يقول اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيدِ: ’’وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ’’ (2).
تختصرُ هذه الآيةُ المباركةُ رؤيةُ الإسلامِ فيما هي طبيعةُ العلاقةِ بينَ الإنسانِ وربِّه وبين الإنسانِ والإنسانِ، فالعلاقةُ بينَ الإنسانِ وبينَ اللهِ تعالى هي علاقةُ العبوديَّةِ، فكلُّ بني الإنسانِ على اختلافِ أقدارِهم ومواقعِهم وصفاتِهم وملكاتِهم وأعراقِهم فهم عبادٌ للهِ تعالى أذعنَوا بذلك أو جحَدوا، فإنَّ ذلك هو واقعُهم بحسبِ الرؤيةِ الإسلاميَّةِ. وحيثُ إنَّ العلاقةَ بين الإنسانِ وبين اللهِ تعالى هي علاقةُ العبوديَّةِ فإنَّ ذلك يقتضي انضباطَ الإنسانِ في اطارِ إرادةِ المعبودِ، فليس له أنْ يُحكِّمَ إرادتَه في مقابلِ إرادةِ اللهِ تعالى، وليس له أنْ يتمرَّدَ على إرادةِ اللهِ تعالى أو يتجاوزَ حدودَه، فهو عبدٌ للهِ تعالى، والعبدُ خاضعٌ لإرادةِ معبودِه، تلك هي رؤيةُ الإسلامِ فيما يتَّصلُ بطبيعةِ العلاقةِ بينَ اللهِ وبين الإنسانِ، فإلإنسانُ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى عبدٌ وليس حُرَّاً.
الإسلام: الإنسان عبد
وأما رؤيةُ الإسلامِ فيما هي طبيعةُ العلاقةِ بينَ الإنسانِ والإنسانِ فهي المساواةُ المقتضيةُ للحريَّة، فإلانسانُ بالإضافةِ للإنسانِ حرٌّ في أنْ يأتمرَ بأمرِه أو لا يأتمرُ أو أنْ ينتهيَ عند نهيهِه أو لا ينتهي، وهو حرٌّ بأنْ يقبلَ برأيِه أو لا يقبلُه، فلا طاعةَ لأحدٍ على أحدِ، وليس لأحدٍ أن يسلبَ غيرَه إرادتَه واختيارَه، وليس له تسخيرُه وإرغامُه على فعلِ ما لا يُريدُ. تلك هي رؤيةُ الإسلامِ في طبيعةِ العلاقةِ بين الإنسانِ والإنسانِ.
إذن فالإنسانُ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى عبدٌ محضٌ، والإنسانُ بالإضافةِ إلى الإنسانِ حُرٌّ محضٌ. وأما لزومُ طاعةِ الرسولِ (ص) فلأنَّ اللهَ تعالى قد أمرَ بطاعتِه، فطاعتُه تَرجعُ في المآلِ إلى طاعةِ اللهِ، قال اللهُ تعالى: ’’مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ’’(3) وكذلك فإنَّ طاعةَ الإمامِ المعصومِ (ع) إنَّما صارتْ لازمةً لأنَّ اللهَ تعالى قد أمرَ بطاعتِه، فطاعتُه ترجعُ في المآلِ إلى طاعةِ اللهِ قال تعالى: ’’يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ’’(4) فالطاعةُ الثابتةُ للرسولِ (ص) وللإمامِ (ع) تبعيةٌ وليستْ ذاتيَّة، فالطاعةُ الذاتيَّةُ متمحِّضةٌ للهِ جلَّ وعلا، فهو المعبودُ الذي لا طاعةَ لسواه. تلك هي الرؤيةُ الإسلاميَّةُ فيما يتَّصلُ بعلاقةِ الإنسانِ بالله وفيما يتَّصلُ بعلاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ، فالإنسانُ بالإضافةِ للهِ عبدٌ محضٌ، والإنسانُ بالإضافةِ إلى الإنسانِ حُرٌّ محضٌ.
الليبرالية: الإنسان حر!
وأما الرؤيةُ الليبراليَّةُ فهي تقومُ على أساسِ انَّ الإنسانَ حُرٌّ مطلقٌ حتى بالإضافةِ للهِ تعالى، لذلك فهي إذن على طرفِ نقيضٍ مع الرؤيةِ الإسلاميَّةِ، فإلاسلامُ يقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ عبدٌ لله، والليبراليَّةُ تقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ حُرٌّ حتى بالإضافةِ للهِ، فله أنْ يعبدَه وله أنْ لا يعبدَه، وله أن يمتثلَ لبعضِ أوامرِه ويتنكَّرُ للبعضِ الآخر بل له أن ينقضَها ويردُّ عليها ويتبنَّى عدمَ صوابيتِها، فهو حرٌّ فيما يتبنَّاه ويعتقدُ به، وحُرٌّ فيما يعملُ.
ولذلك ورد في الموسوعةِ الأمريكيَّة الأكاديميَّة ما هذا نصُه: ((إنَّ النظامَ الليبرالي الجديدِ (الذي ارتسم في فكرِ عصرِ التنويرِ) بدأ يضعُ الإنسانَ بدلاً من الإلهِ في وسطِ الأشياءِ، فالناسُ بعقولِهم المفكِّرةِ يمكنُهم أنْ يفهموا كلَّ شيءٍ، ويُمكنُهم أن يُطوِّروا أنفسَهم ومجتمعاتِهم عبرَ فعلٍ نظامي وعقلاني).
فالرؤيةُ الليبراليَّة وإنْ اختلفتْ في بعضِ تفاصيلِها وصورِها وتشعَّبت مذاهبُها وأضفى عليها الزمنُ العديدَ من التعديلاتِ والإصلاحاتِ لكنَّها بمختلفِ مذاهبِها وصورِها تشتركُ في أساسٍ واحدٍ تقومُ عليه كلُّ المذاهبِ الليبراليَّةِ وبه تتميَّزُ الليبراليَّة عمَّا عداها من الأُطرِ والنظمِ الفكريَّةِ والإجتماعيَّةِ والسياسيَّةِ والاقتصادية، هذا الأساسُ وهذه القاعدةُ التي تقومُ عليها الرؤيةُ الليبراليَّةُ هو استقلالُ الإنسانِ بالإضافةِ لكلِّ شيءٍ، فهو مستقلٌ حتى بالإضافةِ للهِ وللدينِ، فهو غيرُ مُلزمٍ بالإيمانِ باللهِ تعالى، ولو آمنَ باللهِ فهو غيرُ مُلزَمٍ بالتقيُّدِ بدينِ اللهِ، ولو قبل بدينِ اللهِ فهو غيرُ ملزَمٍ بأنْ يلتزمَ بأحكامِ اللهِ سواءً المتَّصلَ منها بالشأنِ العامِّ أو المتَّصلَ منها بالأحوالِ الشخصيَّةِ أو المتَّصلَ منها بالسلوكِ الخاصِّ، وهذا هو ما يعبرُ عنه عندَهم بالحريَّةِ الفرديَّةِ المطلقةِ، فمحورُ الوجودِ هو الفردُ بصيغتِه الشخصيَّةِ، وعلاقتُه باللهِ وبالكونِ وبسائرِ أفرادِ الإنسانِ هي الحريَّةِ والإستقلالِ المطلقِ، تلك هي البنيةُ التحيَّةُ للفكرِ الليبرالي.
ومن ذلك يتَّضحُ انَّ الليبراليَّةَ والإسلامَ على طرفي نقيضٍ، فالإسلامُ يقومُ على أساسِ انَّ الإنسانَ عبدٌ للهِ، والليبراليَّةُ تقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ مستقلٌّ حتى بالإضافةِ لله، فقولُ اللهِ غيرُ مُلزمٍ له، وأحكامُه وأوامرُه وزواجرُه غيرُ مُلزمةٍ له، فلَه أن يتقيَّدَ بها، وله أنْ لا يتقيَّدَ بها وله أن يتقيَّدَ بما يُعجبُه منها ويرفضَ القبولَ بما لا يُعجبُه، فهو حُرٌّ مُستقِلٌّ.
الإسلام لا يتّفق مع الليبرالية
وعليه فدعوى انَّ الإسلامَ يشجِّع على الليبراليَّة خطأٌ فادحٌ نشأَ عن الغفلةِ عن جوهرِ الرؤيةِ الليبراليَّةِ، نعم الليبراليَّةُ تتفِّقُ معنا ولسنا من يَّتفقُ معها، هي تتَّفقُ معنا في عددٍ من النتائجِ المرتبطةِ بطبيعةِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ، وقلتُ: إنَّها تتَّفقُ معنا في النتائجِ لأنَّ المبادئَ التي تنطلقُ منها الرؤيتينِ الإسلاميَّةِ والليبراليَّةِ فيما يتَّصلُ بطبيعةِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ هي أيضاً متباينةٌ في الجملةِ، وقلتُ: إنَّها تتَّفقُ معنا ولسنا من يتَّفقُ معها لأنَّ الرؤيةَ الليبراليَّة إنما تبلورتْ في القرنِ الثامن عشر الميلادي وتبلورتْ أكثر في العقودِ الأولى من القرنِ العشرين، وإذا أردتَ أن تذهبَ بها إلى أقصى تأريخِها فهي إنَّما نشأتْ بوادرُها في القرنِ السادس عشر الميلادي، ولن تجدَ لها من ذكرٍ معتدٍّ به قبل هذا التأريخ، ومعنى ذلك انَّ الليبراليَّة قد وُلدتْ بعد الإسلامِ بما يقربُ من العشرةِ قرونٍ أي بما يَقربُ من الألفِ عام أو يزيدُ.
ونتائجُ الرؤيةِ الليبراليَّةِ التي جاءت موافقةً للرؤيةِ الإسلاميَّةِ هي المساواةُ بين أفرادِ البشرِ المقتضيةِ للحريَّةِ أي انَّها مقتضيةٌ لحريَّةِ الإنسانِ بالإضافةِ إلى الإنسانِ، وهي مقتضيةٌ كذلك للعدالةِ الاجتماعية، وهذه الأصولُ الثلاثةُ هي من أصولِ الإسلام، فليس لأحدٍ أنْ يُزايدَ علينا، على انَّ هذه الأصولَ الثلاثةَ تعتريها الكثيرُ من المحاذيرِ في الرؤيةِ الليبراليَّةِ لسنا بصددِ البيانِ لها فعلاً، وإنَّما نحنُ بصددِ الإشارةِ إلى انَّ الإسلامِ هو مَن أصَّل لهذه الأصولِ الثلاثةِ.
يقولُ اللهُ تعالى: ’’الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ’’(5) فقولُه تعالى: ’’وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ’’ فيه إشارةٌ بيِّنةٌ إلى واحدٍ من أهمِّ الغاياتِ التي بُعثَ النبيُّ الكريمُ (ص) من أجلِ تحقيقِها، فهو قد بُعثَ ليحرِّر البشريَّةَ من الاستعباد بمختلفِ أشكالِه والاستضعاف والاستغلال والابتزاز، فليس لأحدٍ على أحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ، وليس لأحدٍ أنْ يسلُبَ غيرَه إرادتَه واختيارَه، وليس له تسخيرُه وإرغامُه على فعلِ ما لا يُريدُ، وليس له استغلالُ ضعفِه لإجبارِه على قبولِ ما لا يُحبُّ، وليس له أنْ يبتزَّه فيقضيَ حاجتَه مقابلَ أنْ يخضعَ لإملاءاتِه أو يتصاغرَ له، وليس له أنْ يفرضَ سلطانَه على أحدٍ بالقسرِ والغلَبةِ، ذلك هو مؤدَّى قولِه تعالى: ’’وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ’’.
وهو كذلك مؤدَّى كلمةِ التوحيدِ: "لا إله إلا الله"، فلا معبودَ إلا اللهُ تعالى، فليس لأحدٍ على أحدٍ طاعةٌ، وليس لأحدٍ من الناسِ أن يأمرَ فيتعيَّنُ امتثال أمرِه أو ينهى فيتعيَّنُ الوقوفُ عندَ نهيهِ، أو يرى رأياً فلا يكونُ لأحدٍ أنْ يرى ما يُقابلُ رأيَه. فالإنسانُ حرٌّ في مقابلِ الإنسانِ الآخر، ليس مُلزَماً بأوامرِه ولا باعتمادِ رُؤاه.
ويقولُ أميرُ المؤمنينَ (ع) فيما يروى عنه: "أيُّها الناسُ إنَّ آدمَ لم يلدْ عبداً ولا أَمةً، وإنَّ الناسَ كلَّهم أحرارٌ"(6) ويقول أيضاً في المرويِّ عنه: "لا تكنْ عبدَ غيرِك وقد جعلكَ اللهُ حرَّاً"(7).
ويقولُ اللهُ تعالى: ’’يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ’’(8) هذه الآيةُ صريحةٌ في التعبيرِ عن طبيعةِ علاقةِ الناسِ فيما بينهم، فهم جميعاً ذكوراً واناثاً بمختلفِ أعراقِهم وأجناسِهم مخلوقونَ لله تعالى، وقد تعلَّقتْ إرادتُه تعالى لهم أنْ يتعارفوا فيما بينهم وانَّه لا تمايز بين أفرادِهم وأجناسِهم، وإذا كان من تفاضلٍ بينهم فهو في الآخرةِ، وهذا التفاضلُ منشأهُ اختيارُ التقوى.
وهذا المعنى نصَّت عليه الكثيرُ من النصوصِ الواردةِ عن الرسولِ (ص) وأهلِ بيتِه (ع). فمن ذلك قولُ النبيِّ (ص) فيما رويَ عنه -في خطبةِ الوداع-: "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم. ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: فليبلِّغْ الشاهدُ الغائبَ"(9).
وورد عنه (ص) أنَّه قال: "إنَّ الناسَ من عهدِ آدم إلى يومِنا هذا مثلُ أسنانِ المشطِ، لا فضلَ للعربيٍّ على العجمي ولا للأحمرِ على الأسودِ إلا بالتَّقوى"(10).
فهذه النصوصُ -وغيرُها كثيرٌ- صريحةٌ في التصدِّي لتحديدِ طبيعةِ العلاقةِ بين الإنسانِ والإنسانِ وهي المساواةُ، وإذا كانت العلاقةُ بين الناسِ هي المساواةُ، فذلك يقتضى أنْ لا يكونَ لأحدٍ الحقُّ في أنْ يقسُرَ أحداً على طاعتِه، إذ لا فرقَ بينَك وبينَه، فكما انَّه ليس له الحقُّ في أنْ يفرضَ طاعتَه عليك، فكذلك ليس لك الحقُّ في أن تفرضَ طاعتَك عليه ومن ذلك يتولَّدُ ما يُعبَّرُ عنه بالحقِّ في الحريَّةِ، فلأنَّ الإنسانَ مساوٍ للإنسانِ فذلك يقتضي عدمَ استحقاقِ الإنسانِ في أن يمنعِ غيرَه من استصلاحِ أمرِه والانتفاع بما يتهيأُ له الانتفاع به، فكما انَّه ليس له الحقُّ في منعِكَ فإنَّه ليس لك الحقُّ في منعِه، وهذا ما يُعبَّرُ عنه بالحقِّ في تكافؤ الفرصِ، ولأنَّ الإنسانَ مساوٍ للإنسانِ لذلك فإنَّه ليس لأحدٍ منعُ غيرِه من تحكيمِ إرادتِه والإبداءِ لرأيهِ، فكما انَّه ليس له منعكَ من ذلك فكذلك ليس لك منعُه، لأنَّه لا فرقَ بينَك وبينَه، وهذا ما يُعبَّرُ عنه بحقِّ الاختيار وحقِّ التعبيرِ عن الرأي، وهكذا يتولَّدُ عن أصلِ المساواةِ الكثيرُ من الحقوقِ الأساسيَّةِ للإنسان، وحيثُ ثبت انَّ هذه الحقوقَ وشبهَها حقوقٌ للإنسانِ فانتهاكها ظلمٌ ورعايتُها عدلٌ، ومن ذلك يثبتُ للإنسانِ الحقُّ في العدالةِ والإنصافِ.
فيكفي لإثباتِ تأصيلِ الإسلامِ لحقِّ العدالةِ الاجتماعية تأصيلُه للمساواةِ وما يتولَّدُ عنها من حقوقٍ إلا انَّه ورغمَ ذلك تصدَّى الإسلامُ لتأصيلِ هذا الحقِّ أعني العدالةَ الاجتماعية في الكثيرِ من النصوصِ القرآنيَّةِ والنبويَّةِ والواردةِ عن أهلِ البيتِ (ع) بنحوٍ يشقُّ على الإحصاءِ، ويكفينا من ذلك قولُه تعالى: ’’إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ’’(11) وقولِه تعالى: ’’إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا’’(12).
إذن فالحقوقُ التي يفتخرُ دعاةُ الليبراليَّة بتأصيلِها قد سبقَ إليها الإسلامُ بمئاتِ السنين، نعم ثمةَ فرقٌ جوهريٌّ بين الرؤيةِ الإسلاميَّة والرؤيةِ الليبراليَّة فيما يتَّصلُ بحدودِ هذه الحقوقِ، فمثلاً حقُّ الإنسانِ في اعتمادِ أيِّ رأيٍّ يراه وحقُّه في ابداءِ هذا الرأي وحقُّه في سلوكِ مؤدَّى هذا الرأي، هذا الحق من جميعِ زواياه حقٌّ مكفولٌ للإنسانِ في شريعةِ اللهِ تعالى، وليس لأحدٍ من الناسِ -أيَّا كان- مصادرةُ حقَّه في ذلك، إلا انَّ هذا الحقَّ وإنْ كان مطلقاً بالإضافة لسائرِ الناسِ لكنَّه محدودٌ بأوامرِ اللهِ ونواهيه، فللإنسانِ أن يتبنَّى ما يشاءُ وأنْ يفعلَ ما يشاءُ وأنْ يقولَ ما يشاءُ ما لم تكن مشيئتُه فيما يقولُ وما يفعلُ وما يتبنَّي منافيةً لمشيئةِ اللهِ وإرادتِه وشرائعِه، فالإنسانُ بالاضافةِ للهِ عبدٌ لله، فهو ليس حُرَّا بالإضافةِ لله، يقول الله تعالى: ’’وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا’’(13) وهذا هو الفارقُ الجوهريُّ بينَ الإسلامِ والليبراليَّة، فالليبرالية ترى أنَّ الإنسانَ حرٌّ طليقٌ ومستقلٌّ في كلِّ شيءٍ حتى بالإضافةِ لله تعالى وشريعتِه وقيمِ الدين، فله الحقُّ أن يتبنَّى ما يناقضُ دينَ اللهِ، وله الحقُّ أنْ يفعلَ ما حرَّمَه اللهُ، وله الحقُّ أنْ يتركَ ما فرضَه اللهُ تعالى، وله أنْ يتجاوزَ قيمَ الدين، فهو مستقلٌّ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى كما هو مستقلٌّ بالإضافة إلى سائرِ الناس، ولا يحدُّ إرادتَه من شيءٍ كما لا يحدُّ سلوكَه شيءٌ إلا أنْ يترتَّب على سلوكِه ضررٌ شخصيٌّ على الغير، وأما الأضرار العامة فلا تحدُّ حريةَ الإنسانِ بنظرِهم أو بنظرِ أكثرِهم، فمعالجةُ الأضرارِ العامَّة بنظرِهم خاضعة للتوازناتِ والمصالحِ المتبادلةِ وليست خاضعةً للقيم.
وممَّا ذكرناه يتَّضحُ أنَّه ليس لأحدٍ أن يدَّعي لنفسِه أنَّه ليبراليٌّ متديِّن، فإمَّا أنْ تكونَ ليبراليَّاً أو تكونَ متديِّناً فالمنهجانِ على طرفي نقيضٍ، ودعوى امكانيَّةِ التوفيقِ بين المنهجينِ لا تعدو الوهمُ الناشئَ عن الجهلِ بجوهرِ الفرقِ بين المنهجينِ أو الناشئَ عن كيدِ المسوِّقين وإرادتهم التلبيسَ على مَن يجهلُ بحقيقةِ الفرقِ بين المنهجينِ، ولولا محدوديَّةُ الوقتِ لأفضنا الحديثَ حولَ الآثارِ الكارثيَّةِ على الدينِ والقيمِ والاقتصاد والسياسةِ المترتِّبة على اعتمادِ المنهجيَّة الليبراليَّة، فحذارِ من الانخداعِ ببريقِ الشعاراتِ والإيحاءِ بالامتنانِ علينا بهذه الشعاراتِ، نعم لا مانعَ من التعايشِ والتعاونِ اليقِظ مع المعتمدينَ للرؤيةِ الليبراليَّة بل إنَّ مقتضى الخُلقِ والتعقُّلِ هو التعاون اليقظُ لتحقيقِ الأهدافِ المشتركةِ في حدودِ ضوابطِ الدينِ وقيمِه المبتنيةِ على التسامحِ.
الهوامش:
2- سورة الذاريات / 56.
3- سورة النساء / 80.
4- سورة النساء / 59.
5- سورة الأعراف / 157.
6- الكافي -الشيخ الكليني- ج 8 ص 69.
7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 3 ص 51.
8- سورة الحجرات / 13.
9- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف -عبد العظيم المنذري- ج 3 ص 612.
10- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج 12 ص 89.
11- سورة النحل / 90.
12- سورة النساء / 58.
13- سورة الأحزاب / 36.