التحرش في الإسلام من المحرمات والكبائر التي نهى عنها الشرع وجعلها من الآثام التي يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة.
ولحماية المجتمع من التحرش وضع الإسلام مجموعة من الأحكام التي تحافظ على عفة المجتمع وطهارته، مثل منع النظر وفرض الحجاب وتحريم الخلوة والاختلاط وكل ما يثير الشهوة والغريزة الجنسية، مضافاً إلى أنه أمر بالزواج ورغب فيه وسهل شروطه، ومن المؤكد أن التحرش مضافاً إلى أنه فعل غير أخلاقي يعد من الجرائم الخطيرة التي تعبث بأمن المجتمع ككل.
ومع أن النصوص الإسلامية نصت على عقوبة الزاني إلا أنها لم تنص على عقوبة جنائية للمتحرش، فمن المعلوم أن الإسلام لم يضع خريطة تفصيلية لكل الجنح الجنائية، فلو نظرنا مثلاً لقوانين العقوبات المعمول بها في عالم اليوم لأدهشتنا كثرة الجرائم التي نصت عليها القوانين، وهي مع ذلك في حالة من التوسع الدائم بحسب تطور الحياة وكثرة المتغيرات فيها، فلا يمكن أن نتوقع أن يضع الإسلام قانون وعقوبة أمام كل مخالفة جنائية، ولبيان فلسفة ذلك لابد من توضيح بعض الأمور التي لها علاقة برؤية الإسلام الكلية، فغياب هذه الرؤية يمنعنا من فهم المسار الذي أراده الله للإنسان.
فمن المؤكد أن الإسلام في غايته النهائية يستهدف بناء مجتمع يتمتع بالطهارة والعفة، وللوصول إلى ذلك يعمل على تهيئة الإنسان روحياً ونفسياً ليكون هو المسؤول عن بناء ذلك المجتمع، فمسؤولية الإسلام كرسالة هي تهيئة الإنسان في المجال الفكري والعقائدي، وفي المجال الروحي والأخلاقي، وفي المجال النفسي والسلوكي، ثم بعد ذلك يصبح الإنسان هو المسؤول عن بناء حضارة إنسانية قوامها قيم الحق والفضيلة، وإذا صح لنا المثال يمكننا أن نقول إن مهمة المدرب الرياضي هي العمل على تدريب الفريق وتهيئته لأخذ البطولة، أما تحقيق البطولة في الواقع فهي مسؤولية الفريق داخل ميدان المنافسة، ومن الطبيعي أن يلتزم اللاعب بالخطة العامة للمدرب إلا أن ذلك لا يمنعه من المناورة داخل الملعب بحسب ظروف اللعب وبحسب مهاراته الشخصية، فهناك ثوابت في أي خطة وهناك مساحات فارغة لها علاقة بالمتغيرات الميدانية يجب على اللاعب استدراكها.
ويبدو أن حال الإنسان في الحياة شبيه بحال اللاعب في الميدان، فبين ثوابت الحياة ومتغيراتها يؤدي الإنسان وظيفته الوجودية، فهو بحاجة إلى الخطة التي تضعه على المسار الصحيح ومن ثم استثمار إمكاناته وقدراته الخاصة، فقد خلق الله الإنسان بالكيفية التي تمكنه من معرفة الحق والسير على وفقه، فهو ليس بحاجة إلى أكثر من تذكيره بالحقائق وتنبيه من المخاطر، ومن هنا كان القرآن الكريم كتاب للتذكير، قال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، وبذلك يمكن تلخيص مهمة الإسلام في هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم، ومن ثم تعزيز عوامل قوته ومعالجة عوامل ضعفه، وبعدها يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام مسؤوليته في الحياة، والله من وراء ذلك شاهد ورغيب، فضمير الإنسان ووجدانه يكون بمثابة الحكم الذي يراقب مسيره وتصرفاته، فليس في الإسلام سلطة تنفيذية أو شرط تلاحق الإنسان لتنفيذ ما عليه من مسؤوليات، فجزاء الإنسان وحسابه ليس في عالم الدنيا وإنما هو في يوم القيامة، وفي ذلك اليوم تبلى السرائر وتنكشف الحقائق، ومن هنا كانت الحدود العقابية في الإسلام محدودة، وفيها من الشروط ما يتعذر معها في العادة اقامتها.
فقد حصرت الشريعة الحدود في سبعة وهي (حد السرقة، والزنا، والقذف، وشرب المسكر، والبغي، والردة، والحرابة والفساد في الأرض) ولو نظرنا لهذه العقوبات لوجدنا أنها من المفترض ألا تحدث في المجتمع الإيماني الذي أراد الإسلام اقامته، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) فإذا كان المجتمع الإيماني ينفر من الجهل والجاهلون كيف نتصور فيه حدوث السرقة والزنا وشرب المسكر والبغي والردة والفساد في الأرض؟ وإذا كان المجتمع الإيماني لا يشهد الزور ويتعفف عن مجالس اللغو كيف يمكن أن تصدر منه مثل تلك الأفعال؟ قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)
وعليه وضعت تلك الحدود لكونها تمثل جرائم كبيرة تهدد صفاء المجتمع الإيماني، ومع ذلك نجد أن الإسلام يتحرز كثيراً في أثبات وقوع تلك الجرائم، فشرط لأثباتها شروط تكاد تكون مستحيلة، فمع أنه يستهدف حماية المجتمع من مثل تلك الجرائم إلا أنه في نفس الوقت لا يجبره وإنما يريد منه أن يرتقي إلى مستوى يطهر فيها ذاته بذاته، فعندما يستشعر الجميع قيمة الصلاح والإصلاح ستكون حركة الجميع بقناعة وإيمان حقيقي.
ولم يفوض الله عموم المجتمع لإقامة تلك الحدود وإنما جعلها خاصة لمن يمثل إرادة الله بشكل مباشر سواء كان رسول أو أمام معصوم، ومع غياب الإمام وغياب المجتمع المثالي الذي دعاء له الإسلام لا توجد جهة تمتلك حق تنفيذ هذه الحدود.
وعليه فالإنسان في نظر القرآن كائن عاقل بإمكانه التمييز بين ما فيه صلاحه وما فيه فساده، ولذا تكرر تذكير القرآن للإنسان بالعقل وبضرورة التعقل، وعندما يصبح الإنسان عاقلاً لا يحتاج لأن تسن له القوانين العقابية، وما يقع في الحياة من أخطاء وجنح جنائية بإمكان العقلاء تقدير ما يناسبها من عقوبة، فمثلاً البيت الذي يربي فيه الأب الأبناء على قيم الحق والفضيلة ويرشدهم إلى طريق الخير والصلاح لا يحتاج أن يضع فيه سلسلة من القوانين العقابية وإنما يجعل ذلك رهين الظروف، والإسلام ربى الإنسان وحمله مسؤولية تقدير القوانين العقابية للمخالفات الجنائية، فالإسلام لم يصادر عقل الإنسان وقدراته على عمل ما هو مناسب لحياته، وإنما وضع له الخطة العامة والاتجاه الذي يجب أن يلتزم به.
وعليه وضع القوانين العقابية من مسؤوليات المجتمع من غير أن يكون فيها ظلم أو تعدي، فمن حق العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص التوافق على الأنظمة التي تحافظ على حياتهم آمنة ومستقرة.
وفي المحصلة؛ الإسلام في المبدأ لا يعارض القوانين الوضعية فيما يتعلق بالجنح والجنايات، وعلى الفقهاء المجتهدين أو حتى أهل الخبرة من علماء القانون والمجتمع أن يتوافقوا على وضع العقوبة المناسبة للتحرش، وقد تختلف هذه العقوبة من مجتمع لمجتمع آخر بحسب ما يراه المشرع.