الأسرة والتحدّيات.. لماذا القلق؟
د. مها جرجيس
تحتل قضايا الأسرة النصيب الأكبر في موضوعات الدراسات التربوية، والاجتماعية، والإعلامية، بل وحتى السياسية.
وتتفق أغلب هذه الدراسات على أن الأسرة المعاصرة تواجه أنماطاً جديدة من التحديات لم تعرفها حقبة ما قبل العولمة، وربما لم تكن حتى في البال ولا في الحسبان.
وحين نقول إن هذه التحديات هي أنماط جديدة فذلك يعني أن لها خصائص ذات طبيعة مختلفة، لا تشبه تحديات التربية والتعليم والحياة قبل عشرين عاما.
وكما تختلف طبيعة هذه التحديات التي ظهرت مع العولمة عن جميع التحديات التي سبقت تلك الحقبة الزمنية فإنها على الرغم من ذلك تشترك في عدد من الخصائص التي لا يمكن إغفالها وأبرزها ما يلي:
- إن هذه التحديات تشكل ظاهرة عالمية لا تختص بمكان دون آخر، فرياح العولمة هبت على كافة الأسر في أقطار العالم، ولا يكاد يسلم منها أحد، إلا من كان يعيش في عزلة تامة عن التقنية، أو فقد الاتصال بالعالم من حوله عبر أجهزة التكنولوجيا الحديثة.
- إنها ليست مجرد تحديات بل سيطرة وتحكُّم، وليست من جبهة واحدة، بل من جهات عدة، يصعب مقاومتها جميعاً؛ فتحديات العولمة لا يؤثر فيها طرف واحد، بل أطراف متعددة لكن هذه الأطراف الفاعلة كلها تشترك في صفة واحدة رغم اختلافها جغرافياً وأيدلوجياً، وهي صفة الهيمنة والقوة.
- تتصف هذه التحديات بالقوة والضغط الاجتماعي؛ وذلك لعموميتها وينطبق عليها ما ذكره عالم الاجتماع دوركايم، من خصائص الظاهرة الاجتماعية وأهمها (القهر الخارجي) أي أنها تفرض نفسها بقوة الانتشار، وتمارس الضغط الاجتماعي، أي أن من يمانعها أو يتأخر عنها يتعرض إلى نوع من العزلة والاغتراب، ويعاني في سبيل الابتعاد عنها من بعض الصعوبات، مما يعني أنها تتطلب تبعاً لذلك حلولاً جماعية، ولا يكفي فيها الحلول الجزئية، وإن ساهمت في التخفيف من آثارها.
تتسم هذه التحديات بالتغير وسرعة الحركة والتطور وعدم الثبات، وذلك كله ناتج عن طبيعة وتيرة التغيرات السريعة التي تشكّل سمةً رئيسة في الحياة المعاصرة.
- وهكذا فإن هذه الخصائص الثلاث: (العمومية، القوة، التغير) تجعل من هذه التحديات المعاصرة للأسرة ظاهرة معقدة ومتشابكة، تستدعي المعالجة بقدر يتناسب مع هذه الخصائص.
وأختم هذه الخصائص بأثر من آثار العولمة المعاصرة أصبح يشكل تحدياً في ذاته، وهو الاعتياد والاستسلام، فكثير من تحديات العولمة أصبح واقعاً مفروضاً على الأسر قد لا يمكن تغييره لدى البعض، مما يجعل الخطوة الأولى في مقاومتها وحماية الأسرة منها تقبع في الخلف، بينما يحتاج المصلحون إلى تغيير نظرة وطريقة التفكير حولها قبل الدعوة إلى مقاومتها والحدّ من أضرارها؛ فمن منا اليوم يستطيع السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تتوالد أشكالها وبرامجها عاماً بعد عام، سناب تشات، وتيك توك، وكلوب هاوس، وهلم جرا ..
ومن منا يستطيع التحكم في محتويات الألعاب الالكترونية، أو في ما يصاحبها من الدردشات الصوتية، والمكتوبة، والتجمعات والتواصل بكل أشكاله؟
ولا أبالغ إن قلت: إن حالةً عالمية من القلق تسود الأسر على اختلاف الأديان والأعراق، وأن التحديات المعاصرة ذات مؤشر خطير؛ فهي تضع محو الهوية، والدين، والأخلاق في أولوياتها، والعالم المتنوع بدأ يتحدث عن غزو الإلحاد والشذوذ للأجيال المعاصرة بشكل لم يسبق له مثيل، والذي حدث بعد سنوات من التطبيع، والتمرير، والرسائل الخفية والمبطنة في الأفلام، والأقلام، والانفتاح التواصلي الكبير!
إن ما مضى كله ليس دعوة للمزيد من القلق، بل دعوة للوقوف والتقاط الأنفاس من وراء هذا اللهاث، ونداءٌ عام لتعاون المربين مع الجهات الحكومية وغير الحكومية لنشر الوعي وإنقاذ الدور التربوي للأسرة وإعادته إلى نصابه الفطري والشرعي والاجتماعي الصحيح، وهو ما يمكن الحديث عنه تفصيلاً في مقال لاحق بحول الله.