعه السامي عند الله -عز وجل-، فمِّما أفاده الرواة أنَّه كان مُجاب الدَّعوة، وكانت دعوته كحدِّ السيف.

فمن ذلك ما رُويَ أنَّ رجلاً يُسمى الحكم بن العباس الكلبي، هذا الرجل كان سيِّئاً، وكان يتفاخر بقتل زيد الشهيد -عمّ الإمام الصادق (ع)-، وقد بلغت به الوقاحة أنَّه كان يقول:

صلبنا لكم زيداً على جذعِ نخلةٍ ** ولم نر مهديَّاً على الجذع يُصلبُ

وقِستُم بعثمانٍ عليــَّاً سفاهةً ** وعثمانُ أزكى من عليٍّ وأطيبُ

بلغ هذاالشعر مسامع الإمام (ع)، فاغتاظ منه فرفع يده قائلاً: اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابك. فما كان إلّا أن بعثه بنو أمية في مهمة إلى الكوفة، فوثب عليه أسدٌ أو كلب في الطريق فقتله، فبلغ الإمام (ع) خبره فخرّ ساجداً ثم قال: "الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا"(8).

ومما روي في ذلك أيضاً أنَّ والي المدينة داود بن علي العباسي قتل المعلَّى بن خنيس أحد موالي الإمام (ع)، ثم إنَّه بعث عدداً من رجاله إلى الإمام (ع) يأمره بالمثول بين يديه وأمرهم بقتله إنْ أبى ذلك، فحين جاءوه وألحُّو عليه بالمثول بين يدي داود العباسي، رفع الإمام (ع) يديه إلى السماء فدعا عليه وسمعه الحاضرون يقول في منتهى دعائه: الساعة الساعة، وبعدها قال لرجال داود اذهبوا إلى صاحبكم فإنَّه قد هلك الساعة، فكان كما أفاد الإمام (ع)(9).

الهوامش:

1- (نص الرواية): وعنه، عن ابن عيسى، عن عبد الله الحجال، عن حفص بن أبي عايشة، قال: بعث أبو عبد الله (عليه السلام) غلاما له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره لما أبطأه، فوجده نائما فجلس عند رأسه يروحه حتى انتبه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان والله ما ذلك لك تنام الليل والنهار، لك الليل، ولنا منك النهار. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي- ج 15 ص 266.

2- (نص الرواية): كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فما تغير لوني لموت الصبي وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب، وكان عليه السلام قال لها: أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك - مرتين. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 ص24.

3- (نص الرواية): ابن شهرآشوب في المناقب: عن كتاب الفنون، قال: نام رجل من الحاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى جعفر الصادق (عليه السلام)، مصليا ولم، يعرفه فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني، قال: "ما كان فيه ؟" قال: ألف دينار، قال: فحمله إلى داره، ووزن له ألف دينار، وعاد إلى منزله ووجد هميانه، فرجع إلى جعفر (عليه السلام) معتذرا بالمال فأبى قبوله، وقال (عليه السلام): "شئ خرج من يدي لا يعود إلي" (إلى أن) قال: فسأل(3) الرجل، فقيل: هذا جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: لا جرم هذا فعال مثله. مستدرك الوسائل - الميرزا النوري- ج 7 ص 206-207.

4- (النص): مالك بن أنس الفقيه قال: حججت مع الصادق سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخر من راحلته فقلت في ذلك، فقال: وكيف أجسر أن أقول لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن يقول لا لبيك ولا سعديك. وقال مالك بن أنس: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلا وعلما وورعا وكان لا يخلو من احدى ثلاث خصال: اما صائما، واما قائما، واما ذاكرا، وكان من عظماء البلاد وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم، وكان كثير الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله، اخضر مرة واصفر أخرى. مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب- ج 3 ص 395-396. وفي موضع آخر: وقال مالك بن انس: ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادة وورعا. مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب- ج 3 ص 372.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 ص25.

6- (النص): رأيت أبا عبد الله (ع) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك، فقال لي: إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة. الكافي -الشيخ الكليني- ج5 ص76.

7- (نص الرواية): محمد بن يعقوب، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن أحمد بن النضر، عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد الله عليه السلام مولى يقال له: مصادف فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا، قال: فتجهز بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة، فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شئ، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار دينارا، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان كل واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح، فقال: إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع ؟ فحدثه كيف صنعوا، وكيف تحالفوا، فقال: سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلا بربح الدينار دينارا، ثم أخذ أحد الكيسين، وقال: هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثم قال: يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي- ج 17 ص 421-422.

8- (نص الرواية): بلغ الصادق عليه السلام قول الحكيم بن العباس الكلبي: صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة ولم أر مهديا على الجذع يصلب وقستم بعثمان عليا سفاهة وعثمان خير من علي وأطيب فرفع الصادق عليه السلام يديه إلى السماء وهما يرعشان، فقال: اللهم إن كان عبدك كاذبا فسلط عليه كلبك، فبعثه بنو أمية إلى الكوفة فبينما هو يدور في سككها إذا افترسه الأسد، واتصل خبره بجعفر. فخر لله ساجدا ثم قال: الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا. بحار الأنوار - العلامة المجلسي- ج 46 ص 192.

9- بصائر الدرجات محمد بن الحسن الصفار- ص 238.

2024/05/04

في ذكرى استشهاده.. من وصايا الإمام الصادق (ع) الذهبية
اعتنى الإمام جعفر الصادق  عناية كبيرة بتربية شيعته وأصحابه وأتباعه وطلابه على أخلاق الإسلام وآدابه، ويجد المتتبع لتراثه كثيراً من الوصايا والتوجيهات والإرشادات الأخلاقية والتربوية والسلوكية بهدف بناء شخصيات ذات قمم علمية وأخلاقية عالية، بحيث يعكسوا في سلوكهم وتعاملهم مع الناس أخلاق أهل البيت  وسيرتهم المباركة.

ومن أهم هذه الوصايا الذهبية ما رواه الشيخان الصدوق والطوسي بإسنادهما: عن سليمان بن مهران، عن الإمام الصّادق  قال: «مَعاشِرَ الشِّيعَةِ، كونوا لنا زَيناً ولا تكونوا علَينا شَيناً، قولوا لِلناسِ حُسناً، واحفَظُوا ألسِنَتَكُم، وكُفُّوها عنِ الفُضولِ وقَبيحِ القَولِ»[1] .

في هذا النص الوارد عن الإمام الصادق  نقرأ خمس وصايا مهمة، وهي:

1- كونوا لنا زَيناً ولا تكونوا علَينا شَيناً:

في هذا المقطع من وصيته المهمة يشير الإمام الصادق  إلى أهمية أن تنعكس أخلاقيات الإسلام وسيرة أهل البيت الأخلاقية على سلوكيات الإنسان المؤمن وتعامله مع الناس؛ بحيث يكون زيناً في تدينه، وزيناً في أخلاقه، وزيناً في تعامله، وزيناً في كلامه، وزيناً في أدبه؛ وبهذا يكون ملتزماً بوصية الإمام الصادق ، ويكون مقتدياً بإمامه، وسائراً على نهجه، وينظر إليه الآخرون باحترام وتقدير مما يعطي صورة حسنة عن أخلاقيات وآداب أتباع مدرسة أهل البيت الأطهار .

وقد أشار الإمام الصادق  إلى أهمية التعامل الحسن مع الآخرين، والالتزام بأخلاق المعاشرة وآدابها، فهذا أمر مطلوب وراجح في نفسه، كما أنه ينعكس إيجابياً على نظرة الآخرين لأتباع مدرسة أهل البيت الأطهار، مما قد يدفعهم للتأثر الإيجابي بمنهجهم وسيرتهم، فيسيرون على نهجهم، ويقتدون بهم، فقد روى الكليني بسند صحيح: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى‏، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : «اقْرَأْ عَلى‏ مَنْ تَرى‏ أَنَّهُ يُطِيعُنِي‏ مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ لِلَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ؛ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلى‏ مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا، بَرّاً أَوْ فَاجِراً، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَانَ‏ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ، وَالْمِخْيَطِ؛ صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ‏، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ‏، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ؛ فَإِنَ‏ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي‏ ذلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَ قِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ وَإِذَا كَانَ عَلى‏ غَيْرِ ذلِكَ، دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَ قِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ فَوَ اللَّهِ‏، لَحَدَّثَنِي أَبِي عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ زَيْنَهَا: آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ‏ وَصَايَاهُمْ‏ وَوَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ‏ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ‏، فَتَقُولُ‏: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ إِنَّهُ لَآدَانَا لِلْأَمَانَةِ، وَأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ»[2] .

وفي هذه الوصية تأكيد على أهمية الالتزام بآداب وأخلاق الإسلام في العشرة والمعاشرة، والتعامل الحسن مع أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى؛ والالتزام معهم بأخلاقيات الإسلام كأداء الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الخلق، وأداء الحقوق، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز،  وحسن الجوار وغير ذلك من الوصايا والتعليمات القيمة التي أوصى بها الإمام الصادق  حتى يكون الشيعة زيناً لمدرسة أهل البيت الأطهار.

ولا شيء كحسن الخلق يجلب المحبة والمودة بين الناس، فقد روي عن الإمام الصادق  أنه قال: «طَلَبتُ صُحبَةَ النّاسِ فَوَجَدتُها في حُسنِ الخُلُقِ»[3] ، وعنه  قال: «حُسنُ الخُلُقِ مَجلَبَةٌ لِلمَوَدَّةِ»[4] .

وهذا يؤكد على أهمية التعامل الأخلاقي مع الناس؛ لأنه أساس البناء القيمي والتربوي والأخلاقي لأي مجتمع ناهض، وأن الاختلاف في قضايا ثقافية أو فكرية أو مذهبية أو دينية ليس مبرراً للتعامل الشائن مع الآخرين.

إن التعامل الحسن مع الناس، والالتزام بأخلاق المعاشرة وآدابها، أمر مطلوب وراجح في نفسه عقلاً وشرعاً، وأما التعامل الشائن والسيء فأمر قبيح في نفسه ومنهي عنه عقلاً وشرعاً.

ولذا نهى الإمام الصادق  عن التعامل الشائن مع الناس، وأوصى شيعته وأصحابه بأن يكونوا زيناً لهم وليس شيناً عليهم، وقد روي عنه  أنه قال: «إيّاكُم أن تَعمَلوا عَمَلًا يُعَيِّرونا بِهِ، فَإِنَّ وَلَدَ السَّوءِ يُعَيَّرُ والِدُهُ بِعَمَلِهِ، كونوا لِمَنِ انقَطَعتُم إلَيهِ زَيناً ولا تَكونوا عَلَيهِ شَيناً»[5] .

ومعنى الشين في اللغة: هو العَيْبُ والقُبْحُ، فكل قول أو فعل معيب أو قبيح فهو شين لصاحبه، بخلاف الزين الذي هو كل شيء حسن أو جميل.

ومن مصاديق الشين هو عدم الورع عن محارم الله، التعامل السيئ مع الآخرين،  سوء الأخلاق، عدم أداء الأمانة، الكذب في القول والفعل، خلف الوعد، جار السوء، عدم أداء الحقوق لأصحابها، الغش والتدليس والاحتيال، السلوكيات الخاطئة في مناسبات أفراح أهل البيت كممارسة التفحيط، عدم التزام المرأة المؤمنة بالحجاب الشرعي ... وغيرها من مصاديق الشين، ومثل هذه السلوكيات الشاذة والأخلاق السيئة تنعكس سلباً على النظرة لأتباع مدرسة أهل البيت الأطهار، وهو ما يؤلم قلب الإمام .

وقد دعا الإمام  إلى تحبيب الناس إلى أهل البيت بحسن الأخلاق وجمال الأفعال، فقد روي عنه  أنه قال: «كونوا لَنا زَيناً ولا تَكونوا عَلَينا شَيناً، حِبِّبونا إلَى الناس ولا تُبَغِّضونا إلَيهِم، جُرّوا إلَينا كُلَّ مَوَدَّةٍ وَادفَعوا عَنّا كُلَّ قَبيحٍ، فَما قيلَ فينا مِن خَيرٍ فَنَحنُ أهلُهُ، وما قيلَ فينا مِن شَرٍّ فَوَاللَّهِ ما نَحنُ كَذلِكَ»[6] .

وأفضل وسيلة لتحبيب الناس إلى أهل البيت  وجذبهم إلى الاقتداء بهم هو التحلي بالأخلاق الفاضلة، وفعل الخير، والتعامل الحسن مع الآخرين، والإحسان إليهم؛ فالناس تتأثر بما تراه من أفعال أكثر مما تتأثر بالكلام، ولذا روي عنه  أنه قال: «كونوا دُعاةً لِلنّاسِ بِغَيرِ ألسِنَتِكُم، لِيَرَوا مِنكُمُ الوَرَعَ وَالاجتِهادَ وَالصَّلاةَ وَالخَيرَ، فَإِنَّ ذلِكَ داعِيَةٌ»[7] ، وعنه  ‏قال - لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ-: «أي مَفَضَّلُ، قُل لِشيعَتِنا: كونوا دُعاةً إلَينا بِالكَفِّ عَن‏ مَحارِمِ اللَّهِ وَاجتِنابِ مَعاصيهِ وَاتِّباعِ رِضوانِ اللَّهِ، فَإِنَّهُم إذا كانوا كَذلِكَ كانَ النّاسُ إلَينا مُسارِعينَ»[8] .

وفي كتاب دعائم الإسلام: رُوينا عَن أبي عَبدِ اللَّهِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ (صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيهِ) أنَّ نَفَراً أتَوهُ مِنَ الكوفَةِ مِن شيعَتِهِ ... فَلَمّا حَضَرَهُمُ الانصِرافُ ووَدَّعوهُ قالَ لَهُ بَعضُهُم: أوصِنا يَابنَ رَسولِ اللَّهِ، فَقالَ: «اُوصيكُم بِتَقوَى اللَّهِ، وَالعَمَلِ بِطاعَتِهِ، وَاجتِنابِ مَعاصيهِ، وأداءِ الأَمانَةِ لِمَنِ ائتَمَنَكُم، وحُسنِ الصَّحابَةِ لِمَن صَحِبتُموهُ، و أن تَكونوا لَنا دُعاةً صامِتينَ».

فَقالوا: يَا بنَ رَسولِ اللَّهِ، وكَيفَ نَدعوا إلَيكُم ونَحنُ صُموتٌ؟

قالَ: «تَعمَلونَ ما أمَرناكُم بِهِ مِنَ العَمَلِ بِطاعَةِ اللَّهِ، وتَتَناهَونَ عَمّا نَهَيناكُم عَنهُ مِنِ ارتِكابِ مَحارِمِ اللَّهِ، وتُعامِلونَ النّاسَ بِالصِّدقِ وَالعَدلِ، وتُؤَدّونَ الأَمانَةَ، وتَأمُرونَ بِالمَعروفِ، وتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ، ولا يَطَّلِعُ النّاسُ مِنكُم إلّا عَلى‏ خَيرٍ، فَإِذا رَأَوا ما أنتُم عَلَيهِ قالوا: هؤُلاءِ الفُلانِيَةُ، رَحِمَ اللَّهُ فُلاناً، ما كانَ أحسَنَ ما يُؤَدِّبُ أصحابَهُ، وعَلِموا فَضلَ ما كانَ عِندَنا، فَسارَعوا إلَيهِ.

أشهَدُ عَلى‏ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ رِضوانُ اللَّهِ عَلَيهِ ورَحمَتُهُ وبَرَكاتُهُ، لَقَد سَمِعتُهُ يَقولُ: كانَ أولِياؤُنا وشيعَتُنا فيما مَضى‏ خَيرُ مَن كانوا فيهِ، إن كانَ إمامُ مَسجِدٍ فِي الحَيِّ كانَ مِنهُم، وإن كانَ مُؤَذِّنٌ فِي القَبيلَةِ كانَ مِنهُم، وإن كان صاحِبُ وَديعَةٍ كانَ مِنهُم، وإن كانَ صاحِبُ أمانَةٍ كانَ مِنهُم، وإن كانَ عالِمٌ مِنَ النّاسِ يَقصُدونَهُ لِدينِهِم ومَصالِحِ اُمورِهِم كانَ مِنهُم، فَكونوا أنتُم كَذلِكَ، حَبِّبونا إلَى‏ النّاسِ، ولا تُبَغِّضونا إلَيهِم»[9] .

2- قولوا لِلناسِ حُسناً:

من وصايا الإمام الصادق  أيضاً: القول الحسن للناس، كما روي عنه: «قولوا لِلناسِ حُسناً»، في إشارة منه إلى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾[10] ، وقد روي عنه في بيان معناها، قوله : «اتَّقُوا اللَّهَ، ولا تَحمِلُوا النّاسَ على‏ أكتافِكُم، إنَّ اللَّهَ يَقولُ في كتابِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾[11] »[12] .

وقد روي عن الإمام الباقر  ‏ في تفسيره لنفس الآية المباركة: «قولوا للناسِ أحسَنَ ما تُحِبُّونَ أن يُقالَ فيكُم»[13] .

إن الكلام العذب، والقول الحسن، وفصاحة المنطق يؤثر إيجابياً في الناس، ويؤدي إلى كثرة الأصدقاء والأحبة، ولذا ورد عن الإمام علي  أنه قال: «عَوِّدْ لِسانَكَ لِينَ الكلامِ وبَذلَ السَّلامِ، يَكثُرْ مُحِبُّوكَ وَيقِلَّ مُبغِضُوكَ»[14] ، وعنه  قال: «مَن عَذُبَ لِسانُهُ كَثُرَ إخوانُهُ»[15] .

والكلام الحسن من عوامل النجاح والتوفيق لما روي عنه  أنه قال: «مَن حَسُنَ كلامُهُ كانَ النُّجحُ أمامَهُ»[16] .

ومن مصاديق القول الحسن: الكلام بلباقة، استخدام الألفاظ الجميلة، مراعاة مشاعر الآخرين واحترامهم، وأما من يطعن في من يختلف معهم، ويلقي القول على عواهنه بلا ضوابط وبدون منطق، ويتلفظ  بألفاظ جارحة ومؤذية؛ فضرره جسيم، وخطره عظيم.

وقد اعتبر الإمام الصادق  أن عذوبة الكلام دليل على نضج العقل، لما وروي عنه  أنه قال: «مَن عَذُبَ لِسانُهُ زكا عَقلُهُ»[17] .

كما أن الفصاحة في الكلام من علامات الكمال، لقوله : «ثلاثُ خِصالٍ مَن رُزِقَها كانَ كامِلًا: العَقلُ، والجَمالُ، والفَصاحةُ»[18] ، لأن الكلام الفصيح يعبر عن عقل رشيد، و له تأثير جاذب للقلوب، ولذا قيل: إن من البيان لسحرا.

3- واحفَظُوا ألسِنَتَكُم:

الوصية الثالثة من وصايا الإمام الصادق : حفظ اللسان عن الكلام بالباطل، والكلام البذيء، وكلام اللغو واللهو، وكلام الفُحش والفاحش.

ومن مصاديق حفظ اللسان عدم الرد على الجهّال والسفلة، وعدم النزول إلى مستواهم الهابط، فيترفع المرء عنهم بعدم الجواب على لغوهم وبهتانهم، لما روي عن الإمام الصّادق   في تفسير قولهِ تعالى‏: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[19]  قال: «هُو أن يَتَقَوّلَ الرّجُلُ علَيكَ بالباطِلِ، أو يأتِيَكَ بما لَيسَ فيكَ، فتُعرِضَ عَنهُ للَّهِ»[20] .

وقد يأتي حفظ اللسان بمعنى الصمت في مقابل الكلام، لأن فيه السلامة والنجاة، لما روي عن رسول اللَّهِ  أنه قال: «سَلامَةُ الإنسانِ في حِفظِ اللِّسانِ»[21] ، وروي عن الإمام الصّادق  أنه قال: «نَجاةُ المؤمنِ في حِفظِ لِسانِهِ»[22] .

وأما من يكثر من الكلام والثرثرة، ولا يحفظ لسانه فإنه قد يوقع نفسه في مشاكل عويصة، فربّ كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة، وقد روي عن أمير المؤمنين  أنه قال: «كَم مِن إنسانٍ أهلَكَهُ لِسانٌ!»[23] ، وعنه  قال: «رُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَت نِعمَةً، فاخزُنْ لِسانَكَ كَما تَخزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ»[24] .

وقد يتكلم المرء بكلام ثم يندم على كلامه، لأنه يكتشف أنه لم يكن موفقاً فيه، فيصبح في وثاقه وأسيراً له، فقد ورد عن الإمام عليّ : «الكلامُ في وَثاقِكَ ما لم تَتَكلَّمْ بهِ، فإذا تَكَلَّمتَ بهِ صِرتَ في وَثاقِهِ، فَاخزُنْ لِسانَكَ كما تَخزُنُ ذَهَبَكَ ووَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَت نِعمَةً وجَلَبَت نِقمَةً»[25] ، وعنه  قال: «احفَظْ لسانَكَ؛ فإنّ الكَلِمَةَ أسيرَةٌ في وَثاقِ الرجُلِ، فإن أطلَقَها صارَ أسيراً في وَثاقِها»[26] .

ومن الخزي أن يتجاهر الإنسان بالمعصية فيفضح نفسه بكلامه من باب التفاخر بارتكابه المعاصي، لما روي عن الإمام الصّادق  أنه قال: «إذا أرادَ اللَّهُ بعَبدٍ خِزياً أجرى‏ فَضيحَتَهُ على‏ لِسانِهِ»[27] .

وللكلام آفات، وللصمت حسنات، فإذا كان المرء صامتاً يكتب محسناً، وأما إذا تكلم يكتب محسناً إذا أحسن كلامه، ويكتب مسيئاً إذا أساء كلامه، ولذا روي عن الإمام الصّادق  أنه قال: «لا يَزالُ العَبدُ المؤمنُ يُكتَبُ مُحسِناً ما دامَ ساكِتاً، فإذا تَكَلَّمَ كُتِبَ مُحسِناً أو مُسِيئاً»[28] .

وفي الصمت السلامة، لما روي عن الإمام علي  أنه قال: «في الصَّمتِ السَّلامَةُ مِن النَّدامَةِ، وتَلافيكَ ما فَرَطَ مِن صَمتِكَ أيسَرُ مِن إدراكِ فائدةِ ما فاتَ مِن مَنطِقِكَ، وحِفظُ ما في الوِعاءِ بِشَدِّ الوِكاءِ»[29] .

وإذا كان الكلام فيه راحة للروح، لأن طبيعة الإنسان يحب أن يتكلم، فإن السكوت فيه راحة للعقل، لما روي عن الإمام الصّادق : «النُّطقُ راحَةٌ للرُّوحِ، والسُّكوتُ راحَةٌ للعَقلِ»[30] .

4- وكُفُّوها عنِ الفُضولِ:

من آفات اللسان الفضول، وهو الكلام الزائد الذي لا فائدة فيه، والكلام فيما لا يعنيه، وقد أوصى الإمام الصادق  بالكف عن كلام الفضول، وترك الكلام فيما لا يعنيه، وقد ورد عنه  أنه قال: «مَن عَلِمَ مَوضِعَ كلامِهِ مِن عَمَلِهِ قَلَّ كلامُهُ فيما لا يَعنيهِ»[31] .

وقد ورد في روايات كثيرة ذم الكلام فيما لا يعنيه أو إظهار كل ما يعلمه، فقد روي عن الإمام الصادق  أنه قال: «اسمَعُوا مِنّي كلاماً هُو خَيرٌ لَكُم مِن الدُّهمِ المُوقَفَةِ: لا يَتكلَّمْ أحدُكُم بما لا يَعنيهِ، وَليَدَعْ كثيراً مِن الكلامِ فيما يَعنيه حتّى‏ يَجِدَ له مَوضِعاً، فَرُبَّ مُتَكلِّمٍ في غيرِ مَوضِعِهِ جَنى‏ على‏ نفسِهِ بكلامِهِ»[32] . وأكدّ أمير المؤمنين  أيضاً على ذلك بقوله: «لا تَتَكلَّمْ بكُلِّ ما تَعلَمُ، فَكَفى‏ بذلكَ جَهلًا»[33] . وعنه  قال: «مِن عَقلِ الرجُلِ أن لا يَتَكلَّمَ بجَميعِ ما أحاطَ بهِ عِلمُهُ»[34] .

وقد أوضح الإمام الصادق  أن العالم لا يتكلم إلا بما فيه فائدة علمية أو عملية للناس، ولا يتكلم بفضول الكلام، لما روي عنه  أنه قال: «العالِمُ لا يَتَكلَّمُ بالفُضولِ»[35] .

ومن كلام الفضول كثرة الإطراء والمدح، ومن الطريف ما رواه الإمام الصادق  ، عن آبائه ، قال: جاءَ شاعِرٌ إلَى النَّبِيِّ  فَسَأَلَهُ وأطراهُ، فَقالَ لِبَعضِ أصحابِهِ: «قُم مَعَهُ فَاقطَع لِسانَهُ».

فَخَرَجَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أقطَعُ لِسانَهُ؟!

قالَ: «إنَّما أمَرتُكَ أن تَقطَعَ لِسانَهُ بِالعَطاءِ»[36] .

فالرجل فهم أنه يقطع لسان الشاعر على وجه الحقيقة، بينما كان قصد رسول الله  قطع لسانه على وجه المجاز، والمراد به إعطاؤه المال ليوقفه عن كلام الإطراء والفضول، فبالإحسان والعطاء يقطع اللسان سواء عن كلام الفضول أو عن الإساءة والفُحش في الكلام، ولذا روي عن الإمام علي أنه قال: «الإِحسانُ يَقطَعُ اللِّسانَ»[37] .

وعن عكرمة: إنَّ شاعِراً أتَى النَّبِيَّ ، فَقالَ النَّبِيُّ : «يا بِلالُ، اقطَع عَنّي لِسانَهُ». فَأَعطاهُ أربَعينَ دِرهَماً وحُلَّةً.

قالَ: قَطَعتَ وَاللَّهِ لِساني، قَطَعتَ وَاللَّهِ لِساني[38] .

5- وكُفُّوها عنِ ... قَبيحِ القَولِ:

ختم الإمام الصادق  وصاياه في هذا النص المتقدم في أول الكلام بالدعوة إلى الكف عن قبيح القول، وهو ما يعني تجنب الكلام الجارح والبذيء والفاحش، والتحلي بعفة اللسان، والتزين بطيب الكلام وأحسنه.

ومن مصاديق قبح القول: القول البذيء، القول الفاحش، القول الباطل، قول الزور، السب والشتم، وقد ورد التحذير عن ذلك في روايات متكاثرة، فقد روي عن رسول اللَّهِ  أنه قال: «إيّاكُم والفُحشَ؛ فإنّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ لا يُحِبُّ الفاحِشَ المُتَفَحِّشَ»[39] ، وعنه  قال: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الحَيِيَّ المُتَعَفِّفَ، ويُبغِضُ البَذِيَّ السائلَ المُلحِفَ»[40] .

وروى الإمام الصّادق  عن آبائه ، قالَ: قالَ رَسولُ اللَّه : « ألا أُخبِرُكُم بِأبعَدِكُم مِنّي شَبَهاً؟»

قالوا: بلى‏ يا رسولَ اللَّهِ.

قالَ: «الفاحِشُ المُتَفحِّشُ البَذي‏ءُ »[41]  .

وعن  الإمام الصادق  قال: «إنَّ الحَياءَ وَالعَفافَ وَالعِيَّ- عِيَّ اللِّسانِ لا عِيَّ القَلبِ- مِنَ الإِيمانِ، وَالفُحشَ وَالبَذاءَ وَالسَّلاطَةَ مِنَ النِّفاقِ»[42] .

وعنه  قال: «إذا قالَ المؤمنُ لأخيهِ: أُفٍّ! خَرَجَ مِن وَلايَتِهِ، وإذا قالَ: أنت عَدُوِّي كَفَرَ أحَدُهُما، ولا يَقبَلُ اللَّهُ مِن مؤمنٍ عَمَلًا وهو يُضمِرُ علَى المؤمِنِ سُوءاً»[43] .

ومن مصاديق قبح القول: السب والشتم، وقد نهي عنه في الجملة؛ لأنه يؤدي إلى العداوات والخصومات والأحقاد بين الناس، لما روي عن رسول اللَّهِ  أنه قال: «لا تَسُبُّوا الناسَ فَتَكتَسِبُوا العَداوةَ بَينَهُم»[44] .

ومن خاف الناس لسانه لقبحه وبذاءته فهو يسير على الطريق الخطأ، لما روي عن الإمام الصادق : «مَن خافَ الناسُ لِسانَهُ فهُو في النارِ»[45] .

ومن علامات اتباع الشيطان عدم المبالاة بما يقول أو يقال فيه و عنه، لما روي عنه  أنه قال: «(إنّ) مِن علاماتِ شِركِ الشَّيطانِ الذي لا يُشَكُّ فيهِ أن يكونَ فَحّاشاً، لايُبالي ما قالَ ولا ماقيلَ فيهِ»[46] .

بهذه الوصايا الذهبية الخمس التي أوصى بها الإمام الصادق  في هذا الحديث الشريف أوضح الإمام  ما ينبغي للمؤمنين الالتزام به في تعاملهم مع الآخرين من أخلاق حسنة وأفعال جميلة، حتى يكونوا زيناً لأهل البيت  بحيث يحببوا الناس إليهم، كي يقتدوا بهم، ويسيروا على نهجهم، ويتأثروا بسيرتهم المباركة.

والحمد لله ربّ العالمين

الهوامش:

[1] الأمالي للصدوق: ص 484 ح 657، الأمالي للطوسي: ص 440 ح 987، بشارة المصطفى: ص 170، مشكاة الأنوار: ص 162 ح 417، روضة الوعظين: ص 513، بحار الأنوار: ج 65 ص 151 ح 6.

[2] الكافي: ج 2، ص 636، ح 5. الفقيه، ج 1، ص 383، ح 1128، تفسير العيّاشي، ج 1، ص 48، ح 65؛ صفات الشيعة، ص 27، ح 38؛ الاختصاص، ص 25؛ تحف العقول، ص 299؛ الوافي، ج 5، ص 524، ح 2498؛ الوسائل، ج 12، ص 5، ح 15496.

[3] مستدرك الوسائل: 12/ 174/ 13810.

[4] الكافي: 1/ 27/ 29 عن مفضّل بن عمر، تحف العقول: 356، بحار الأنوار: 75/ 269/ 109.

[5] الكافي: ج 2 ص 219 ح 11 عن هشام الكنديّ، بحار الأنوار: ج 72 ص 431 ح 91.

[6] الحكايات: ص 93 ح 2، مستطرفات السرائر: ص 163 ح 3، بشارة المصطفى: ص 222 نحوه .

[7] الكافي: ج 2 ص 78 ح 14 و ص 105 ح 10، مشكاة الأنوار: ص 96 ح 215 كلّها عن ابن أبي يعفور وص 300 ح 926 كلّها نحوه، بحار الأنوار: ج 67 ص 303 ح

[8] دعائم الإسلام: ج 1 ص 58، شرح الأخبار: ج 3 ص 506 ح 1453.

[9] دعائم الإسلام: ج 1 ص 56، صفات الشيعة: ص 103 ح 39، مشكاة الأنوار: ص 255 ح 753 كلاهما عن عبد اللَّه بن زياد نحوه، بحار الأنوار: ج 71 ص 162 ح 25، الكافي: ج 2 ص 636 ح 5؛ مصنّفات الشيخ المفيد (الحكايات): ص 93 ح 2؛ أعلام الدين: ص 143.

[10] سورة البقرة: 83.

[11] سورة البقرة: 83.

[12] بحار الأنوار: ج 68، ص 313، ح 16. .

[13] الكافي: ج 2، ص 165، ح 10.

[14] غرر الحكم: 6231.

[15] غرر الحكم: 7761.

[16] غرر الحكم: 8495.

[17] أعلام الدين: 304.

[18] تحف العقول: 320.

[19] سورة المؤمنون: الآية 3.

[20] مجمع البيان: 7/ 157.

[21] بحار الأنوار: 68/ 286/ 42.

[22] بحار الأنوار: 68/ 283/ 36.

[23] غرر الحكم: 6929.

[24] بحار الأنوار: 68/ 287/ 43.

[25] نهج البلاغة: الحكمة 381.

[26] بحار الأنوار: 68/ 293/ 63.

[27] بحار الأنوار: 75/ 228/ 101.

[28] الكافي: 2/ 116/ 21.

[29] بحار الأنوار: 74/ 215/ 1.

[30] بحار الأنوار: 68/ 276/ 6.

[31] بحار الأنوار: 68/ 289/ 54.

[32] بحار الأنوار: 2/ 130/ 15.

[33] غرر الحكم: 10187.

[34] غرر الحكم: 9327.

[35] مشكاة الأنوار: 551/ 1850.

[36] دعائم الإسلام: 2/ 323/ 1219.

[37] مائة كلمة للجاحظ: 94/ 78، المناقب للخوارزمي: 376/ 395، الإعجاز والإيجاز: 38 كلّها عن الجاحظ.

[38] السنن الكبرى: 10/ 409/ 21130، كنز العمّال: 3/ 848/ 8927 نقلًا عن تاريخ ابن عساكر عن ابن عبّاس و في ذيله« قطع واللَّه لساني» مرّة واحدة.

[39] بحار الأنوار: 76/ 110/ 1.

[40] الأمالي للطوسي: 39/ 43.

[41] الكافي: 2/ 291/ 9.

[42] الزهد للحسين بن سعيد: ص 70 ح 21 عن الحسن الصيقل، بحار الأنوار: ج 76 ص 113 ح 14: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: ص 77 ح 87.

[43] بحار الأنوار: 72/ 146/ 16.

[44] الكافي: 2/ 360/ 3.

[45] الكافي: 2/ 327/ 3.

[46] الكافي: 2/ 323/ 1.

2024/05/04

ما هو الإسراء والمعراج؟ وما هي أهدافه؟
إننا نؤمن بالإسراء استناداً إلى قوله تعالى: ﴿ ... سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ... ﴾ 1. فمحط النظر في الآية هو بيان الإسراء فقط.

لكن الحقيقة هي: أن المراد بالإسراء هو السير بالليل سواء كان سيراً صعودياً أو أفقياً، فالآية ناظرة إلى المعراج كما أظهرته الروايات التي ذكرت أن المسجد الأقصى في السماء، وقد شرحنا ذلك بشيء من التفصيل في كتابنا المسجد الأقصى أين ؟!

وبذلك يكون المعراج قد ذكر في القرآن صراحة، وقد يقال: إنه قد ذكر صراحة أيضاً في آيات سورة النجم وهي قوله تعالى: ﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴾ 2، إن قلنا إن الضمير فيها يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، لا إلى ذي المرة، الذي هو جبرئيل.

مع ملاحظة: أن آية سورة بني إسرائيل تتحدث عن إسراء، وآيات سورة النجم تتحدث عن إسراء آخر بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) به سدرة المنتهى، حيث رأى هناك جبرئيل على صورته الحقيقية.

وقد يقال: إن رجوع الضمير إلى جبرئيل (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴾ 3 هو الظاهر، ويدل عليه رواية صحيحة السند، عالية الإسناد، عن الإمام الرضا (عليه السلام): أنه كان المراد بقوله: ﴿ ... مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ 4هو جبرئيل (عليه السلام) كما سنشير إليه.

والرواية تستشهد وتستدل بنص الآيات في السورة 5.

ويدل على ذلك أيضاً ويفسره قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ 6فراجع.

ويدل عليه: ما روي عن الإمام السجاد (عليه السلام) أنه قال في خطبته بالشام: (أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى..).

أضف إلى ذلك: أن كثرة الأخبار الواردة في المعراج، وحتى تواترها القطعي لا يبقي مجالاً للشك في حصول المعراج ؛ فنحن نؤمن به أيضاً استناداً إلى ذلك.

وأما القول بوجود تعارض بين آية سورة الإسراء، وبين الروايات الدالة على المعراج، على اعتبار: أن الآية تدل على أن انتهاء السير كان في المسجد الأقصى، ولم يكن بعده سير، فلا يصح لأن هناك رحلتين مختلفتين من حيث الكيفية والقصد.

وقد كان انتهاء الرحلة الأولى في المسجد الأقصى، الذي هو في السماء كما دلت عليه الروايات، ولم يتعلق غرض في الآية ببيان الرحلة الثانية أصلاً، ثم جاءت الروايات لتبين الإسراء الذي تحدثت عنه آيات سورة النجم، والذي رأى فيه (صلى الله عليه وآله) عند سدرة المنتهى جبرئيل على صورته الحقيقية.

توضيح

إن الروايات تشير إلى أن المشركين قد صعب عليهم الإيمان بالمعراج، فاختار (صلى الله عليه وآله) أسلوب البيان لبعض الأمور التي يعرفونها عن طريق الحس ليكون التصديق به أيسر وأقرب.

ورغم ذلك فإنه: قد صعب عليهم التصديق به، بل واستهزؤوا وشنعوا عليه ما شاء لهم بغيهم وحنقهم.

رغم أنه قد أخبرهم بما جرى للقافلة التي رآها في طريقه، وبأنها قد أضلت بعيراً، وكسرت فيها ناقة حمراء في الوقت الفلاني، وبان لهم صدقه في ذلك.

ورغم أنه (صلى الله عليه وآله) وصف لهم بيت المقدس وصفاً دقيقاً، يعلمون صحته وصدقه، مع علمهم بعدم رؤيته (صلى الله عليه وآله) له فيما مضى.

وأيضاً، إذا كان بعض ضعفاء المسلمين قد ارتدوا حين أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله) ببعض ذلك 7، الذي هو من جملة المعجزات القاطعة، والبراهين الساطعة.

نعم، إذا كان ذلك كله، فكيف تكون الحال إذا أخبرهم بما هو أكثر غرابة وبعداً عن أذهانهم، وهو رحلته إلى السماوات العلى، وما شاهد فيها من عجائب الصنع، وبديع الخلق؟!.

ولهذا، فإننا نرجح: أنه (صلى الله عليه وآله) قد تدرج في إخبارهم بذلك كله، بحسب ما تقتضيه المصلحة، ومتطلبات الدعوة إلى الله تعالى.

الداعية الحكيم

ولعل مما تقدم يظهر: أنه إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) إنما جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، فإن من الطبيعي أن يهتم في الحفاظ على الركيزة الإيمانية التي يحصل عليها، وأن لا يدخلها في أجواء ليس لها القدرة على استيعابها ولا على مواجهة أخطار الانحراف فيها.

ومن الواضح: أنه إذا أخبرهم بقضية المعراج، مع عدم قدرتهم على التحمل والتفاعل معها ولا على تصورها، فإنهم إذا ارتـدوا حينئذٍ فسيكونون معذورين، ولا سيما إذا كان التصديق بهذه القضية إنما يستند إلى المستوى الإيماني لديهم بالدرجة الأولى.

وأما إخبارهم بالأمور الحسية أو القريبة من الحس، فقد كان بالإمكان أن يؤدي الإخبار عنها نفس النتيجة المتوخاة، وهي الجهة الإعجازية ذات الطابع المعين مع إمكان الاستناد في مقام الإقناع بها إلى أدلة تقربها إلى الحس، وتجعل القبول بها أيسر وأسهل من تلك، ولا يعتمد فيها على المستوى الإيماني وحسب.

وإذاً ؛ فلا يبقى ثمة مبرر لارتداد هؤلاء، ولا لعناد أولئك.

ومن الواضح: أن كل هذا الكلام لا يمنع من كون سورة النجم ناظرة إلى المعراج، فإن الروايات تقول:

أنه (صلى الله عليه وآله) قد عرج به إلى السماوات أكثر من مرة، فأخبرهم (صلى الله عليه وآله) عن الإسراء في المرة الأولى، ثم بعد أن أصبحوا مؤهلين لتلقي هذه القضية، نزلت السورة وأخبرهم بالمعراج إلى السماوات.

لا تدركه الأبصار

ويرى البعض، استناداً إلى قوله تعالى: ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ ﴾ 8: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد رأى الله حين المعراج بعين رأسه، ورووا ذلك عن ابن عباس.

بل لقد حكى النقاش عن أحمد بن حنبل، أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه، رآه، حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد 9.

ونحن لا نريد أن نفيض في الحديث حول الرؤية له تعالى، فلقد أثبت علماؤنا الأبرار، بما لا مجال معه للشك استحالة رؤيته تعالى، سواء في الدنيا، أو في الآخرة.

وقد فندوا أدلة المجسمة المثبتين للرؤية في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط بشكل علمي وقاطع.. فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه بمراجعة دلائل الصدق، وغيره من الكتب المعدة لذلك 10.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن الرواية عن ابن عباس غير ثابتة، فقد روي عنه أيضاً خلافها 11.

وروي عن عائشة: أن مسروقاً قال لها: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد (صلى الله عليه وآله) ربه ؟

قالت: لقد قف شعري مما قلت..

إلى أن قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: لا تدركه الأبصار الخ.. 12.

وعند مسلم: أنها أضافت: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك، فأخبرها: أنه لم يره، وإنما رأى جبرئيل 13.

والروايات في أن المقصود بمن ﴿ ... رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴾ 3هو جبرئيل كثيرة جداً وكذلك الروايات التي تؤكد: على أنه (صلى الله عليه وآله) قد رآى الله بقلبه وفؤاده، لا بعينه وبصره، فإنها كثيرة أيضاً 14.

وليس بين هاتين الطائفتين أي تناف أو تعارض..

بل إن نفس الآيات ظاهرة ـ إن لم تكن صريحة ـ في أن المقصود هو جبرئيل، بيان ذلك باختصار: أن قوله تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴾ 15 يراد بشديد القوى هو جبرئيل (عليه السلام)، ثم وصف جبرئيل، الذي وصفه الله بالقوة في قوله: ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ 16 بكونه ذا مرة، (أي شدة وحصافة في العقل والرأي) 17، وقوله: ﴿ ... فَاسْتَوَىٰ ﴾ 18أي أن ذلك الشديد، ذا المرة، استقام أو استولى، وهو بالأفق الأعلى.

وقوله: ﴿ ثُمَّ دَنَا ... ﴾ 19، أي النبي (صلى الله عليه وآله)، فكان قاب قوسين أو أدنى من حجب النور، حيث رأى ملكوت السماوات، ثم تدلى (صلى الله عليه وآله) فنظر تحته إلى ملكوت الأرض، فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد (صلى الله عليه وآله) ما أوحى.

ورجوع الضمير إلى الله مع عدم سبق ذكره، لا ضير فيه لوضوحه، كما قال العلامة الطباطبائي، أو على أن يكون ضمائر فأوحى إلى عبده ما أوحى راجعة إلى الله تعالى.

ثم قال: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴾ 20.

والمرئي هو الآيات الكبرى، ومنها ما تقدم من الدنو، والتدلي، وكونه (صلى الله عليه وآله) بالأفق الأعلى، ورؤيته جبرئيل عند سدرة المنتهى، ثم تجاوزها (صلى الله عليه وآله) كما قلنا.

وليس في الآية ما يدل على أن الرؤية قد كانت لله تعالى.

ويدل على ما نقول قوله تعالى الآتي: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ 21.

ثم قال تعالى: ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴾ 22أي أتجادلونه في رؤيته جبرئيل على حقيقته العجيبة التي هي من آيات الله الكبرى، وهل هذا أمر نظري عقلي يصح الجدال والمراء فيه ؟

وهل بإمكانه أن يُكذِّب بصره ويقول: لا أراه ؟!

فإن الكفار كانوا ينكرون رؤيته الملك على حقيقته رغم أنهم ليس لديهم أي علم بهذا الأمر، كما لا سبيل لديهم إلى معرفته، ثم قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ ... ﴾ 3، ـ والضمير يرجع إلى ذلك الذي لا يزال يتحدث عنه ـ ﴿ ... نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴾ 3، أي في نزول آخر، والذي كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله) هو جبرئيل، فإنه رآه والتقى معه على صورته في نزلة ثانية عند سدرة المنتهى.

وربما تكون النزلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه بعد أن تجاوز سدرة المنتهى إلى حجب النور، ورأى العرش وملكوت السماوات فإنه تدلى لكي يرى ملكوت الأرض حتى كان قاب قوسين أو أدنى فرأى جبرئيل على صورته الحقيقية مرة أخرى عند سدرة المنتهى.

ويرى البعض: أنه لا بد أن تكون هذه الرؤية الثانية في الأرض، وإلا لوجب أن يقول: ولقد رآه نزلة أخرى، ثم عرج به إلى السماء، حتى انتهى إلى السدرة، فرآه عندها، ويبدو: أنه كان في الأرض ـ كما يراه بعض المحققين ـ شجرة سدر كان لقاء النبي (صلى الله عليه وآله) بجبرئيل عندها، وعند تلك السدرة توجد جنة المأوى، أي جنة وبستان يؤوى إليها، أو أن الجنة في الآخرة ستكون في تلك المنطقة.

وبعض المحققين يرى: أن المراد بالنزلة الدفعة، وأنه قد رأى جبرئيل بعد العروج عند سدرة المنتهى، وأن الجنة الحقيقية موجودة هناك.

ونقول:

إن هذا الكلام خلاف ظاهر التعبير بسدرة المنتهى، التي فسرت في الروايات بما ذكرناه..

وتحقيق مكان الجنة ليس هنا محله.

وهكذا يتضح: أن هذه الآيات ناظرة إلى رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) لجبرئيل على صورته الحقيقية مرتين في نزلتين، لجبرئيـل أو للنبي (صلى الله عليه وآله)، وجبرئيل في صورته الحقيقية هو من آيات الله الكبرى..

ولأجل ذلك تجده تارة يتحدث عنه في صورة المفرد فيقول: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴾ 3، وتارة يتحدث عنه في ضمن آيات ربه فيقول: ﴿ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ 4. أو أنه (صلى الله عليه وآله) قد رأى جبرئيل في نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، ثم رأى هناك بعض الآيات الكبرى الأخرى.

وهذا هو ما أكده الإمام الرضا (عليه السلام)، في رواية صحيحة السند عنه، جاء فيها: قال أبو قرة: إنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ؛ فقسم الكلام لموسى، ولمحمد الرؤية.

فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين، من الجن والإنس: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ... ﴾ 23،و ﴿ ... وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ 24، و ﴿ ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... ﴾ 25أليس محمد (صلى الله عليه وآله) ؟

قال: بلى.

قال:كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً، فيخبرهم: أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول:﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ... ﴾ 23، ﴿ ... وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ 24و ﴿ ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... ﴾ 25، ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت علماً، وهو على صورة البشر ؟! أما تستحون ؟!. ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.

قال أبو قرة: فإنه يقول: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴾ 3؟

فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى، حيث قال: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴾ 20، يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى، فقال: ﴿ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ 4؛ فآيات الله غير الله، وقد قال الله: ﴿ ... وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ 24، فإذا رأته الأبصار ؛ فقد أحاط به العلم، ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟!.

فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه: أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء 26.

وفي الرواية دلالة على حجية ظواهر الكتاب، وعلى حجية السياق القرآني أيضاً، صلوات الله وسلامه عليك يا أبا الحسن وعلى آبائك وأبنائك الطاهرين، فإنكم ما زلتم حصون الإسلام، والمدافعين عنه، والباذلين مهجكم في سبيله، فأنتم مصابيح الدجى، والعروة الوثقى، والحجة على أهل الدنيا.

الإسراء من المسجد

صريح القرآن: أن الإسراء كان من المسجد، وجاء في عدد من الروايات: أنه كان من بيت أم هاني 27 واحتمل السيد الطباطبائي أن يكون الإسراء حصل مرتين، إحداهما من بيت أم هاني 28.

ويحتمل أيضاً التجوز، وإرادة مكة من (المسجد الحرام)، وهو إطلاق متعارف، قال تعالى: ﴿ ... هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ... ﴾ 29 ويقال: هو يسكن في مشهد الرضا، مع أنه يسكن في البلد المحيطة به، وأطلق في الروايات مسجد الشجرة على ذي الحليفة، ومثل ذلك كثير، فإن من المتعارف أن يطلق على المكان الذي فيه شيء معروف اسم ذلك الشيء المعروف.

ويحتمل أيضاً أن يكون (صلى الله عليه وآله) خرج تلك الليلة إلى المسجد من بيت أم هاني، ثم أسري به من المسجد.

موسى، وفرض الصلوات الخمس

هذا، وقد جاء في بعض الروايات: أن الصلوات الخمس قد فرضت حين المعراج، وأنها فرضت أولاً خمسين صلاةً في اليوم، وحين عودة الرسول (صلى الله عليه وآله) التقى بموسى، فأشار عليه أن يرجع إلى الله، ويسأله التخفيف، لأن الأمة لا تطيق ذلك ـ كما لم تطقه بنو إسرائيل ـ فرجع، وطلب إلى الله التخفيف فخففها إلى أربعين، وعاد الرسول؛ فمر بموسى، فأشار عليه بطلب التخفيف، ففعل، فخففت إلى ثلاثين، ثم إلى عشرين، ثم إلى عشرة، ثم إلى خمسة، ثم استحيا الرسول (صلى الله عليه وآله) من المراجعة من جديد فاستقرت الصلوات على خمس 30.

وهذه الرواية وإن كانت قد وردت في بعض المصادر الشيعية أيضاً، إلا أننا لا نستطيع قبولها، وقال عنها السيد المرتضى (رحمه الله): (أما هذه الرواية فهي من طريق الآحاد، التي لا توجب علماً، وهي مع ذلك مضعفة) 31.

ونحن هنا نشير إلى الأسئلة التالية:

لماذا يفرض الله على الأمة هذا العدد أولاً، ثم يعود إلى تخفيفه بعد المراجعة، فإنه إن كانت المصلحة في الخمسين، فلا معنى للتخفيف، وإن كانت المصلحة في الخمس، فلماذا يفرض الخمسين، ثم الأربعين، ثم الثلاثين وهكذا ؟!

وفي بعض الروايات: أنه كان في كل مرة يحط عنه خمساً، حتى انتهى إلى خمس صلوات.

وقد أجاب بعض المحققين عن هذا بأن ما جرى هنا ما هو إلا نظير إضافة الرسول (صلى الله عليه وآله) الركعتين الأخيرتين في الرباعية من الصلاة اليومية ؛ ونظير التكليف بعدم الفرار من الزحف، مع أنه علم أن فيكم ضعفاً، ونظير الرفث إلى النساء ليلة الصيام، فقد نسخت حرمته بعد وقوع المخالفات منهم ؛ قال تعالى: ﴿ ... عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ... ﴾ 32.

ونقول:

إن ما ذكره ـ حفظه الله ـ لا يكفي لدفع ما ذكرناه، أما بالنسبة لتشريع الركعتين الأخيرتين في الرباعية من قِبَله (صلى الله عليه وآله) ؛ فإن الله سبحانه قد فوض له ذلك حينما يعلم (صلى الله عليه وآله) بتحقق مصلحته ومقتضيه في متن الواقع.

وأما بالنسبة لقوله تعالى: ﴿ ... وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ... ﴾ 33و ﴿ ... عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ... ﴾ 32فهو تحقق معلوم الله سبحانه في الخارج، أي أن الحكم السابق، وهو حرمة الفرار بملاحظة قلة العدد، وحرمة الرفث قد استمر وبقي إلى أن تجسد الضعف وحصل وحصلت الخيانة وتغير الموضوع، فنسخ الحكم الأول، وهو حرمة الرفث وحرمة الفرار، وليس المراد أن الله قد علم ذلك بعد جهله، والعياذ بالله.

أما السيد المرتضى، فقد أجاب (رحمه الله) عن التساؤل الذي طرحناه فيما سبق بنحو آخر، وهو: أن من الممكن أن تكون المصلحة أولاً تقتضي الخمسين، ثم تغيرت هذه المصلحة بسبب المراجعة، وأصبحت تقتضي الخمس 31.

ولكنه جواب منظور فيه ؛ فإن النبي إذا كان يعلم: أن الله تعالى لا يشرع إلا وفق المصلحة، فإنه لا يبقى مجال لمراجعته أصلاً ؛ لأنه كأنه حينئذٍ يطلب تشريعاً لا يوافق المصلحة.

ولو صحت المراجعة هنا، وأوجبت تبدل المصلحة صحت في كل مورد، وأوجبت ذلك أيضاً، فلماذا كانت هنا، ولم تكن في سائر الموارد ؟.

كما أن تعليل موسى للتخفيف بعدم طاقة الأمة، كأنه يدل على أنه يعتقد: أن هذا التشريع يخالف المصلحة، وهذا محال بالنسبة إلى الله تعالى، ولا يمكن صدوره لا من موسى (عليه السلام) ولا من نبينا (صلى الله عليه وآله).

قال صاحب المعالم: (المطالبة بصحة الرواية، مع أن فيها طعناً على الأنبياء بالإقدام على المراجعة في الأوامر المطلقة..) 34.

وسؤال آخر: كيف لم يعلم الله تعالى: أن الأمة لا تطيق ذلك، وعلم بذلك موسى؟.

وسؤال آخر، وهو: ما المراد بعدم الإطاقة؟

هل المراد بها عدم الإطاقة عقلاً؟

فيرد عليه: أنه لا يمكن القول بجواز التكليف بما لا يطاق.

أو المراد به ما كان في مستوى العسر والحرج، المنفي في الشرع الإسلامي، كما دلت عليه الروايات والآيات ولا سيما قوله تعالى: ﴿ ... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ... ﴾ 35و ﴿ ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... ﴾ 36وغير ذلك من الآيات.

ومما ذكرناه يتضح: أنه لا يمكن أن يكون تعالى قد كلف بني إسرائيل ما لا يطيقون.

وأما قوله تعالى: ﴿ ... رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ... ﴾ 37.

فهو لا يدل على ذلك لعطف قوله: ﴿ ... رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ... ﴾ 37عليه ؛ فيدل على أن المراد بالإصر هو ما يطاق، لا ما لا يطاق، ويمكن أن يكون المراد بالإصر: جزاء السيئات الثقيل والشاق، أو المبادرة بعذاب الاستيصال.

وأما طلبهم أن لا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به، فليس المراد أنه يحمّلهم ذلك في التكليف الابتدائي، لأن العقل لا يجيز ذلك، بل المراد ما لا طاقة لهم به، مما يتسبب عن المخالفة وهو العذاب الأليم، والعقاب العظيم.

وسؤال آخر هنا، وهو: هل نسي الله تعالى ـ والعياذ بالله من أمثال هذه التعابير والأوهام ـ تلك التجربة الفاشلة مع بني إسرائيل، حتى أراد أن يكررها مع أمة محمد من جديد؟!.

ولعل هذه التجربة كانت هي عذر إبراهيم الذي مر عليه محمد (صلى الله عليه وآله) ذهاباً وإياباً عشر مرات، أو عشرين 38 على اختلاف النقل.

ولكنه لم يسأله عن شيء، ولا أمره بشيء!!.

وإن كنا نستغرب عدم سؤاله عن سر هذه الجولات المتتالية ذهاباً وإياباً!!.

ولماذا لم يلتفت نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى ثقل هذا التشريع على أمته، والتفت إليه نبي الله موسى؟

ولماذا بقي يغفل عن ذلك خمس مرات، بل ستاً أو أكثر ولا يعرف: أن هذا ليس هو الحد المطلوب، حتى يضطر موسى لأن يرصد له الطريق باستمرار، ولولاه لوقعت الأمة في الحرج والعسر؟.

ولماذا لا ينزل الله العدد إلى الخمس مباشرة من دون أن يضطر الرسول إلى الصعود والنزول المتعب والمتواصل باستمرار؟!

استبعاد الإسراء والمعراج

وبعد، فلا بد لنا من الإشارة هنا: إلى أن استبعاد الإسراء والمعراج ؛ بدعوى عدم إمكان تصور أن تقطع تلك المسافات الشاسعة، التي تعد بآلاف الأميال في ليلة واحدة ذهاباً وإياباً ـ هذا الاستبعاد ـ في غير محله.

فقد حضر عرش بلقيس لدى سليمان من اليمن إلى بلاد الشام في أقل من لمح البصر، وكان عفريت من الجن قد تكفل بأن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه.

وأما بالنسبة لنا اليوم فقد أصبح التصديق بالإسراء والمعراج أكثر سهولة، والإقناع به أقرب منالاً، ولا سيما بعد أن تمكن هذا الإنسان العاجز المحدود من أن يصنع ما يمكنه من قطع 13 كيلومتراً في ثانية واحدة، ولربما يتضاعف ذلك عدة مرات في المستقبل، كما أنه قد اكتشف أن سرعة النور هي حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية 39، بل يعتقد بعض العلماء: أن الموجات غير المرئية للجاذبية تستطيع أن تقطع العالم بلحظة واحدة من دون حاجة إلى الزمان..

وبعد كل هذا فإنه إذا كان قطع المسافات البعيدة بهذه السرعة المذهلة ليس مستحيلاً على هذا الإنسان المحدود، الذي بقي الأعوام الطوال يفكر ويستعد، ويجمع الخبرات والإمكانات، فهل يستحيل على خالق الإنسان والكون، ومبدعه أن يسري بعبده الذي اصطفاه رسولاً للبشرية جمعاء، ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وإلى ملكوت السموات، ثم يعيده إلى مكانه الأول؟!.

من أهداف الإسراء والمعراج

إننا إذا أردنا معرفة الأهداف والحكم، والمعجزات، والتأثيرات العميقة للإسراء والمعراج، فلا بد لنا من دراسة كل نصوصه، وفقراته، ومراحله بدقة وعمق، بعد تحقيق الصحيح منها، وحيث إن ذلك غير متيسر بل هو متعذر علينا في ظروفنا الحاضرة، فإننا لا بد أن نكتفي بالإشارة إلى الأمور التالية:

أولاً: إن حادثة الإسراء والمعراج معجزة كبرى خالدة، ولسوف يبقى البشر إلى الأبد عاجزين عن مجاراتها، وإدراك أسرارها ولعل إعجازها هذا أصبح أكثر وضوحاً في هذا القرن الواحد والعشرين، بعد أن تعرف هذا الإنسان على بعض أسرار الكون وعجائبه، وما يعترض سبيل النفوذ إلى السماوات من عقبات ومصاعب.

وإعجازها هذا إنما يكون بعد التسليم بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله) عن طريق الخضوع لمعجزته الخالدة، وهي القرآن، أو اليقين بصدقه (صلى الله عليه وآله) عن أي طريق آخر، بحيث يكون ذلك موجباً لليقين بصدق إخباراته كلها ؛ فإذا أخبر (صلى الله عليه وآله) بهذه الحادثة، فإن إخباره مساوق لليقين بوقوعها، وهي حينئذٍ تكون معجزة خالدة تتحدى هذا الإنسان على مدى التاريخ.

ثانياً: يلاحظ: أن هذه القضية قد حصلت بعد البعثة بقليل، وقد بيّن الله سبحانه الهدف من هذه الجولة الكونية ؛ فقال في سورة الإسراء: ﴿ ... لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ... ﴾ 1.

وإذا كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو الأسوة والقدوة للإنسانية جمعاء، وإذا كانت مهمته هي حمل أعباء الرسالة إلى العالم بأسره، وإذا كان سوف يواجه من التحديات، ومن المصاعب والمشكلات ما هو بحجم هذه المهمة الكبرى، فإن من الطبيعي: أن يعده الله سبحانه إعداداً جيداً لذلك، وليكن المقصود من قصة الإسراء والمعراج هو أن يشاهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعض آثار عظمة الله تعالى، في عمليةٍ تربويةٍ رائعة، وتعميق وترسيخ للطاقة الإيمانية فيه، وليعده لمواجهة التحديات الكبرى التي تنتظره، وتحمل المشاق والمصاعب والأذايا التي لم يواجهها أحد قبله، ولا بعده، حتى لقد قال حسبما نقل (ما أوذي نبي مثلما أوذيت).

وعلى حسب نص السيوطي، والمناوي، وغيرهما: (ما أوذي أحد ما أوذيت) 40 ولا سيما إذا عرفنا: أن عمق إدراك هذا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ـ وهو عقل الكل، وإمام الكل ـ لأخطار الانحرافات في المجتمعات، وانعكاساتها العميقة على الأجيال اللاحقة كان من شأنه أن يعصر نفسه ألماً من أجلهم، ويزيد في تأثره وعذاب روحه حتى لقد خاطبه الله تعالى بقوله: ﴿ ... فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ... ﴾ 41.

وأيضاً، فإنه بالإسراء والمعراج يفتح قلبه وعقله ليكون أرحب من هذا الكون، ويمنحه الرؤية الواضحة، والوعي الأعمق في تعامله مع الأمور، ومعالجته للمشكلات، ولا سيما إذا كان لا بد أن يتحمل مسؤولية قيادة الأمة والعالم بأسره.

وكذلك ليصل هذا النبي الأمي إلى درجة الشهود والعيان بالنسبة إلى ما أوحي إليه، وسمع به عن عظمة ملكوت الله سبحانه، ولينتقل من مرحلة السماع إلى مرحلة الرؤية والشهود، ليزيد في المعرفة يقيناً، وفي الإيمان رسوخاً.

ثالثاً: لقد كان الإنسان ـ ولا سيما العربي آنئذٍ ـ يعيش في نطاق ضيق، وذهنية محدودة، ولا يستطيع أن يتصور أكثر من الأمور الحسية، أو القريبة من الحس، التي كانت تحيط به، أو يلتمس آثارها عن قرب، وذلك من قبيل الفرس، والسيف، والقمر، والنجوم، والماء والكلاء، ونحوها، ويشعر بالحب، والبغض والشجاعة وغير ذلك.

فكان ـ والحالة هذه ـ لا بد من فتح عيني هذا الإنسان على الكون الأرحب، الذي استخلفه الله فيه، ليطرح على نفسه الكثير من التساؤلات عنه، ويبعث الطموح فيه للتعرف عليه، واستكناه أسراره، وبعد ذلك إحياء الأمل وبث روح جديدة فيه، ليبذل المحاولة للخروج من هذا الجو الضيق الذي يرى نفسه فيه، ومن ذلك الواقع المزري، الذي يعاني منه.

وهذا بالطبع ينسحب على كل أمة، وكل جيل، وإلى الأبد.

رابعاً: والأهم من ذلك: أن يلمس هذا الإنسان عظمة الله سبحانه، ويدرك بديع صنعه، وعظيم قدرته، من أجل أن يثق بنفسه ودينه، ويطمئن إلى أنه بإيمانه بالله، إنما يكون قد التجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح، ولا يريد له إلا الخير، قادر على كل شيء، ومحيط بكل الموجودات.

خامساً: وأخيراً، إنه يريد أن يتحدى الأجيال الآتية، ويخبر عما سيؤول إليه البحث العلمي ـ من التغلب على المصاعب الكونية، وغزو الفضاء ـ فكان هذا الغزو بما له من طابع إعجازي خالد هو الأسبق والأكثر غرابة وإبداعاً ؛ وليطمئن المؤمنون، وليربط الله على قلوبهم، ويزيدهم إيماناً كما قلنا.

الأذان

ونحن نعتقد: أن الأذان قد شرع في مناسبة الإسراء والمعراج كما جاء في الخبر الصحيح، ولكنهم إنما يذكرون ذلك بعد الهجرة ؛ فنحن نرجئ الحديث عنه إلى هناك، إن شاء الله تعالى 42.

==============

الهوامش: 1. a. b. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 282. 2. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآيات: 6 - 11، الصفحة: 526. 3. a. b. c. d. e. f. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 13، الصفحة: 526. 4. a. b. c. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 18، الصفحة: 526. 5. راجع البرهان للبحراني ج4 ص248 وستأتي الرواية تحت عنوان: لا تدركه الأبصار. 6. القران الكريم: سورة التكوير (81)، الآية: 23، الصفحة: 586. 7. المصنف لعبد الرزاق ج5 ص328، وتفسير ابن كثير ج3 ص21، وأخرجه أبو نعيم، ومنتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج4 ص353 وحياة الصحابة ج3 ص73 عن بعض من تقدم، وتاريخ الخميس ج1 ص308 و315، والمواهب اللدنية ج2 ص40. 8. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآيات: 12 - 14، الصفحة: 526. 9. تاريخ الخميس ج1 ص314. 10. مثل: دلائل الصدق، وغيره من الكتب الباحثة في الشأن العقائدي. 11. راجع في الروايات الكثيرة عنه: الدر المنثور ج6 ص122 ـ 126. 12. المواهب اللدنية ج2 ص34 عن البخاري ومسلم، وتاريخ الخميس ج1 ص313، والدر المنثور ج6 ص124 عن عبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وابن مردويه. 13. المواهب اللدنية ج2 ص35 عن مسلم. 14. يكفي أن يرجع الطالب إلى الدر المنثور ج6 ص122 ـ 126 وتاريخ الخميس ج1 ص313 و314 والمواهب اللدنية ج2 ص36 و37 وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً. 15. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 5، الصفحة: 526. 16. القران الكريم: سورة التكوير (81)، الآية: 20، الصفحة: 586. 17. حتمل بعض المحققين: أن يكون وصف الله تعالى لجبرئيل بالشدة في مقابل التابع من الجن الذي كان ضعيفاً بحيث يستطيع الإنسان أن يتسلط عليه. 18. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 6، الصفحة: 526. 19. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 8، الصفحة: 526. 20. a. b. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 11، الصفحة: 526. 21. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 17 و 18، الصفحة: 526. 22. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 12، الصفحة: 526. 23. a. b. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 103، الصفحة: 141. 24. a. b. c. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 110، الصفحة: 319. 25. a. b. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 11، الصفحة: 484. 26. أصول الكافي (ط سنة 1388هـ. في إيران) ج1 ص74 و75، والبرهان للبحراني ج4 ص248. 27. السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص43. 28. تفسير الميزان ج13 ص31. 29. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 95، الصفحة: 123. 30. لقد وردت هذه الرواية في مختلف كتب الحديث والتاريخ عند غير الشيعة، ولذا فلا نرى حاجة لذكر مصادرها، فراجع على سبيل المثال: كشف الأستار عن مسند البزار ج1 ص45، ووردت أيضاً في كتب الإمامية رحمهم الله تعالى، وأعلى درجاتهم، فراجع: البحار ج18 ص330 و335 و348 و349 و350 و408 عن: أمالي الصدوق ص270 و271 و274 و275، وتوحيد الصدوق ص167 و168، وعلل الشرائع ص55 و56، والخصال ج1 ص129. 31. a. b. تنزيه الأنبياء ص121. 32. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 187، الصفحة: 29. 33. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 66، الصفحة: 185. 34. معالم الدين ص208 مبحث النسخ. 35. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 185، الصفحة: 28. 36. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 78، الصفحة: 341. 37. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 286، الصفحة: 49. 38. لأن إبراهيم حسب نص الرواية كان في السماء السابعة، وموسى كان في السادسة وكان موسى يُرجع النبي إلى ربه، كي يسأله التخفيف، فيرجع ثم يعود إليه فيرجعه من جديد. 39. راجع حول سرعة النور: موسوعة المعارف والعلوم ص10. 40. راجع: الجامع الصغير ج2 ص144 وكنوز الحقائق، هامش الجامع الصغير ج2 ص83. 41. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 8، الصفحة: 435. 42. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الثالث.
2024/03/28

الإمام الحسن (ع).. بعض مواقفه في الدفاع عن الإسلام
كان الإمام الحسن يقاتل مع أبيه أمير المؤمنين جنباً إلى جنب وفي الخط الأمامي من ساحة القتال في حرب الجمل، وكان يتسابق مع أصحاب علي ـ عليه السَّلام ـ الشجعان البواسل في ذلك، ويشن على قلب جيش الأعداء هجمات خطيرة وعنيفة (1).

و قبل بدء الحرب دخل الكوفة وبأمر من أبيه برفقة عمار بن ياسر وعدّة من أصحاب أمير المؤمنين ودعا أهلها للمشاركة في القتال (2).

دخلها في الوقت الذي كان أبو موسى الأشعري أحد عمّال عثمان على الكوفة، وقد أبقاه الإمام لأسباب في منصبه وهو يعارض حكومة أمير المؤمنين العادلة ويثبط المسلمين عن الاصطفاف في جيش علي لمحاربة الناكثين، غير انّه ورغم ذلك استطاع أن يعبّئ جيشاً تعدى التسعة آلاف مقاتل وبعث بهم إلى ساحة القتال (3).

وقد كان له دور فاعل في تعبئة القوات وإرسال الجيش إلى قتال معاوية في حرب صفين أيضاً، وكان يدعو أهل الكوفة إلى الجهاد بجانب أمير المؤمنين للقضاء على أعداء الإسلام وخونته (4).

وقد بلغ في استعداده للتضحية في سبيل الحقّ مبلغاً في حرب صفين جعل أمير المؤمنين يطلب من أصحابه أن يمنعوه هو وأخاه الحسين من مواصلة القتال لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ (5).

لم يتساهل الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ يوماً في بيان الحقّ وإظهاره والدفاع عن الإسلام، فقد كان ينتقد الأعمال غير الإسلامية التي كان يقوم بها معاوية، ويكشف الغطاء عن ماضيه المشين المخزي علناً وبلا مهابة. تشهد له بذلك مناظراته واحتجاجاته المثيرة والدامغة معه هو وأتباعه ومرتزقته، أمثال: عمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم(6).

وقد وصل به الأمر إلى أن ـ و ذلك بعد عقد الصلح الذي ازدادت به قوّة معاوية وثبت موقعه أكثر من السابق ـ يرتقي المنبر حينما دخل معاوية الكوفة، ويشرح دوافع صلحه ومناقب آل علي بن أبي طالب، ثمّ تطرق بعد ذلك إلى مثالب ومساوئ معاوية، وبحضور الجميع ووجّه إليه نقداً لاذعاً وبصراحة شديدة(7).

وبعد استشهاد أمير المؤمنين وصلح الحسن عبّأ الخوارج قواتهم جميعاً لقتال معاوية، وقد سمع هذا الأخير انّ حوثرة الأسدي ـ وهو من قادة الخوارج ـ قد تمرّد عليه وجنّد له جيشاً. وأرسل معاوية ـ لتثبيت موقعه وتعزيزه ومحاولة منه للتظاهر بأنّ الإمام مطيع لأوامره ـ إلى الحسن و هو في طريقه إلى المدينة رسالة يدعوه فيها إلى القضاء على تمرّد حوثرة، ثمّ يواصل مسيره، فأجاب الإمام: «واللّه لقد كففت عنك، لحقن دماء المسلمين، انّي تركتك لصلاح الأُمّة وما أحب ذاك يسعني، أفأُقاتل عنك قوماً أنت واللّه أولى بالقتال منهم(8).

تظهر في هذه الكلمات روح البسالة والشجاعة لا سيما تلك العبارة التي يحتقر فيها معاوية بكلّ عظمة حيث قال:(فَاِنِّى تَرَكتُك لِصَلاحِ الاُمِّه)(9).

الهوامش: (1) ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص21. (2) ابن واضح، تاريخ اليعقوبي، النجف، منشورات المكتبة الحيدرية، 1384 ه".ق، ج 2، ص170 - ابن قتیبة الدینوري، الامامة والسیاسة، ط 3، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، 1382 ه".ق، ج 1، ص67. (3) ابو حنفیة الدينوري، الاخبار الطوال، ط 1، القاهرة، دار احیاء الکتب العربي، (افست انتشارات آفتاب طهران) ص144-145 - ابن اثیر، الکامل في التاریخ، بیروت، دار صادر، ج 3، ص231. (4) نصر بن مزاحم، وقعة صفین، ط 2، قم، منشورات مكتبة بصیرتي، 1382 ه".ق، ص113. (5) ابن ابى الحدید، شرح نهج البلاغة، القاهرة، داراحیأ الکتب العربیة، 1961 م، ج 11، ص25 (الخطبة 200). (6) الطبرسي، الاحتجاج، النجف، المطبعة المرتضویة، ص144-150. (7) الطبرسي، الاحتجاج، النجف، المطبعة المرتضویة، ص156. (8) ابن ابي الحدید، نفس المصدر، ج 5، ص98 - ابن اثیر، الکامل في التاریخ، بیروت، دار صادر، ج 3، ص409 - علي بن عیسى الاربلي، کشف الغمة في معرفة الائمة، تبریز، مکتبة بني هاشم، 1381 ه".ق، ج‏2، ص199 – ابو العباس المبرد، الکامل في اللغة والادب، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1407 ه".ق، ج 2، ص195. (9) التجميع من كتاب: سيرة الأئمة، مهدي بيشوائي، مؤسسة امام صادق (عليه السلام)، قم، 1390ش، الطبعة الثالثة والعشرون، ص93.
2024/03/25

لماذا عرضت السيدة خديجة نفسها على النبي (ص) للزواج به؟
اليوم - العاشر من شهر رمضان - تكتمل حلقة الحُزن في قلب الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله - بموت السيدة المُعظَّمة خديجة - عليها السَّلام - بعد وفاة سيدِنا أبي طالِبٍ - عليه السَّلام -

وهنا أودُّ أن أقف على حَدَثٍ ما،نسبر غوْرَه ونكشف كنهه بعد التأمّل فيه وتحليله، ذلِك هو عرض سيدتنا خديجة - عليها السلام - نفسها على النَّبي الأعظم - صلى الله عليه وآله - للزواج به، هل كان لمُجرَّد الإعجاب بأمانتِهِ أم لأمرٍ آخر؟

دعنا نتصوَّرُ أولاً من هي السيدة خديجة

هي بنت خويلد، وخويلدٌ هذا بطلٌ مغوارٌ وفارسٌ نبيلٌ كان له موقفٌ بطوليٌّ في الدّفاع عن الكعبة.

وهي أغنى قريشٍ نساءً ورجالاً ويُقال إنَّ ثروتها كانت أربعين طشتٍ ذهبا

وكان له خدمٌ يخدمونها 

تُرى، ما الذي يدفع سيدَةً بهذا المستوى الاجتماعيِّ والثروة الهائلة لعرض نفسها على النَّبيّ الأعظم - صلى الله عليه وآله - للزواج به مخالفةً أعراف ذاك المجتمع؟

أما كان الأحرى بها أن تبعث إليه - صلى الله عليه وآله -  سِرَّاً من تثق به ليكون رسولاً للرسول - صلى الله عليه وآله - ليُقدِم هو  على خطبتها أمام النَّاس فيُجنّبها الحرج الذي ستقع فيه لو هي عرّضَت نفسها عليه - صلى الله عليه وآله؟

كأنّي أقرأ أنَّ ذلك تكليفٌ شرعيٌّ خاصٌّ بها أن تتقدَّم هي لخطبته - صلى الله عليه وآله - لتكون وعاءً للسيدة الزهراء - عليها السلام - وزوجاً مباركاً للرسول - صلى الله عليه وآله - تُعينه بما تقدر على شدِّ أزره للقيام بأعباء النبوَّة والنهوض بأثقال الرسالة، خصوصاً وفي بعض الأخبار ما يؤيّد أنَّها كانت تنتظر نبوَّته - صلى الله عليه وآله - ومتى يُبعث إليه.

وتكليفُها هذا كتكليف عبد المطلب - عليه السلام -  في رعايته صغيرا، وتكليف أبي طالِبٍ في حمايته كبيرا، وكانا ينتظران أمر بعثته، إذ كان عبد المطلب - عليه السلام - يقول:إن لولدي هذا شأناً عظيما.

وطفحت أشعار أبي طالب في التصديق برسالته - صلوات الله عليه وآله -

وإذا كانت اليهود تنتظر النبيَّ الموعود فما بالك بالحُنفاء من أولاد إبراهيم - عليه السلام -؟

فليست القضية قضية أمانةٍ في تجارةٍ فحسب، بل الأمر أبعد من ذلك وأخطر، فهي كانت تريد للناس أن يتساءلوا بينهم: ما الصفات التي في "محمد" حتى تتقدَّم لخطبته السيدة خديجة بتلك الصورة؟ فلعلَّهم إذا تساءلوا يصلوا الحقيقة والله يهدي سواء السبيل.

فهي دعاية لرسالته بصورةٍ مبكرة. صلى الله عليه وآله.

ومن كانت تنتظر الرسالة بهذه اللهفة، وتترقَّب البَعثة بهذا الشعور كيف يُتوقَّع منها أن تتزوَّج برجلٍ قبل رسول الله - صلى الله عليه وآله-؟

حاشا للرَّحم الذي سيكون وعاءً للمعصومة من الرّجس أن تنجّسه الجاهلية بأنجاسها وتُلبسه من ملهمَّات ثيابها.

فزواج خديجة بالرسول - صلى الله عليه وآله - كزواج الزهراء بأمير المؤمنين - عليهما السلام،

فكما حبس الرسول فاطمة - صلى الله عليهما وآلهما - عن أبي بكرٍ وعمر حتى تتزوج بأمير المؤمنين عليه السلام

حبست السيدة خديجة نفسها عن كلِّ رجلٍ حتى تتزوَّج بالرسول - صلى الله عليه وآله.

وفي خطبة سيدنا أبي طالِبٍ عليها السلام يوم جاء يطلب يدها للنبيّ - صلى الله عليه وآله - وما فيها من ذكر خصاله ما يُنبي أنَّها خصال النبوَّة وليست خصال رجلٍ من سائر النَّاس،  فانظر قوله" إِنَّ ابْنَ أَخِي هَذَا  مِمَّنْ لَا يُوزَنُ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رَجَحَ بِه،

 ولَا يُقَاسُ بِه رَجُلٌ إِلَّا عَظُمَ عَنْه،

 ولَا عِدْلَ لَه فِي الْخَلْقِ.."

أرأيت؟ ولا عِدل له في الخلق، وليس في قريشٍ فحسب.

 وإصرارها على جعل مهره من مالها دلالة على أنَّ أموالي في خدمتك - يا رسول الله - قبل أن أكون زوجتَك!

لم يتزوَّج رسول الله - صلى الله عليه وآله - بامرأةٍ ما دامت خديجة - عليها السلام - على قيد الحياة، ولمَّا أغمضت عينيها كان ذلك ساعة حزنه التي لازمته حتى أغمض عينيه - صلى الله عليه وآله -

وكان قد نزل في قبرها، ولم يُصلِّ عليها فلم تكن صلاة الميت قد شُرِّعت آنذاك.

وكان يُحبُّ خديجة حتى ما يُراعي مشاعر عائشة وهي تلومه على إكرام صديقاتها بعد موتها - عليها السَّلام - 

ويكفيها عظمةً أنها من سيدات نساء أهل الجنَّة، ووعاء العصمة الذي تفرَّع في ربيعه اثنا عشر غصناً ليس لهم في العالمين مثيل.

2024/03/21

هل كانت السيدة خديجة متزوّجة قبل زواجها من النبي (ص)؟
بالنسبة الى زواجها قبل النّبي ( صلى اللّه عليه و آله ) فهناك قولان، أصحّهما انها لم تتزوّج أحداً قبل النبي (صلى اللّه عليه وآله) بل تزوجها و هي عذراء ·

قال ابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب : 1/159): (( وروى أحمد البلاذري, و أبو القاسم الكوفي ­ الاستغاثة : 1/70 ­ في كتابيهما والمرتضى في الشافي, وأبو جعفر (الطوسي) في التلخيص: ان النّبي (صلى اللّه عليه وآله) تزوّج بها, و كانت عذراء)) ·

وأمّا بالنسبة الى بناتها (عليها السلام)، ففيه أقوال، أصحّها إنها لم تلد للنبي (صلى اللّه عليه وآله) من البنات إلا فاطمة (عليها السلام).

وأمّا رقية و زينب وأم كلثوم فهنّ على قول بناتها من زوجها الاول قبل النبي (صلى اللّه عليه وآله)، والصحيح انّهنّ بنات هالة أخت خديجة, تكفّلهنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بعد وفاة هالة وهنّ أطفال.

فرقية تزوّجها عتبة بن أبي لهب, و لمّا بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) امر أبو لهب ابنه بطلاقها, فطلّقها و لحقها منه أذى, فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله) : ( اللّهم سلّط على عتبة كلبا من كلابك ) فتناوله الاسد من بين أصحابه, و تزوّجها بعده عثمان بن عفان.

وزينب تزوّجها أبو العاص ابن الربيع في الجاهلية فولدت له امامة تزوّجها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وماتت زينب بالمدينة لسبع سنين من الهجرة.

وأم كلثوم تزوّجها عثمان بعد أختها رقية و توفيت عنده.

نقلاً عن مركز الأبحاث العقائدية
2024/03/21

السيدة خديجة بنت خويلد.. ماذا تعرف عن حياتها؟
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ‏‏، وكان خويلد من سادة قريش و من أثرياء مكة.


أمها‏‏ هي فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر‏‏.‏‏
من ألقابها عليها السلام: الصدّيقة، المباركة، أمّ المؤمنين، الطاهرة، الراضية، المرضية.
كانت السيدة خديجة (عليها السلام) من خيرة نساء قريش شرفاً ، وأكثرهن مالاً ، وأحسنهن جمالاً ، وكانت تدعى في الجاهلية ب‍ (الطاهرة)، ويقال لها : (سيدة قريش).
وهي أوّل امرأة دخلت الإسلام ، لهذا عدّها الرسول صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله من سابقات النساء إلى الإيمان بقوله : «خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الإيمان باللّه وبمحمّد صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله».
كانت أحبّ نساء النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله إلى نفسه الشريفة وكان يُحسن الثناء عليها دائماً.
هي من النساء الكاملات على لسان المصطفى صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، إذ قال صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله بشأنها : « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : مريم بنت عمران ، آسية بنت مزاحم ، خديجة بنت خويلد ، فاطمة بنت محمّد بن عبد الله ».
وضعت السيدة خديجة عليها السلام كل ثروتها تحت تصرّف النبي في خدمة الإسلام والمسلمين، ووهبت كل ما تملك (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرد على من كانت تقول له إن الله أبدلك بخير منها: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء».
أصح الأقوال أنها عليها السلام كانت باكراً قبل زواجها من النبي، وأنّه لم يدخل عليها أحد قبل النبي قطّ، وممن ذهب إلى هذا القول هم:

الشريف المرتضى علم الهدى، في كتابه «الشافي في الإمامة».

الشيخ الطوسي، في كتاب «تلخيص الشافي».

البلاذري، في كتاب «أنساب الأشراف».

أبو القاسم الكوفي، في كتاب «الاستغاثة في بدع الثلاثة».

حرزها عليها السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، يا الله يا حافظ يا حفيظ يا رقيب.

وهناك حرز آخر لها: بسم الله الرحمن الرحيم، يا حيّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث فأغثني، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، وأصلح لي شأني كلّه.

توفيت في السنة العاشرة من البعثة، على الرواية المشهورة، وكان لها من العمر (65) عاماً، وقارنت وفاتها وفاة أبي طالب، فسمى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك العام بعام الحزن.
دُفنت في مقبرة الحَجُون في مكّة المكرّمة، ونزل رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) في حفرتها.

2024/03/19

من سكن في الأرض قبل آدم (ع)؟!
كما ورد في الروايات المعتبرة المعتمدة عند الفريقين، شيعة وسنة، ولا يسعنا سردها الآن، كان يسكن الأرض، قبل خلق آدم من طين نوعان من المخلوقات، هما: الجن، والنسناس، وقد كان إبليس خليفة الله عليهم جميعاً في الأرض، وقد كان هذا قبل آدم عليه السلام بآلاف مؤلفة من السنين.

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ) أوّل (خَلِيفَةً) عاقل من البشر (قَالُوا) الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) كما فعل الجن والنسناس؟!!.

وهيهنا حسد إبليس آدم؛ لأنّ الله انتزع سلطان الخلافة في الأرض من إبليس لآدم .

مما يدل عليه تقديم الجن على الإنس في كل القرآن؛ كقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا...) وهو صريحٌ، والوجه فيه ما قلناه من أنّ الجن سبقوا الإنس في خلافة الأرض.

الجن كائن عاقل مكلف، مخلوق مادياً من نار، وأمّا النسناس، فمخلوق مادياً، من مجموع الطين والنّار، غير عاقل ولا مكلف كالجن والإنسان..

إذ لا ينبغي الشك أنّ النسناس كالنياندرتال، كائنٌ ليس بعاقل كالجن والإنسان، وإنّما هو قبل آدم، مسخّر للجن المكلف العاقل، كما سخر الله لنا الحمار والحصان والجمل للزينة، والكلب والفأرة والخنزير لتطهير الأرض... .

حسبنا قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) جن وإنس فقط، بلا نسناس .

وقوله تعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) جن وإنس فقط، بلا نسناس .

ويمكن أن يقال: الجنّ إذا تجسد بجسد طيني، ألحق بالنسناس؛ كالكلب البهيم، وبعض الأفاعي و...، وهذا لا يسقط عنه التكليف .

وأياً كان فالنسناس مع الإلحاق على أصناف، منهم: الكلب البهيم، ومنهم: السعلية، ومنهم: الغول، ومنهم: المارد، ومنهم: يأجوج ومأجوج، ومنهم التمساح والأفعى الطائرين، ومنهم: الديناصور الذي يخرج من فمه ناراً، وأصناف أخرى لا يسعنا ذكرها هيهنا، وأغلبها (انقرض) أفناها الله بحكمته.

وقد يصنف بعض العلماء، وكما ورد في الأخبار، بعض أصناف النسناس، أنّها من الجن، ولا مشاحة لأنّها مخلوقة من مجموع النّار والطين؛ كقول النبي: (الكلب البهيم من الجن) على الأصل ولا ينافي كونه نسناساً إلحاقاً، إذا تجسد طينياً ..

ومن النسناس: ما يشبه الإنسان كالنياندرتال أو غيره فيما زعموا، وهذا ليس بإنسان بشر وإن تشابها شكلاً، فهما كالثعلب والذئب نوع أحدهما غير نوع الآخر ..

الحفريات، لو ثبتت، فهي تتحدث عن نسناس ليس بعاقل، فشكله وإن كان مشتركاً ما بين القرد والبشر، بيد أنّه ليس ببشر آدمي خالص عاقل تماماً مكلفاً كالإنسان والجن؛ إذ لم يثبت التكليف بنحو الجزم إلّا للجن الخالص والإنس الخالص لا غير .

2024/03/04