الإبداع لا يعني الفوضى: حياة ’’المبدعين’’ تكتظ بالروتين!

موقع الأئمة الاثني عشر
زيارات:1367
مشاركة
A+ A A-

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

 "كل الرجال العظماء يشبهون بعضهم البعض. كلهم لا يتوقفون عن العمل".

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

إذا كانت أيامنا مقطوعات موسيقية، فما نفعله فيها سيكون بمنزلة ألحان تلك المقطوعة، ومتى نفعل ما نفعله سيشكل الإيقاع.

في كثير من الأحيان، نجد ذلك الإيقاع مضطربا، فنجلس لساعات دون أن نفعل شيئا مفيدا ما يؤدي إلى نغمة مُسطحة جوفاء، وقبل فوات الأوان بقليل، نسرع لنفعل كل ما كان علينا فعله ونحن نلهث، فينتج عن ذلك إيقاع مشدود في توتر. تأتي لحظة في النهاية لا محالة نشعر عندها بالسأم من كل ذلك الاضطراب، وتستولي علينا الرغبة في أن نبث التناغم في مقطوعات أيامنا من جديد.

لسنا وحدنا من نعاني من ذلك، وإدراكنا لأهمية تنظيم الساعات والمواعيد هو بالتأكيد خطوة في الطريق الصحيح. كثير من المبدعين على مر التاريخ واجهوا تلك المشكلة، ولم يجدوا حلا أفضل من اتباع روتين منضبط والالتزام به لتنساب إيقاعات أيامهم في يسر وتناسق.

تبدو "الروتين"  كلمة باعثة على الملل والرتابة، لكنها إذا ما أُحسن تطبيقها، تعطي كلًّا منا الفرصة كي ينظم مهام يومه بشكل فعال

قد يبدو ذلك مخالفا للصورة الخيالية الراسخة للمبدع أو الفنان ككيان فوضوي يعيش بلا أي لمحة من نظام في حياته. ربما طابقت تلك الصورة حيوات بعض المبدعين، لكنّ عددا ليس بالقليل منهم على الجانب الآخر وجدوا في الروتين المنتظم الوسيلة المثلى لتسيير أيامهم، ومن ثم التفرغ بعدها للعملية الإبداعية الشاقة وإعطاؤها كل ما تحتاج إليه من وقت ومجهود، مرتاحين من عبء تنظيم الوقت في كل يوم من جديد.

وقد تبدو كلمة "الروتين" في حد ذاتها للوهلة الأولى كلمة باعثة على الملل والرتابة، لكنها إذا ما أُحسن تطبيقها، تعطي كلًّا منا الفرصة كي ينظم مهام يومه بشكل فعال، دون أن يغرق في فوضى المهام المتأخرة التي يوقعنا فيها ترك الأمور تسير بلا نظام. وبهذا، قد يقودنا التعرف على الروتين اليومي لبعض من أنبغ العقول لبعض الأفكار حيال ترتيب حيواتنا نحن بشكل فعّال، ويمنحنا نظرة أعمق على حيواتهم في الوقت ذاته.

كما تأتي تلك اللحظة في رواياته التي ينفتح فيها أمام الشخصيات باب سحري لعالم موازٍ ولا تعود حياتهم لما كانت عليه أبدا، جاءت تلك اللحظة للروائي الياباني هاروكي موراكامي في الساعة الواحدة والنصف ظهرا في أول أيام أبريل/نيسان عام 1978. يقول موراكامي عن هذا: "كنت وحدي في ذلك اليوم في ملعب جينجو أشاهد مباراة بيسبول حين باغتتني الفكرة: يجب عليّ أن أكتب رواية. شيء ما هبط عليّ من السماء في ذلك الصباح، وبغض النظر عن ماهيته، تقبلته كما كان".

تغيّرت حياة موراكامي كليا بعد تلك اللحظة؛ فلم يمر وقت طويل بعدها حتى خط روايته الأولى وترك عمله السابق في نادي الجاز الذي كان يمتلكه ويديره، بعد أن أمّن نجاح رواياته دخلا ثابتا جعل من السهل عليه أن يعتمد على الكتابة وحدها كوظيفة أساسية. لكنه منذ أن فعل هذا، وقع في مشكلة كبيرة؛ غرق يومه وجسده في فوضى لا تطاق. يقول موراكامي: "إدارة النادي كانت تطلب مني عملا بدنيا كبيرا، لكن ما إن بدأت أجلس على المكتب وأكتب طوال اليوم حتى بدأ وزني يزيد. كنت أدخن أيضا كثيرا، ستين سيجارة في اليوم. أصابعي صارت صفراء وفاح من جسدي رائحة الدخان؛ لا يمكن أن يكون هذا جيدا". أعاد موراكامي الاتزان لحياته مرة أخرى عبر شيئين: اتباع روتين صارم، والجري كل يوم.

يقول موراكامي عن روتينه اليومي في حواره مع مجلة باريس ريفيو: "وأنا في صدد كتابة رواية، استيقظ في الرابعة صباحا، وأعمل لخمس أو ست ساعات. بعد الظهيرة، أجري عشرة كيلو أو أسبح لكيلو ونصف (أو كليهما معا)، بعدها اقرأ قليلا واستمع للموسيقى حتى التاسعة مساء. أحافظ على ذلك الروتين كل يوم بلا أي تغيير. التكرار في حد ذاته شيء مهم، إنه نوع من التنويم، أقوم بتنويم نفسي لأصل لحالة ذهنية أعمق". 

ويتطلب الحفاظ على ذلك الروتين إلى قوة بدنية بجانب القوة الذهنية، ومن هنا، تأتي أهمية الجري والرياضة: "أحتاج إلى القوة لكي أفتح الباب. في كل مرة أذهب لغرفتي وأجلس على المكتب، يكون عليّ أن أفتح بابا. إنه باب كبير وثقيل يؤدي للغرفة الأخرى، بشكل مجازي بالطبع. عليك أن تصل لجانب معيّن من الغرفة الأخرى، وأن توصد الباب وراءك. لهذا أحتاج إلى قوة بدنية كي أفتح وأوصد الباب. وإذا فقدت قوتي، سأفقد معها قدرتي على تأليف الروايات".

ظلت مجموعة من الأمزجة الظلامية تحيط بالمخرج السويدي إنجمار بيرجمان طوال حياته؛ أمزجة آثر هو أن يطلق عليها اسم "شياطين" خلال كتابته عنها في سيرته الذاتية "المصباح السحري"، وخلال بعض اللقاءات التي أجراها، صنع بيرجمان قائمة منها في أحد آخر لقاءاته وتضمنت: شيطان تخيل كل شيء يتحول لكارثة، شيطان الخوف، شيطان الغضب، شيطان الدقة والنظام المفرطين، شيطان الضغينة. دائما ما وجدت تلك الشياطين طريقها لأفلامه، صابغة عالم شخصياته وأرواحهم بسوداويتها وبما تخلّفه من اضطراب وفوضى وقلق.

ربما كان بث بيرجمان لتلك الشياطين داخل أفلامه محاولة شخصية منه للخلاص منها ولو إلى حين، محاولة لكي يرسم خطا فاصلا بينه وبينها ويجعلها تسكن حيّزا غير ذلك الذي يسكنه في حياته اليومية. لكن في إثر صدمة نفسية حادة تعرض لها، اختلت الحواجز بعنف وتماهت الخطوط ليجد الشياطين تعبر إليه من جديد. يقول بيرجمان: "كان موقفي من الحياة يفترض وجود سيطرة مستمرة ولائقة على علاقتي بالواقع والتخيلات والأحلام. وعندما كانت تتعطل هذه السيطرة، وهو أمر لم يحدث لي حتى في طفولتي المبكرة، كانت أنظمتي تصاب بالخلل وتتعرض هويتي للخطر، واسمع صوت أنيني ككلب جريح". 

وقد وجد بيرجمان في الروتين المنظّم والصارم حينها لأيامه شبكة أمان حمته من الانجراف أكثر وأكثر في أعماق ظلامية، بعد عدّة أسابيع قضاها في المشفى إثر إصابته بانهيار عصبي، يقول بيرجمان: "شننت هجوما على الشيطان بداخلي بواسطة نهج أثبت فعاليته خلال أزمات سابقة. وكان هذا النهج يقوم على تقسيم أيامي ولياليّ لوحدات زمنية تتضمن كل واحدة منها نشاطات معدّة سلفا تتخللها فترات من الراحة. وقد استطعت من خلال اتباع هذا البرنامج بصرامة أن أحافظ على سلامة عقلي من عذابات مؤلمة. باختصار، فقد عدت لتخطيط حياتي وممارستها بعناية فائقة". 

لم تتوقف أهمية التخطيط عند أوقات الأزمات النفسية فقط، فقد كان له أهمية قصوى في مهنة بيرجمان الشاقة كصانع أفلام؛ يقول بيرجمان في أحد الحوارات: "أتعلم ما صناعة الأفلام؟ إنها ثماني ساعات من العمل الشاق في كل يوم لتحصل في النهاية على ثلاث دقائق من الفيلم. وخلال تلك الساعات الثمانية، ربما تأتي عشر دقائق أو اثنتي عشرة دقيقة من الإبداع الحقيقي إن حالفك الحظ، ومن الممكن ألا تأتي. حينها، سيكون عليك تهيئة نفسك لثماني ساعات أخرى وأنت تدعو أن تحصل على عشر دقائق جيدة هذه المرة".

وفي تلك الشهور الشاقة التي كان بيرجمان يعمل خلالها على فيلم جديد، كان يتبع روتينا يتكوّن وفقا لكتاب "طقوس يومية" من الآتي: "كان بيرجمان يكتب السيناريوهات في جزيرة فارو النائية، وهناك، ظل يتبع الجدول نفسه لعقود: يستيقظ في التاسعة صباحا، ويظل يكتب من التاسعة حتى الظهيرة، وبعدها يتناول الطعام. وبعد الغداء، كان يعود للعمل مرة أخرى من الواحدة حتى الثالثة عصرا، ثم ينام لساعة. وفي فترة بعد الظهيرة، كان يأخذ العبّارة لجزيرة مجاورة كي يشتري الصحف ويتلقى البريد. أما في المساء، فكان يلقى الأصدقاء، أو يعرض فيلما من مجموعته الضخمة، أو يشاهد التلفاز".

وقد كان عبر هذا العمل الشاق والدائم أن وجد بيرجمان شيئا من السكينة بعيدا عن شياطينه المُعذِّبة: "ظللت أعمل على طول حياتي طوال الوقت. الأمر يشبه فيضانا يعبر أرض روحك؛ إنه جيد لأنه يأخذ معه الكثير، ويقوم بغسلك. لو لم أكن أعمل طوال الوقت لصرت مجنونا".

على العكس من موراكامي وبيرجمان اللذين وجدا في ساعات الصباح الأولى الوقت الأمثل للإبداع، كان الأديب التشيكي فرانتس كافكا يكتب حصرا في الليل. دفعته إلى ذلك ساعات عمل وظيفته الصباحية كموظف في شركة تأمينات التي كانت تأكل معظم ساعات اليوم، ولا تترك له مساحة زمنية للكتابة سوى في ساعات الليل. فكان كافكا يقضي يومه، وفقا لأحد خطاباته لخطيبته فيليس بوير، كالآتي: "من الثامنة وحتى الثانية أو الثانية والنصف في المكتب، ثم أتناول الغداء في الثالثة أو الثالثة والنصف، بعدها أقضي الوقت في محاولات أن أنام حتى السابعة والنصف، وبعد أن أستيقظ ألعب رياضة لعشر دقائق في الهواء الطلق، ثم أسير لساعة وحيدا أو مع صديقي ماكس برود. بعدها أتناول طعام العشاء مع عائلتي، ومن العاشرة والنصف وحتى الواحدة أو الثانية أو الثالثة أو حتى السادسة صباحا، على حسب طاقتي، أكتب".

ليس كافكا الوحيد الذي دفعته الوظيفة للكتابة ليلا، فأدباء كثيرون مثل تينيسي ويليامز الذي كان يعمل في شركة أحذية ودي إتش لورانس الذي كان يعمل في بنك اضطروا أيضا للكتابة في الليل، لكن ربما لم تترك الكتابة الليلية أثرا في إبداعات أحد مثلما فعلت في كتابات كافكا، فقد صحب تلك الكتابة دائما الأرق الذي وصفه الباحث الإيطالي أنطونيو بيرسياسنتي بوقود كافكا للإبداع. 

فمن يقرأ لكافكا سيأتيه غالبا إيحاء أن كتاباته تلك ليست سوى كوابيس واتته في يقظته الأرِقة ووجدت طريقها للورق متحولة على يده لروايات وقصص. هنالك دائما عنصر كابوسي فيها، فيستيقظ جريجور سامسا في أشهر رواياته، "التحول"، ليجد نفسه قد تحول فجأة لحشرة عملاقة، وفي صباح أحد الأيام، يغزو رجلان مبعوثان من محكمة مجهولة بيت جوزيف ك. في رواية "المحاكمة"، ليلقيا القبض عليه لاقترافه جريمة يبقى حتى آخر صفحات الرواية لا يعرف ماهيتها.

تحدث كافكا نفسه عن تأثير الأرق في كتابته، وعن كونه أثناء هذا الحرمان من النوم يستطيع الوصول لأفكار تبقى عصية عليه في أي حالة أخرى: "يا للسهولة التي يمكن لكل شيء أن يقال بها، كأنها نار عظيمة أعدت للمخابئ التي تخرج منها أكثر الأفكار غرابة قبل أن تعود إلى الاختفاء فيها ثانية. كل ما أملكه هو قوى معينة، تستحيل أدبا، على عمق لا يمكن بلوغه في الظروف العادية". وفي سياق متصل قال لصديقه المقرّب ماكس برود ذات مرة: "ربما كان هنالك أنواع أخرى من الكتابة، لكنّي لا أعرف سوى هذا النوع الذي يبقيني فيه خوفي من النوم يقظا". 

تجاوز الأرق والنوم معانيهما عند كافكا ليصيرا مفاتيح لعوالم أخرى ومجازات عن أشياء أعمق. فقد وصف كافكا النوم بكونه: "أكثر المخلوقات براءة، والرجل اليقظ أكثرها إثما". وفي ساعات اليقظة تلك، كان أرق كافكا في الليلة السابقة يضفي على الأغراض المنتمية للعالم الواقعي طابعا كابوسيا مخيفا، فيقول في أحد خطاباته لفيليس بوير عن مكتبه في العمل: "في أحد الممرات حيث أسير دائما لأصل لآلتي الكاتبة، كان هنالك عربة تشبه النعش لنقل الملفات والأوراق. وفي كل مرة كنت أعبر بجانبها، كنت أحس وكأنها صُنعت من أجلي، تقبع هنالك في انتظاري". 

المصدر: ميدان

مواضيع مختارة