الاشكالية هنا قبل ان تكون مع الدين, هي اشكالية تناولها الكثيرون من المهتمين لقضايا الانسان, وتتجلى في التساؤل الشائع ( هل الفن للفن ام الفن للمجتمع؟) واذا ما فسر البعض هذا التساؤل بمستوى الخطاب الفني أي ان التعبير الفني يوجه للنخبة المدركة لماهية الفن ودلالاته ام انه ينزل الى مدركات الانسان العادي؟!
فإننا ـ رغم هذا ـ لانعدم تفسيرا تناوله المفكرون, يتعلق فيما إذا كان الفن أداة في خدمة المجتمع ام انه نشاط ينغلق على دوره في تفعيل الجمال وتوظيفه بمعزل عن اية جنبة اخرى؟
ان المنظومة التشريعية الاسلامية تعنى بشكل اساس بالفرد والمجتمع وتحصينهما وعليه فهي تتبنى الاتجاه الداعي الى خدمة المجتمع بالفن, ولاشك أن مسالة الانتصار للموقف الاسلامي بمتبناه ومحاولة البرهنة والقطع بصحة ذلك الموقف وغلبته على الطرف الخصم, يستدعي الخوض في مواضيع عدة وحسمها مثل فلسفة الاخلاق والقيم والاجتماع وغير ذلك, وهذا ما لامجال للخوض فيه ولكنني أنوّه الى نقاط هي:
أـ بعد أن انقسمت الآراء حول ارتباط الفن بالأخلاق الى اتجاهين لكل منهما استدلالاته ومرتكزاته الفكرية فلن يكون من الصحيح أن نعدّ الموقف الاسلامي, وقد تبنى احد ذلكما الاتجاهين, بأنه موقف متزمت ومعيق للنشاط الفني وتفعيله للمنحى الجمالي.
ب ـ عمليتا ممارسة العمل الفني وتلقيه ترتبط بشكل كبير بفلسفة اللذة والالم, فالموقف الاسلامي فيها هو مماشاة لخط في تلك الفلسفة كالذي تبنته المدرسة الابيقورية, رغم موقفها المتزمت من الاديان, في ضرورة تقنين اللذة وتشذيبها للحصول على المزيد من اللذة.
ج ـ الفن هو واحد من مكونات الحضارة, وهو دافع وانعكاس في الوقت نفسه للنمط الحضاري الذي يتخذه المجتمع, وبالتالي فإن الفن المحايد للقيم الاخلاقية والدور الاجتماعي ينتعش في المجتمع المنحل اخلاقيا, كما هو الحال في الحضارة الرومانية التي شهدت حالة من الترف والبذخ أدت بها الى الانحلال الاخلاقي وبالتالي سقوطها, وهذا عين ما بيّنه ابن خلدون في تفسيره لسقوط الحضارات. وعلى ذلك يكون استلهام الغرب في عصر النهضة للفن الاغريقي بمضامينه اللا اخلاقية سبب في انبعاث المناخ المنحل اخلاقيا في اوربا ليكون بعد ذلك سببا في كل المشاكل الصحية والاجتماعية التي نتجت عن الاباحية والانحلال الخلقي, فيمكننا بهذا القول بأن فن الجسد العاري هو عامل حقيقي في ما يعانيه الانسان الاوربي من مرض الايدز مثلا.
د ـ الممارسة الفنية في حد ذاتها لم يمسها الدين بل عمل على تقنين تبعاتها على الصعيد, فالشعر الذي هو من ألصق الانواع الفنية بعصر التشريع, فتركت الشريعة الشاعر وما يريده من اسلوب للتعبير عن لواعج النفس وصولا الى الحب بل حتى الخمر والقبلة ولكن في محتوى من السمو الروحي ومن دون الهبوط الى الابتذال والانحلال واشعار الشريف الرضي شاهد على ذلك, كما منع القصيدة التي تتماشى مع الروح الجاهلية في الثأر والتباغض واثارة الفتن, وهذا بدوره ينجر الى الفنون التشكيلية والدرامية.
هـ ـ التأثير الملحوظ من الفن على الفنان في سلوكه, حيث ينسحب المحتوى الفنى المنغلق على القيمة الجمالية من دون الاخذ بالدور الاجتماعي والقيم الاخلاقية الى سلوك الفنان نفسه, وهذا ما أدى في الواقع الى شيوع حالة من العبثية والبوهيمية ومفارقة الواقع انطلاقا من قناعة في ان هذا السلوك هو جزء من ماهية الفنان نفسه.
وللحديث بقية في الحلقات القادمة..
يتبع...